أكل الولي من مال اليتيم
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : ملك ذلك .
وفيه أمران :
الأمر الأول : أن يكون الولي غنياً .
إذا كان الولي غنياً ، فاختلف أهل العلم في ملكه للأكل من مال اليتيم على قولين :
القول الأول : أنه لا يملك الأكل من مال اليتيم .
وهذا قول جمهور أهل العلم ( ).
واستثنى الحنابلة رحمهم اللَّه ما إذا فرضه الحاكم للغني ، فيجوز بلا خلاف عندهم ( ).
وحجته :
1 – قولـه تعالى : ومن كان غنياً فليستعفف ، ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف ( ).
فالآية صريحة في عدم ملكية الولي الأكل من مال اليتيم .
وقد ورد عن عائشة رضي اللَّه عنها أنها قالت : " ومن كان غنياً فليستعفف ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف أنزلت في والي اليتيم الذي يقيم عليه ، ويصلح في ماله إن كان فقيراً أكل منه بالمعروف " ( ).
ونوقش : الاستدلال بهذه الآية : بأنها محمولة على الاستحباب( ).
وأجيب : بأن الأصل في الأمر الوجوب ، وصرف ( ) الأمر إلى الاستحباب يحتاج إلى دليل، ولا دليل هنا.
ورد : بوجود الدليل وهو قوله تعالى في الآية : ومن كان فقيراً فليستعفف إذ لا يجب على الفقير أن يأكل.
2 - قول عمر رضي اللَّه عنه : " ألا إني أنزلت نفسي من مال اللَّه منزلة الولي من مال اليتيم إن استغنيت استعففت ، وإن افتقرت أكلت بالمعروف"( ). وعمر رضي اللَّه عنه لـه سنة متبعة.
3 – ما روي عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما في قوله تعالى : ومن كان غنياً فليستعفف ... قال : " بغناه ، ولا يأكل مال اليتيم، ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف قال : يقوت على نفسه حتى لا يحتاج إلى مال اليتيم " ( ).
وقول الحنابلة رحمهم اللَّه إذا فرضه الحاكم للغني جاز ظاهر ، إذ إن حكم الحاكم يرفع الخلاف .
القول الثاني : أنه يجوز للغني الأكل .
وهو وجه عند الشافعية ( )، ورواية عن الإمام أحمد ، وبه قال ابن عقيل( ).
وحجته :
1 – القياس على عامل الزكاة ، فله الأخذ مع غناه ( ).
ونوقش : بأنه قياس فاسد الاعتبار لمخالفته صريح النص.
2 – أنه يجوز للغني أن يأكل من بيت المال ، فكذلك يجوز للوصي إن كان غنياً أن يأكل من مال اليتيم ( ) .
ونوقش من وجهين :
الأول : أن قول عمر: "أنا كولي اليتيم ..." ( )، دليل على أن الخليفة ليس كالوصي، ولكن عمر بورعه جعل نفسه كالوصي.
الثاني : أن الذي يأكله الخلفاء والولاة والفقهاء ليس بأجرة، وإنما هو حق جعله اللَّه لهم، وإلا فالذي يفعلونه فرض عليهم ، وكيف تجب لهم الأجرة، وهو فرض عليهم ؟ ( )
الترجيح :
الراجح – والله أعلم – ما ذهب إليه جمهور أهل العلم، لصراحة الآية في ذلك، وتفسير الصحابة رضي اللَّه عنهم لها بما ذهب إليه جمهور أهل العلم، وتفسير الصحابة حجة يحتكم إليه، ولا يحكم عليه.
الأمر الثاني : أن يكون فقيراً :
إذا كان الولي فقيراً ، فقد اختلف العلماء رحمهم اللَّه في ملكه.
الأكل من مال اليتيم على قولين :
القول الأول : أنه يملك ذلك .
وهو قول الجمهور ، فهو قول للحنفية ، ومذهب المالكية ، والشافعية ، والحنابلة ( ).
وحجته :
1 – قوله تعالى : ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف ( ).
وقد تقدمت آثار الصحابة رضي اللَّه عنهم في ذلك ، وأن الآية نزلت في ولي اليتيم يستعفف إذا كان غنياً ، ويأكل بالمعروف إذا كان فقيراً.
وقد نوقش الاستدلال بهذه الآية من وجوه :
الوجه الأول : أن هذه الآية نسختها الآية التي تليها إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون
سعيراً( )، كما ورد عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما ( ).
وقيل : إن الناسخ قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ( ).
وأجيب عن هذا الوجه بجوابين :
الأول : أن الوارد عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما ضعيف ، وعلى فرض ثبوته، فهو مخالف لما ورد عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما بجواز الأكل للفقير.
الثاني : أنه لا يصار إلى النسخ إلا مع التعارض بين الدليلين وعدم إمكان الجمع، قال ابن العربي: "أما من قال : إنه منسوخ ، فهو بعيد لا أرضاه؛ لأن اللَّه تعالى يقول : فليأكل بالمعروف وهو الجائز الحسن، وقال : إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً فكيف ينسخ الظلم المعروف؟ بل هو تأكيد لـه في التجويز ؛ لأنه خارج عنه مغاير لـه ، وإذا كان المباح غير المحظور لـم يصح دعوى نسخ فيه، وهذا أبين من الإطناب" ( ).
الوجه الثاني : أن المراد بالآية أن يأكل الولي من مال نفسه بالمعروف حتى لا يحتاج إلى مال اليتيم ( ). كما ورد عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما( ).
وأجيب عن هذا الوجه بجوابين :
الأول : أنه مخالف لتفسير غيره من الصحابة رضي اللَّه عنهم للآية( )، ومخالف لما ورد عن ابن عباس نفسه ( )، قال ابن النحاس: "واختلف عن ابن عباس في تفسير الآية اختلافاً كثيراً على أن الأسانيد عنه صحاح" ( ).
الثاني : أنه لو كان هذا معنى الآية ، لما أحتيج إلى ذكره لكونه ظاهراً.
الوجه الثالث : أن المراد بالآية اليتيم إن كان غنياً وسع عليه، وإن كان فقيراً أنفق عليه بقدره ( ).
ونوقش هذا الوجه بما نوقش به الوجه السابق.
وأيضاً كما قال ابن العربي : " إن الخطاب لا يصلح أن يكون لـه؛ لأنه غير مكلف ولا مأمور بشيء " ( ).
2 – حديث عبد اللَّه بن عمرو بن العاص رضي اللَّه عنهما "أن رجلاً أتى النَّبِيّ فقال : إني فقير ليس لي شيء ولي يتيم ، فقال : كل من مال يتيمك غير مسرف ، ولا مبادر ( )، ولا متأثل( )"( ).
ونوقش الاستدلال بهذا الحديث : بأنه محمول على ما إذا عمل الولي في مال اليتيم مضاربة ، فله الأخذ مقدار ربحه ( ).
وأجيب : بأنه تقييد لمطلق الحديث ، ولا دليل على ذلك.
3 – قول عمر رضي اللَّه عنه : " ألا إني أنزلت نفسي من مال اللَّه منزلة الولي من مال اليتيم إن استغنيت استعففت ، وإن افتقرت أكلت بالمعروف"( ).
4 – ما روي عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما أنه قال في قوله تعالى:
ومن كان غنياً فليستعفف، ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف من مال نفسه، ومن كان فقيراً منهم إليها محتاجاً ، فليأكل بالمعروف( ).
ويأتي عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما أن المراد أكل الولي( ).
القول الثاني : أنه لا يجوز الأكل من مال اليتيم مطلقاً ، لا فقيراً ولا غيره.
وهو مذهب الحنفية ( )، وبه قال ابن حزم ( ).
وحجة هذا القول :
1 – قوله تعالى : وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوباً كبيراً ( ) ، وقال تعالى:
فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها إسرافاً وبداراً أن يكبروا ( )، وقال تعالى : ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده ( )، وقال تعالى : إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً ( ) ، وقال تعالى : وأن تقوموا لليتامى بالقسط ( )، وقال تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراضٍ منكم ( ) .
وجه الدلالة : قال الجصاص: "وهذه الآي محكمة حاظرة لمال اليتيم على وليه في حال الغنى والفقر ، وقوله تعالى : ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف ( )، متشابه محتمل للوجوه التي ذكرنا ، فأولى الأشياء بها حملها على موافقة الآي المحكمة ، وهو أن يأكل – أي الولي – من مال نفسه بالمعروف ؛ لئلا يحتاج إلى مال اليتيم ؛ لأن اللَّه تعالى قد أمرنا برد المتشابه إلى المحكم ، ونهانا عن اتباع المتشابه من غير رد إلى المحكم..." ( ).
ونوقش الاستدلال :
الوجه الأول : أن هذه الآيات عامة في الحظر من مال اليتيم ، والمبيحة لأكل الفقير خاصة ، والخاص مقدم على العام .
الوجه الثاني : عدم التسليم على أن أدلة جواز الأكل من مال اليتيم من المتشابه، بل المحكم البين كما ورد تفسير الآية عن الصحابة رضي اللَّه عنهم.
2 – حديث عمرو بن عبسة رضي اللَّه عنه أن النَّبِيّ قال : "ولا يحل لي من غنائمكم مثل هذا إلا الخُمُس والخمس مردود عليكم" ( ).
وجه الدلالة : أن النَّبِيّ إذا كان لا يأخذ فيما يتولاه من مال المسلمين، فالوصي فيما يتولاه من مال اليتيم كذلك.
ونوقش : بأن النَّبِيّ كان يأخذ من مال الفيء لقوله : " إلا الخمس".
3 – ما روي عن ابن مسعود رضي اللَّه عنه قال : " لا يأكل الوصي من مال اليتيم قرضاً ولا غيره " ( ).
ولكنه ضعيف لا يثبت .
4 – أن دخول الوصي في الوصية على وجه التبرع من غير شرط أجرة كان بمنزلة المستبضع ، فلا أجرة لـه كالمستبضع ( ).
ونوقش هذا الاستدلال : أن ما يأكله الولي من مال اليتيم ليس أجرة، وإنما رخصة من اللَّه عز وجل مقابل قيامه على ماله.
الترجيح :
الراجح – والله أعلم – قول جمهور أهل العلم ، إذ هو ظاهر القرآن الكريم، والقاعدة : أن جميع ظواهر نصوص القرآن مفهومة لدى المخاطبين ، فتبقى الآية على ظاهرها ، وبهذا فسر الصحابة رضي اللَّه عنه الآية .
المسألة الثانية : قدر الأكل :
اختلف العلماء المجيزون للأكل من مال اليتيم في قدر ما يأكله الولي على أقوال :
القول الأول : أنه يأكل الأقل من كفايته وأجرته .
وهو قول جمهور أهل العلم ( ).
وحجته : أنه يستحقه بالعمل والحاجة جميعاً ، فلا يجوز أن يأخذ إلا ما وجدا فيه ( ).
القول الثاني : أن الولي يأكل بقدر عمله .
وبه قال بعض الحنابلة ( ).
وحجته : أن الولي يستحق الأكل من مال اليتيم بالعمل فيتقدر بقدره( ).
ولعله يناقش : بأنه لا يسلم بأنه لا يستحق الأكل إلا بالعمل فقط، بل به وبالحاجة جميعاً.
القول الثالث : أن الولي يأكل بقدر كفايته .
وبه قال بعض الشافعية ( ).
ولعل حجته : أنه رخص للولي أن يأكل بالمعروف.
والمعروف هو قدر الكفاية؛ إذ لا إفراط ولا تفريط، فلا نقص على الولي، ولا ظلم لليتيم، فهو ظاهر القرآن.
القول الرابع : أنه يجوز للولي أن ينتفع بألبان الإبل ، واستخدام العبيد، وركوب الدواب إذا لم يضر بأصل المال ، أما أعيان الأموال وأصولها ، فليس للوصي أخذها.
وبه قال الشعبي ، وأبو العالية ( ).
وحجته : ما ورد أن رجلاً جاء إلى ابن عباس رضي الله عنهما، فقال : "إن في حجري أيتاماً لهم أموال، وهو يستأذنه أن يصيب منها ، فقال ابن عباس رضي اللَّه عنهما: "الست تهنأ جرباءها ؟ ( ) قال : بلى ، قال : ألست تبغي ضالتها؟ قال : بلى ، قال : ألست تلوط حياضها( )؟ قال: بلى ، قال : ألست تفرط عليها يوم وردها ( )؟ قال: بلى، قال: فاشرب من لبنها غير ناهك في الحلب، ولا مضر بنسل" ( ).
وجه الدلالة: أن ابن عباس رضي الله عنهما رخص للسائل أن يصيب من أموال اليتامى الذين في حجره، وهذا يشمل الانتفاع بأعيان الأموال من ركوب للدواب، واستخدام للعبيد ونحو ذلك.
ونوقش هذا الاستدلال:
بأنه لا دلالة في الأثر على ما احتجوا به، فابن عباس رضي الله عنهما إنما رخص في ألبان الإبل، ولم يرخص في منافع الأعيان، واللبن عين وليس منفعة وقد أجاز ابن عباس رضي الله عنهما شربه.
الترجيح : الأقرب – والله أعلم – القول الأول ؛ ولأنه أحوط لمال اليتيم، وأبرأ للذمة.
المسألة الثالثة : كون الأكل مجاناً
اختلف العلماء رحمهم اللَّه في أكل الولي هل هو على سبيل القرض، إذا استغنى رد ما أكل على اليتيم ، أو على سبيل الإباحة ؟ على قولين:
القول الأول : أن أكله على سبيل الإباحة ، فلا يجب رد بدله إذا استغنى.
وبه قال جمهور القائلين بالجواز ( ).
وحجته :
1 – قوله تعالى : ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف ( ) . وتقدم عن عائشة رضي اللَّه عنها أنها قالت : " أنزلت في والي اليتيم الذي يقيم عليه، ويصلح في ماله إن كان فقيراً أكل منه بالمعروف " ( ).
وجه الدلالة : أن اللَّه تعالى أمر بالأكل من غير ذكر عِوض، فأشبه سائر ما أمر بأكله .
2 – حديث عبد اللَّه بن عمرو رضي اللَّه عنهما أن النَّبِيّ قال: "كُل من مال يتيمك غير مسرف ، ولا مبادر ، ولا متأثل " ( ).
وجه الدلالة : كما سبق من الآية .
3 – ما ورد عن الصحابة رضي اللَّه عنهم بالإذن بالأكل ( ).
وما ترتب على المأذون غير مضمون .
4 – أنه عوض عن عمله ، فلم يلزمه بدله كالأجير والمضارب .
5 – أنه لو وجب على الولي إذا أيسر قضاء ما أكل من مال اليتيم ، لكان واجباً في الذمة قبل اليسار ، فإن اليسار ليس سبباً للوجوب ، فإذا لم يجب( ).
القول الثاني : أنه يلزمه عوضه إذا أيسر .
وهو وجه عند الشافعية ، ورواية عن الإمام أحمد ( )، وبه قال عطاء، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، وغيرهم ( ).
وحجته :
1 – قوله تعالى : فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم ( ).
وجه الدلالة : أن اللَّه عز وجل أمر بالإشهاد على الأيتام عند دفع المال إليهم، ولو كان المال في أيدي الأولياء بطريق الأمانة لكان لا حاجة إلى الإشهاد؛ لأن القول قول الولي ... وإنما الحاجة إلى الإشهاد عند الأخذ قرضاً ليأكل منه، لأن في قضاء الدين القول قول صاحب الدين، لا قول من يقضي الدين ( ).
ونوقش هذا الاستدلال : أن سياق الآيات يدل على أن الأمر بالإشهاد إنما هو عند دفع المال إليه إذا بلغ ورشد ، فإذا وقع خلاف في أخذه ماله أمكن إقامة البينة ، فالأمر بالإشهاد للاحتياط ونفي التهمة عن الولي ، وليس لأن المال في يد الولي ليس أمانة ، بل هو أمانة في يد الولي ؛ لأنه من قبض المال بإذن الشارع ، أو إذن الولي فهو أمانة في يده.
2 – ما ورد عن عمر رضي اللَّه عنه أنه قال : " ألا إني أنزلت نفسي من مال اللَّه منزلة الولي من مال اليتيم ، إن استغنيت استعففت ، وإن افتقرت أكلت بالمعروف، فإذا أيسرت رددت " ( ).
ولعله يناقش : بأن الوارد عن عمر رضي اللَّه عنه على سبيل الاحتياط.
3 – ما روي عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما في قوله تعالى : ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف ( ) قال : هو القرض " لكنه ضعيف " .
4 – أنه استباحة بالحاجة إلى مال غيره ، فلزمه قضاؤه كالمضطر إلى طعام غيره( ).
ولعله يناقش من وجهين :
الأول : أن المضطر لم يأكله عوضاً عن شيء ، بخلاف ولي اليتيم فإنه مقابل ولايته.
الثاني : أن لزوم القضاء على المضطر إذا كان فقيراً حال الضرورة موضع خلاف بين أهل العلم ، فشيخ الإسلام لا يرى وجوب العوض على المضطر إذا كان فقيراً ( ).
الترجيح :
الراجح – والله أعلم – عدم وجوب العوض ، إذ ما ترتب على المأذون غير مضمون .
المسألة الرابعة : شروط الأكل عند من أجازه .
ذكر جمهور أهل العلم القائلون بجواز الأكل من مال اليتيم شروطاً لجواز الأكل، لم أقف لها على دليل لأكثرها سوى حرمة مال اليتيم والاحتياط لذلك، وهي كما يلي :
الشرط الأول : أن يكون الأكل حال الضرورة ، وأنه بمنزلة الدم ولحم الخنزير .
وهو قول الشعبي ( ).
ورد هذا الشرط : " بأنه لا معنى لـه ، لأنه إذا اضطر هذا الاضطرار كان لـه أخذ ما يقيمه من مال يتيمه أو غيره من قريب أو بعيد " ( ).
الشرط الثاني : أن يشغله أمر القيام على اليتيم على الاكتساب.
وهو مذهب الشافعية ( )، وبه قال بعض الحنابلة ( ).
الشرط الثالث : أن يفرضه الحاكم .
وهو قول بعض الحنابلة ( ).
ولعله يرد : بأنه مخالف لظاهر القرآن والسنة .
الشرط الرابع : أن يكون غير الحاكم وأمينه ، فالحاكم وأمينه لا يباح لهما الأكل.
وبه قال الحنابلة ( ).
وحجته : أنهما يستغنيان بما لَهُمَا في بيت المال.
الشرط الخامس : أن يكون ذلك مقابل عمله في مال اليتيم .
وبه قال الحنفية( ).
وحجة هذا القول :
1 – قول عائشة رضيا لله عنها في قوله تعالى : ... ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف أنزلت في والي اليتيم الذي يقيم عليه ، ويصلح في ماله إن كان فقيراً أكل منه بالمعروف " ( ).
2 – ما ورد أن رجلاً جاء إلى ابن عباس رضي اللَّه عنهما فقال : "إن في حجري أيتاماً لهم أموال، وهو يستأذنه أن يصيد منها. فقال: ألست تهنأ جرباءها . قال : ألست تفرط عليها يوم وردها؟ قال : بلى ، قال : فاشرب من لبنها غير ناهك في الحلب ، ولا مضر بنسل".
ورد هذا الشرط من أوجه :
الأول : أن الذين أباحوا ذلك لـه أباحوه حال الفقر ، واستحقاق الأجرة مقابل العمل لا يختلف فيه الغني والفقير.
الثاني : أن الوصي لا يجوز أن يستأجر نفسه من اليتم.
الثالث : أن الذين أباحوا ذلك لم يشترطوا شيئاً معلوماً ، والإجارة لا تصح إلا بأجرةً معلومة.
وأجيب عن هذه الأوجه : بأنها بناء على أن ما أبيح لليتيم أجرة على عمله، وليس كذلك ، بل رخصة من اللَّه عز وجل للفقير في الأكل إلى أن يستغني( ).
فالذي يظهر من القرآن والسنة أن الولي الفقير رخص لـه أن يأكل من مال اليتيم إذا تولى مال اليتيم ، وقام بحفظه ، والإنفاق عليه منه، والله أعلم.
المسألة الخامسة : إلحاق بقية المؤن بالأكل
تقدم أن للولي الفقير أن يأكل من مال اليتيم طعاماً وشراباً ، وقد اختلف أهل العلم رحمهم اللَّه في بقية المؤن كاللباس ، والسكن ، والركوب وغير ذلك، هل يرخص للولي الفقير فيها ؟ على قولين :
القول الأول : أنه لا يرخص للولي فيها .
وهذا ظاهر قول جمهور أهل العلم ( ).
وحجته :
1 – ما ورد عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما أنه قال : "يضع الوصي يده مع أيديهم ، ولا يلبس العمامة فما فوقها " ( ).
2 – أن الأصل حرمة مال اليتم ، لما تقدم من الأدلة على ذلك ( )، فيقتصر على مورد النص ، وهو إباحة الأكل فقط .
القول الثاني : أنه يرخص في بقية المؤن .
وهو مذهب الشافعية ( ).
وحجته : إلحاق بقية المؤن بالأكل ، جاء في مغني المحتاج: "وكالأكل غيره من بقية المؤن، وإنما خص بالذكر؛ لأنه أعم وجوه الانتفاع" ( ).
ولعله يناقش : بعدم التسليم أن الأكل خص بالذكر؛ لأنه أعم وجوه الانتفاع ، بل المراد حقيقة الأكل كما ورد عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما ، وتفسير الصحابة للآية حجة يحتكم إليه ، ولا يحكم عليه .
الترجيح : الراجح – والله أعلم – أن الإباحة محصور بالأكل فقط، إذ هو أحوط لليتيم ، وأبرأ للذمة ، ودفعاً لطمع الأولياء في أموال الأيتام.