يعني: من عبادتي، فإذن يكون الإله هو المعبود لا إله يعني لا معبود إلا الله هنا لا معبود، لا النافية للجنس -كما تعلمون- تحتاج إلى اسم وخبر؛ لأنها تعمل عمل "إن" جعل لا++ في نكرة، فأين خبر لا النافية للجنس؟ كثير من الناس من المنتسبين للعلم قدروا الخبر لا إله موجود إلا الله.
وهذا يحتاج إلى مقدمة قبله، وهو أن المتكلمين والأشاعرة والمعتزلة ومن ورثوا علوم اليونان قالوا: إن كلمة إله هي بمعنى فاعل؛ لأن فعال تأتي بمعنى مفعول أو فاعل.
فقالوا: هي بمعنى أله، والإله هو القادر ففسروا الإله بأنه القادر على الاختراع، ولهذا تجد في عقائد الأشاعرة ما هو مسطور في شرح العقيدة السنوسية التي تسمى عندهم بـ "أم البراهين" قال ما نصه فيها: " الإله هو المستغني عما سواه، المفتقر إليه كل ما عداه، قال: فمعنى لا إله إلا الله: لا مستغنيا عما سواه ولا مفتقرا إليه كل ما عداه إلا الله، ففسروا الإله الألوهية بالربوبية، وفسروا الإله بالقادر على الاختراع أو بالمستغني عما سواه، المفتقر إليه كل ما عداه.
وبالتالي يقدرون الخبر موجود، لا إله موجود، يعني: لا قادر على الاختراع والخلق موجود إلا الله، لا مستغنيا عما سواه، ولا مفتقرا إليه كل ما عداه موجود إلا الله؛ لأن الخلق جميعا محتاجون إلى غيرهم، وهذا الذي قالوه هو الذي فتح باب الشرك في المسلمين؛ لأنهم ظنوا أن التوحيد هو إفراد الله بالربوبية؛ فإذا اعتقد أن القادر على الاختراع هو الله وحده صار موحدا، إذا اعتقد أن المستغني عما سواه، والمفتقر إليه كل من عداه هو الله وحده صار عندهم موحدا.
وهذا من أبطل الباطل أين حال مشركي قريش الذين قال الله -جل وعلا- فيهم:
</A>
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ وفي آية أخرى:
</A>
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ ونحو ذلك من الآيات وهي كثيرة كقوله:
</A>
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ الآيات من سورة يونس.
وهذا معلوم أن مشركي قريش لم يكونوا ينازعون في الربوبية، فإذن صارت هذه الكلمة دالة على غير ما أراد أولئك، وهو ما ذكرناه آنفا من أن معنى لا إله يعني: لا معبود، فيكون الخبر إما أن يكون تقديره موجود، فيكون المعنى: لا معبود موجود إلا الله، وهذا باطل؛ لأننا نرى أن المعبودات كثيرة قد قال جل وعلا:
</A>
أَجَعَلَ الْآلِهَةَ مخبرا عن قول الكفار
</A>
أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا فالمعبودات كثيرة والمعبودات موجودة.
فإذن تقدير الخبر بموجود غلط، ومن المعلوم أن المتقرر في علم العربية أن خبر لا النافية للجنس يكثر حذفُه في لغة العرب، وفي نصوص الكتاب والسنة؛ ذلك أن خبر لا النافية للجنس يحذف إذا كان المقام يدل عليه، وإذا كان السامع يعلم ما المقصود من ذلك.
وقد قال ابن مالك في آخر باب لا النافية للجنس حينما ساق هذه المسألة:
يعني باب لا النافية للجنس:
إذا ظهر المراد مع حذف الخبر فإنك تحذف الخبر؛ لأن الكلام الأنسب أن يكون مختصرا كما قال -عليه الصلاة والسلام-:
</A>
لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر ولا نوء ولا غول .
أين الخبر؟ كلها محذوفات؛ لأنها معلومة لدى السامع؛ إذن فالخبر هنا معلوم، وهو أنه ليس الخبر موجودا، يعني يقدر بموجود؛ لأن الآلهة التي عبدت مع الله موجودة، فيقدر الخبر بقولك بحق، أو حق لا إله بحق يعني لا معبود بحق أو لا معبود حق إلا الله.
إن قدرت الظرف فلا بأس، أو قدرت كلمة مفردة حق لا بأس، لا معبود حق إلا الله، هذا معنى كلمة التوحيد فيكون إذن كل من عُبِدَ غير الله -جل وعلا- عُبِدَ نعم، ولكن هل عبد بالحق أم عبد بالباطل، والظلم والطغيان والتعدي عبد بالباطل، والظلم والطغيان والتعدي، وهذا يفهمه العربي من سماع كلمة لا إله إلا الله.
ولهذا بئس قوم كما قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله-: بئس قومٍ أبو جهل أعلم منهم بلا إله إلا الله، يفهم هذه الكلمة وأبى أن يقولها، ولو كانت كما يزعم كثير من أهل هذا العصر وما قبله لقالوها بسهولة، ولم يدروا ما تحتها من المعاني لكن يعلم أن معناها لا معبود حق إلا الله، وأن عبادة غيره إنما هي بالظلم، ولن يقر بالظلم على نفسه وبالبغي، ولم يقر بأنه باغٍ متعد، وبالتعدي والعدوان، وهذا هو حقيقة معنى لا إله إلا الله، وفيها الجمع بين النفي والإثبات، كما سيأتي في بيان آية الزخرف:
</A>
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ .
قال الإمام -رحمه الله- وقول الله -تعالى-:
</A>
أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ هذه الآية تفسير للتوحيد، وذلك أننا عَرَّفَنَا التوحيدَ بأنه إفراد الله بالعبادة، وهو توحيد الإلهية، وهذه الآية اشتملت على الثناء على خاصة عباد الله بأنهم وحَّدوا الله بالإلهية، وهذه مناسبة الآية للباب فقد وصفهم الله -جل وعلا- بقوله:
</A>
أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ ويدعون بمعنى يعبدون؛ لأن الدعاء هو العبادة، والدعاء نوعان -كما سيأتي تفصيله-: دعاء مسألة، ودعاء عبادة.
قال هنا:
</A>
أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يعني يعبدون
</A>
يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ الوسيلة هي الحاجة، الوسيلة هي القصد والحاجة يعني أن حاجاتهم يبتغونها إلى ربهم ذو الربوبية إلى ربهم ذي الربوبية الذي يملك الإجابة.
وفي قول الله -جل وعلا- في سورة المائدة:
</A>
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ سئل ابن عباس -رضي الله عنهما- وهي من مسائل نافع بن الأزرق المعروفة سئل عن قوله الوسيلة في قوله:
</A>
وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ ما معنى الوسيلة؟ قال: الوسيلة الحاجة، فقال له: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، ألم تسمعا إلى قول الشاعر، وهو عنترة يخاطب امرأة:
لهم إليك وسيلة يعني: لهم إليك حاجة.
ووجه الاستدلال من آية المائدة أنه قال:
</A>
وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ فقدم الجار والمجرور على لفظ الوسيلة، وتقديم الجار والمجرور، وحقه التأخير يفيد الحصر والقصر، وعند عدد من علماء المعاني يفيد الاختصاص، وهذا أو ذلك، فوجه الاستدلال ظاهر في أن قوله تعالى في آية الإسراء:
</A>
يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أن حاجاتهم إنما يبتغونها عند الله، وقد اختص الله -جل وعلا- بذلك، فلا يتوجهون إلى غيره.
وقد حصروا وقصروا التوجه لله -جل وعلا- وقد جاء بلفظ الربوبية دون لفظ الألوهية يعني قال:
</A>
يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ ولم يقل يبتغون إلى الله الوسيلة؛ لأن إجابة الدعاء والإثابة هي من مفردات الربوبية؛ لأن ربوبية الله على خلقه تقتضي أن يجيب دعائهم، وأن يعطيهم سؤلهم؛ لأن ذاك من أفراد الربوبية، فإذن ظهر من قوله:
</A>
يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أن فيها تفسير التوحيد، وهو أن كل حاجة من الحاجات إنما تنزلها بالله -جل وعلا- "يدعون" يعبدون.
وهم إنما يطلبون حاجاتهم من الله -جل وعلا-، فلا يعبدون بنوع من العبادات ويتوجهون به لغير الله، فإذا نحروا فإنما ينحرون يبتغون إلى ربهم الحاجة، وإذا صلوا إنما يصلون يبتغون إلى ربهم الحاجة، وإذا استغاثوا فإنما يستغيثون بالله يبتغون إليه الحاجة دون ما سواه إلى آخر مفردات توحيد العبادة.
فهذه الآية دالة بظهور على أن قوله يدعون:
</A>
يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أنه هو التوحيد، وقد استشكل بعض أهل العلم في إيراد هذه الآية في هذا الباب وقال: ما مناسبة هذه الآية لهذا الباب، وبما ذكرت لك تتضح المناسبة جلية قال جل وعلا:
</A>
أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ وهذه حال خاصة بعباد الله أنهم جمعوا بين العبادة وبين الخوف وبين الرجاء فيرجون رحمته يخافون عذابه، وهم إنما توجهوا إليه وحده دون ما سواه فأنزلوا الخوف والمحبة والدعاء والرغب والرجاء لله -جل وعلا- وحده دون ما سواه، وهذا هو تفسير التوحيد.
قال -رحمه الله- وقوله:
</A>
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وجه الاستدلال من هذه الآية في قوله:
</A>
إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي هذه الجملة فيها البراءة وفيها الإثبات. البراءة مما يعبدون قال: بعض أهل العلم تبرأ من العبادة ومن المعبودين قبل أن يتبرأ من العابدين لأنه إذا تبرأ من أولئك فقد بلغ به الحنق والكراهة والبغضاء، والكفر بتلك العبادة مبلغها الأعظم.
وقد جاء تفصيل ذلك في آية الممتحنة كما هو معلوم. إذن مناسبة هذه الآية للباب أن قوله:
</A>
إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي اشتملت على نفي وإثبات فهي مساوية لكلمة التوحيد بل هي دلالة كلمة التوحيد ففي هذه الآية تفسير شهادة أن لا إله إلا الله؛ ولهذا قال -جل وعلا- بعدها:
</A>
وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ ما هذه الكلمة؟ هي قول لا إله إلا الله كما عليه تفاسير السلف.
فإذن قوله جل وعلا:
</A>
إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ هذا فيه النفي الذي نعلمه من قوله "لا إله" فتفسير شهادة أن لا إله إلا الله في هذه الآية "لا إله" معناها أنني براء مما تعبدون "إلا الله" معناها إلا الذي فطرني.
فإذن في آية الزخرف هذه أن إبراهيم -عليه السلام- شرح لهم معنى كلمة التوحيد بقوله: إنني براء مما تعبدون، والبراءة هي الكفر والبغضاء، والمعاداة تبرأ من عبادة غير الله إذا أبغضها وكفر بها وعاداها، وهذه لا بد منها، لا يصح إسلام أحد حتى تقوم هذه البراءة في قلبه؛ لأنه إن لم تكن هذه البراءة في قلبه، فلا يكون موحدا، البراءة هي أن يكون مبغضا لعبادة غير الله، كافرا بعبادة غير الله، معاديا لعبادة غير الله.
كما قال هنا:
</A>
إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ أما البراءة من العابدين فإنها من اللوازم، وليست من أصل كلمة التوحيد، البراءة من العابدين فقد يعادي، وقد لا يعادي، وهذه لها مقامات منها ما هو مُكَفِّر، ومنها ما هو نوع موالاة، ولا يصل بصاحبه إلى الكفر.
إذن تَحَصَّل لك أن البراءة التي هي مضمَّنَة في النفي "لا إله" بغض لعبادة غير الله، وكفر بعبادة غير الله، وعداوة لعبادة غير الله.
وهذا القدر لا يستقيم إسلام أحد حتى يكون في قلبه ذلك. قال:
</A>
إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي وهذا استثناء كما هو الاستثناء في كلمة التوحيد لا إله إلا الله، قال بعض أهل العلم: قال
</A>
إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي ذكر الفطر دون غيره؛ لأن في ذلك التذكير بأنه إنما يستحق العبادة مَن فَطَرَ، أما من لم يفطر، ولم يخلق شيئا فإنه لا يستحق شيئا من العبادة.
إذن مناسبة هذه الآية ظاهرة في الباب، ووجه الاستدلال منها ومعنى البراءة ومعنى النفي والإثبات فيها وفي كلمة التوحيد. قال: وقوله:
</A>
اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ أربابا: الربوبية أربابا: جمع رب، والربوبية هنا هي العبادة، يعني اتخذوا أحبارهم ورهبانهم معبودين من دون الله يعني مع الله، وذلك أنهم أطاعوهم في تحليل الحرام، وتحريم الحلال، والطاعة من التوحيد فرد من أفراد العبادة أن يطيع في التحليل والتحريم.
فإذا أطاع غير الله في التحليل وفي التحريم، فإنه قد عبد ذلك الغير فهذه الآية فيها ذكر أحد أفراد التوحيد، أحد أفراد العبادة وهو الطاعة، وسيأتي إيرادها في باب مستقل -إن شاء الله تعالى- مع بيان ما تشتمل عليه من المعاني.
قال: وقوله:
</A>
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ أثبت الله -جل وعلا- أنهم اتخذوا من دون الله أندادا يعني مع الله أو من دونه أندادا، جعلوهم يستحقون شيئا من العبادات، ووصفهم بأنهم يحبونهم يعني: المشركين يحبونهم كحب الله، وقوله هنا:
</A>
كَحُبِّ اللَّهِ المفسرون من السلف فمَن بعدهم هنا على قولين:
منهم من يقول:
</A>
يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ هي كلها في الذين اتخذوا أندادا يعني يحبون أندادهم كحبهم لله.
وقال آخرون:
</A>
يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ يعني يحبونهم كحب المؤمنين لله، فالكاف بمعنى مثل هنا كقوله:
</A>
ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً كالحجارة: الكاف هنا اسم بمعنى مثل؛ لأنه عطف عليها اسم آخر قال:
</A>
أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً .
</A>
يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ يعني ساووا محبة تلك الآلهة بمحبة الله، فهم يحبون الله حبا عظيما، ولكنهم يحبون تلك الآلهة أيضا حبا عظيما، وهذا التساوي هو الشرك، والتسوية هذه هي التي جعلتهم من أهل النار كما قال جل وعلا في سورة الشعراء مخبرا عن قول أهل النار:
</A>
تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ومعلوم أنهم ما سووا تلك الآلهة برب العالمين في الخلق والرزق ومفردات الربوبية، وإنما سووهم برب العالمين في المحبة والعبادة.
فإذن هنا يكون قوله جل وعلا:
</A>
يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ يعني يحبونهم محبة مثل محبتهم لله، وهذا الوجه أرجح من الوجه الآخر الذي تقديره كحب المؤمنين لله
</A>
وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ .
وجه الاستدلال من الآية ومناسبتها من الباب ظاهرة في أن التشريك في المحبة منافٍ لكلمة التوحيد، منافٍ للتوحيد من أصله، بل حكم الله عليهم بأنهم اتخذوا أندادا من دون الله ووصفهم بأنهم اتخذوا الأنداد في المحبة، والمحبة محركة، وهي التي تبعث على التصرفات.
فإذن هنا فيه ذكر للمحبة، والمحبة نوع من أنواع العبادة، ولما لم يفردوا الله بهذه العبادة صاروا متخذين أندادا من دون الله، وهذا معنى التوحيد، ومعنى شهادة أن لا إله إلا الله.
ثم قال -رحمه الله-: في الصحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال:
</A>
من قال لا إله إلا الله وكفر بما يُعْبَد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله عز وجل في هذا الحديث بيان التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله؛ ذلك أن ثمة فرقا بين قول لا إله إلا الله، وبين التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله فالتوحيد والشهادة أرفع درجة، ومختلف عن مجرد القول.
وهذا الحديث فيه قيد زائد عن مجرد القول، قال -عليه الصلاة والسلام-:
</A>
من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله فيكون الواو هنا تعطف ويكون ما بعدها غير ما قبلها؛ لأن الأصل في العطف المغايرة، ويكون
</A>
كفر بما يعبد من دون الله هذه زيادة على مجرد القول، فيكون قال لا إله إلا الله ومع ذلك ومع قوله:
</A>
كفر بما يعبد من دون الله يعني تبرأ مما يعبد من دون الله، هذا قول.
والقول الثاني: أن الواو هنا ليست عاطفة عطف مغايرة شيء عن شيء أصلا، وإنما هي من باب عطف التفسير يعني يكون ما بعدها بعض ما قبلها كقوله جل وعلا:
</A>
مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ جبريل وميكال بعض الملائكة فعطفهم وخصهم بالذكر، وأظهر اسم جبريل وميكال؛ لبيان أهمية هذين الاسمين وأهمية الملكين؛ لأن أولئك اليهود لهم كلام في جبريل وميكال، المقصود أن يكون العطف هنا عطف خاصٍ بعد عام، أو عطف تفسير؛ لأن ما بعدها داخل فيما قبلها، وهذا تفسير لقوله: "لا إله إلا الله".
فيكون إذن لا إله إلا الله، على هذا القول الثاني متضمنة للكفر بما يعبد من دون الله، وهذا هو الذي ذكرته لك في معنى البراء في آية الزخرف:
</A>
إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي .
قلنا: البراءة تتضمن البغض والكفر والمعاداة، الكفر بما يعبد من دون الله، وهذا تفسير ظاهر لكلمة التوحيد.
قال -عليه الصلاة والسلام-:
</A>
من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله هذا تفسير، وهذا الوجه الثاني هو الأظهر والأنسب لسياق الشيخ -رحمه الله تعالى- بل هو الذي يتوافق مع ما قبله من الأدلة. قال:
</A>
حرم دمه وماله وحسابه على الله عز وجل ذلك أنه صار مسلما، من قال لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله صار مسلما، والمسلم لا يحل دمه إلا بإحدى ثلاث، ولا يحل ماله، ولهذا قال هنا:
</A>
حرم ماله ودمه .
إذن يظهر لك من هذه الترجمة، وما فيها من الآيات والحديث أن تفسير التوحيد هو تفسير شهادة أن لا إله إلا الله يحتاج منك إلى مزيد عناية ونظر وتأمل وتأني حتى تفهمه بحجته، وبيان وجه الحجة في ذلك.
بعد ذلك قال الشيخ -رحمه الله-: "وتفسير هذه الترجمة ما يأتي بعدها من أبواب " فالكتاب كله هو تفسير للتوحيد، وتفسير لكلمة لا إله إلا الله، وبيان ما يضاد بذلك، وبيان ما ينافي أصل التوحيد، وما ينافي كمال التوحيد، وبيان الشرك الأكبر والشرك الأصغر، والشرك الخفي، وشرك الألفاظ، وبيان بعض مستلزمات التوحيد، توحيد العبادة من الإقرار لله بالأسماء والصفات، وبيان ما يتضمن توحيد العبادة من الإقرار لله جل وعلا بالربوبية.
هذا وآمل من الإخوة إذا خرجت ألا يتبعني أحد لأن فيه شيئا من الإحراج، هذا وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
الأرباب جمع الرب والربوبية هنا بمعنى الطاعة بمعنى العبادة الرب هو المعبود كقوله في مسائل القبر: "من ربك" يعني من معبودك هذا يأتي مفصلا في الربوبية والألوهية معنى هذه وهذه إن شاء الله.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه أما بعد. فموضوع كلمة هذا اليوم عن نفسية طالب العلم حين يتلقى الدرس، والمستمعون للعلم يختلفون، يختلفون من جهة رغبتهم فيما يسمعون، ويختلفون أيضا من جهة استعداداتهم، فليست الرغبات واحدة، وليست الاستعدادات واحدة، الرغبات مختلفة منهم من يستمع للعلم رغبة في تحصيله، هذا هو الغالب ولله الحمد، ومنهم من يستمع للعلم رغبة في تقييم المعلم أو في معرفة مكانته من العلم وحسن تعليمه أو حسن استعدادته للعلوم.
ومنهم من يأتي مرة ويترك عشر مرات، وهذه في رغبات أيضا متنوعة، ويهمنا منها من يأتي للعلم رغبة في العلم، فحين يأتي طالب العلم للدرس راغبا في الاستفادة ينبغي أن يكون على نفسية وحالة قلبية خاصة وحالة عقلية أيضا خاصة.
أما الحالة القلبية والنفسية، فأن يكون قصده من هذا العلم أن يرفع الجهل عن نفسه، وهذا هو الإخلاص في العلم.
لأن طلب العلم عبادة، والإخلاص فيه واجب، والإخلاص في العلم بأن ينوي بتعلمه رفع الجهل عن نفسه، وقد سئل الإمام أحمد عن النية في العلم كيف تكون؟ فقال: " أن ينوي رفع الجهل عن نفسه "
فإذا كان في طلبه للعلم يروم أن يكون معلما أو أن يكون داعيا أو أن يكون مؤلفا، ونحو ذلك فالنية الصالحة فيه والإخلاص في ذلك يكون بشيئين: الأول: أن ينوي رفع الجهل عن نفسه. الثاني: أن ينوي رفع الجهل عن غيره.
فإذا لم ينو أحد هذين، أو لم ينوهما معا، فإنه ليس بصاحب نية صحيحة، فإذا رام أحدنا أن يطلب العلم فلا بد أن يكونا ناويا رفع الجهل عن نفسه، وإذا نوى هذه النية يكون مستحضرا -بالطبع- أن الله -جل جلاله- خلقه وله عليه أمر ونهي في أصل الأصول ألا وهو حقه جل وعلا: التوحيد.
وكذلك في الأمر والنهي في الحلال وفي الحرام، وسبب الإقدام على المنهيات في العقائد، وكذلك في السلوك الجهل، من أسباب ذلك الجهل، ثم أسباب أخرى. فإذا علم ورفع الجهل عن نفسه، كان عالما بمراد الله -جل وعلا- ثم بعد ذلك يستعين الله -جل وعلا- في امتثال مُرَادَاتِهِ الشرعية هذا أمر نفسي مهم.
والأمر النفسي الثاني المهم أيضا أنه حين يتلقى العلم يتلقى وهو واثق من علم المعلم، يعني أن يكون في نفسه أن الأصل في المعلم أنه يعلم على الصواب، فإذا دخل وفي نفسه أن المعلم يعلم غلطا أو أن معلوماته مشوشة، أو أنه كذا وكذا مما يضعفه في العلم، فإنه لن يستفيد من ذلك؛ لأنه إذا استمع سيستمع بنفس المُعارض.
فسيأتي إذا قال كلمة أخذ يفكر بعدها نصف دقيقة أو دقيقة فيما قال، قال: هذا صحيح وفي اطلاعاته، وقد اطلع كذا وكذا مما يعارض كلام المعلم، ثم في هذه الدقيقة يكون المعلم قد أتى بشيء آخر، فإذا انتهى هذا من تفكيره سمع جملة أخرى، فتكون مشوشة أيضا فيدخل في اعتراضات، وهذا يحرم المستمع العلم، وإذا كان عند طالب العلم فيما يسمع إشكالات أو إيرادات فيكون عنده ورقة أو كراسة بين يديه يكتب الإشكال ثم لا يفكر فيه.
وهو يستمع العلم يكتب بحث هذه المسألة. المسألة كذا وكذا ثم بعد ذلك إذا فرغ من هذا الدرس يذهب هو ذلك اليوم أو بعده يذهب ويبحث هذه المسألة، أو يسأل عنها، ومن المعلوم أنه ليس من شرط المعلم أن يكون محققا، وليس من شرط المعلم أن يكون مصيبا دائما، فقد يكون له اختيارات، أو آراء تخالف المشهور، أو تكون له توجيهات غلط فيها.
لكن الشأن أن يكون المعلم مشهودا له بالعلم مؤصلا في العلم، يعرف ما يتكلم به، فإذا عرف ما يتكلم به وعرف أقوال الناس، وعلم العلم فإنه قد يكون عنده غفلة في مسألة، أو في حكم، أو نحو ذلك فيغلط مرة أو يغلط في تصور ونحو ذلك، هذا ليس بعجيب؛ لأن المعلم بشر والبشر خطاءون.
إذن المهم أن تتلقى العلم ممن وثقت بعلمه، وأنت في نفسية غير معارضة، وهذا يحرم كثيرين علما واسعا؛ حيث إنهم يتلقون العلم بنفسية السؤال بنفسية من يستشكل، ولهذا من أكثر السؤال في حلقات العلم لا يكون مجيدا.
وقد حضرت مرة عند الشيخ عبد الرزاق عفيفي العلامة المعروف -رحمه الله تعالى- وكان عنده من يسأله عن المسائل في الحج فإذا أتى مستفتٍ يستفتي فيأتي هذا السائل ويقول له: فإن كان كذا؟ فيحاول أن يتعلم العلم بطرح مسائل أخرى غير المسألة التي استفتى فيها السائل.
فقال له الشيخ -رحمه الله-: العلم لا يؤتى هكذا، وإنما يؤتى العلم بدراسته، وهذا صحيح؛ لأن المتعلم حين يحضر عند أهل العلم، فيسمع فإنه إذا عرض لذهنه أنه في كل ما يأتي يسأل، أو في كل ما يسمع يعترض كما مر معنا كثيرا من بعض الإخوان والشباب في حلقات العلم يريدون أسئلة ويريدون استشكالات طبعا بحسب ما عندهم من العلم سألوا واستشكلوا، ولو صبروا لكان خيرا لهم.
هذه النفسية تؤثر على الذهن وعلى صفائه وعلى تصور العلوم في أثناء الدرس؛ لهذا ينبغي لنا أننا حين نتلقى العلم أن نتلقاه بنفسية من ليس عنده علم ألبتة، يسمع ويسمع ويسمع، وإذا استشكل فيكون بعد ذلك في محله، يقيد ثم يبحث أو يسأل عن ذلك.
طبعا هذا في حق من وثقنا بعلمه، فأخذنا عنه العلم، عن ثقة بما يأتي به