سابعًا: من مظاهر حب الله لك:
تيسير طريقك إلى التوبة
والرجــــــــــوع إليـــــــه
كان رجل في بني إسرائيل اسمه «الكفل»، وكان معروفًا بين الناس بفحشه وإجرامه، وذات ليلة وبينما هو في منزله إذ سمع طرقًا على بابه، فقام ليفتحه فإذا بامرأة يقطر منها الحياء وقد جاءته لتطلب منه أن يقرضها مبلغًا من المال لحاجتها الضرورية إليه، فيوافق على إقراضها بشرط أن تمكنه من نفسها، فتضطر المرأة للموافقة، وعندما يقترب منها إذ بها ترتعد، فيسألها عن السبب، فتجيبه بأنها لم تفعل هذا من قبل، وإنها تخاف من غضب الله عليها.
هنا توقف الكفل عما كان ينوي فعله، وقال لها: من الذي ينبغي له أن يخاف من غضب الله: أنا أم أنت؟ ثم أعطاها ما تريد من مال، وتركها تنصرف، والندم يعتصر قلبه على آثامه التي اقترفها، وعلى استخفافه بأوامر ربه، ثم توجه إلى الله بهذا القلب المنكسر يسأله العفو والصفح والتوبة.
هل انتهت القصة على هذا الوضع؟!
لا، فقد حدث أن جاءه الموت وهو في هذه الحالة، فلما أشرقت الشمس وجاء الصباح، فوجئ الناس, جيرانه ومعارفه الذين تركوه بالليل, وهم يعلمون عنه ما يعلمون, فوجئوا جميعًا بأن باب داره مكتوب عليه «إن الله قد غفر للكفل».
لم يصدقوا ما قرءوه، فهرعوا إلى نبيهم، فأوحى الله إليه بما حدث، فأخبرهم خبره، فتلقوه فاغرين أفواههم، غير مصدقين ما حدث.
بلا شك- أخي القارئ- أن هناك دروسًا كثيرة تحملها هذه القصة، لعل من أهمها أن الله عز وجل عندما وجد من الكفل هذه التوبة الصادقة، وهذا الندم، أمر ملك الموت بأن يأخذه على هذا الحال لُينهي حياته نهاية سعيدة، فربما- كما في علم الله- أنه إذا ما استمرت حياته لعاد مرة أخرى لغيه وعصيانه.
ومن هذه الدروس كذلك معرفة مدى حب الله العظيم لعباده فكتابة العبارة على الباب ما هي إلا رسالة للناس جميعًا بأن رحمة الله واسعة.. تسع الجميع، فلا ينبغي لمذنب مهما كان جُرمه أن ييأس أو يقنط من بلوغها، والدليل أن الكفل قد غُفرَ له.. إنها رسالة تقول لكل فرد: أقبل ولا تخف، فربك ينتظرك.
وكيف لا يكون الأمر كذلك، والله عز وجل يحب عباده جميعًا، ويريد لهم الخير، ودخول الجنة، وينتظر من أي منهم التفاتة صادقة إليه ليقبل عليه، ويعفو عما مضى منه.
ومما يؤكد هذا المعنى ما حدث لقاتل المئة نفس:
قال صلى الله عليه وسلم: «كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفسًا، فسأل عن أعلم أهل الأرض، فَدُلَّ على راهب، فأتاه فقال إنه قتل تسعة وتسعين نفسًا، فهل له من توبة؟ فقال: لا. فقتله فكمَّل به مئَة، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض، فَدُلَّ على رجل عالم، فقال: إنه قَتل مئة نفس فهل له من توبة؟
فقال: نعم، ومن يحول بينه وبين التوبة؟ انطلق إلى أرض كذا وكذا، فإن بها أُناسًا يعبدون الله فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء، فانطلق حتى إذا نَصَف الطريق أتاه الموت، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائبًا مقبلاً بقلبه إلى الله تعالى، وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يفعل خيرًا قط، فأتاهم ملك في صورة آدمي فجعلوه بينهم- أي حكمًا- فقال: قيسوا ما بين الأرضين فإلى أيتهما كان أدنى فهو له، فقاسوا فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد، فقبضته ملائكة الرحمة»( ).
وفي رواية: «فأوحي الله تعالى إلى هذه أن تباعدي، وإلى هذه أن تقرَّبي، وقال: قيسوا ما بينهما، فوجدوه إلى هذه أقرب بشبر فغفر له».
لا يحوجنا إلى المشي الكثير
نعم، أخي القارئ، إن ربك ينتظر منك أي بادرة صادقة في العودة إليه، ليقترب منك ويقترب، ولا يحوجك إلى المشي الكثير، كما في الحديث القدسي: «.. ومن تقرب مني شبرًا، تقربت منه ذراعًا، ومن تقرب مني ذراعًا تقربت منه باعًا، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة، ...»( ).
يعلق الإمام النووي على هذا الحديث فيقول:
أي من تقرب إلى بطاعتي تقربت إليه برحمتي، وإن زاد عبدي زدت، فإن أتاني يمشي وأسرع في طاعتي أتيته هرولة أي صببت عليه الرحمة، وسبقته بها، ولم أحوجه إلى المشي الكثير في الوصول إلى المقصود ( ).
فهل توافقنى -أخى- أن هذا الحديث وغيره مما سبق ذكره يدل على شدة شوقه سبحانه لعودة عبادة إليه، وأنه أشد شوقا لهذه العودة من العبادة أنفسهم؟!
ولو كُشفت الحُجُب، وتأكد الشاردون عن الله من هذه الحقيقة لماتوا خجلا منه سبحانه.
بابه مفتوح للجميع:
أخي .. ما تعليقك على قوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها»( )؟
ألا يكفيك دليلا على حب ربك لك أن جعل بابه مفتوحًا أمامك ليل نهار، وبدون وجود حاجب ولا واسطة، فمتى شئت، ومتى رغبت في الدخول عليه دخلت؟!
ألم يكن من الممكن أن يكون الدخول على الله ودعاؤه في وقت محدد بالليل أو بالنهار، وعلى من يريد أن يجاب طلبه أن يجتهد في تحري هذا الوقت كما يحدث مع كل صاحب سلطان.
ولكنه سبحانه وتعالى لم يشأ أن يفعل ذلك، فلم يغلق بابه أبدًا في وجه أحد مهما كان جُرمه.
نعم، مهما كان جُرمه.
وليس ذلك للمسلمين فحسب بل لجميع عباده من يهود ونصاري وملحدين وبوذيين, ومن منافقين، وفاجرين، وقطاع طرق، ومجرمين.
أليس كل واحد من هؤلاء له مكان في الجنة يريد الله له أن يشغله، ولا يتركه؟!
فإن كنت تشك في هذه الحقيقة فتأمل معي توجيهه لرسوله الكريم: قُل لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنتَهُوا يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ [الأنفال: 38] هكذا بكل بساطة.
وتأمل خطابه للمنافقين، فبعد أن حذرهم وخوفهم من مآل أفعالهم عاد فلم ييئسهم من رحمته بل جعل الطريق أمامهم ممهدًا للتوبة والعودة إليه إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ للهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء: 145، 146].
وبعد ذلك يأتي التأكيد على أن الله عز وجل لا يريد أن يعذب أحدًا من خلقه مَا يَفْعَلُ اللهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللهُ شَاكِرًا عَلِيمًا [النساء: 147].
وتأمل كذلك – أخي القارئ – خطابه للذين يعذبون الناس, الطواغيت الظلمة, هؤلاء لو تابوا لتاب عليهم إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ [البروج: 10].
والذين يروعون الآمنين ويقطعون الطريق حدد الشرع جزاءهم إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلاَفٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [المائدة: 33]. ولكن لو تاب هؤلاء اللصوص القتلة لتاب الله عليهم كما جاء في الآية التي تليها:
إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [المائدة: 34].
وكذلك الذين يكتمون ما أنزل الله من الهدى إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة: 159، 160].
أقبل ولا تخف
أخي, إن ربك ينتظرك – وينتظرنا جميعًا – يناديك: أقبل ولا تخف.. متى جئتني قبلتك، وعلى أي حال تكون فيها «يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء، ثم استغفرتني غفرت لك، يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا، لأتيتك بقرابها مغفرة»( ).
نعم يا أخي إن مغفرته سبحانه تسع كل ذنوبك، وكل ذنوبنا، كل ما هو مطلوب منك أن تُقبل عليه بصدق, أن تعتذر له عما مضى من ذنوب وتقصير.
فإن قلت ولكن ذنبي كبير .. أكبر مما يتخيله أحد.
لا يا أخي، لا تقل هذا، فماذا فعلت؟!
هل سرقت، هل زنيت، هل أشركت، هل...
مهما فعلت فبابه مفتوح لك .. أتدري لماذا؟
لأنه يريد أن يتوب عليك وَاللهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ [النساء: 27].
ولماذا يريد أن يتوب عليك؟
ليدخلك الجنة، دار أبيك، والتي فيها جزء مخصص لك وَاللهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ [البقرة: 221].
وليس أدل على ذلك من فرحته سبحانه الشديدة عندما يتوب عبد من عباده ولو كان من أشد المعاندين له.
تأمل معي قوله صلى الله عليه وسلم «لله أشد فرحًا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة، فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه، فأيس منها، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها، وقد أيس من راحلته، فبينما هو كذلك إذا هو بها، قائمة عنده، فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك. أخطأ من شدة الفرح»( ).
وإليك كذلك هذا الحديث العجيب, قال صلى الله عليه وسلم: «لله أشد فرحًا بتوبة عبده من العقيم الوالد، ومن الضال الواجد، ومن الظمآن الوارد»( ).
يعلمنا ما نقوله لنتوب
لما عصا آدم – عليه السلام – ربه، ندم ندمًا شديدًا، ولكنه لم يعرف كيف يعبر عن ندمه واعتذاره لربه, فرأى منه الله هذه الحال فدلَّه – الرحيم – على ما يقوله له، ليختصر عليه الطريق فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة: 37].
وكذلك ما حدث مع بني إسرائيل، فبعد أن ارتكبوا كبائر الذنوب، وعبدوا العجل، وقالوا لنبيهم: أرنا الله جهرة و.. أراد الله أن يتوب عليهم فدلهم على وسيلة ذلك والألفاظ التي يقولونها وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ [البقرة: 58].
فأي رب غفور رحيم هو ربنا!
يعلمنا كلمات نقولها، وأدعية ندعوه بها تحمل معان عظيمة، ثم يخبرنا بأننا لو قلناها بصدق غفر لنا ذنوبنا وأعطانا مرادنا.
ومن ذلك قوله تعالى: رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلاَنَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [البقرة: 286].
هذه الكلمات النورانية لو أردنا نُعبَّر عما تحمله من معان بكلمات من عندنا فكم عبارة سنقولها؟ وهل سترقى تلك العبارات فتليق ببلاغة الآيات؟!
ثم إن هذه الآيات وغيرها من الأدعية مما ورد على لسان المؤمنين, من الذي أنزلها؟!
أليس هو الله عز وجل؟!
ومن هم هؤلاء المؤمنين الذي يقولونها؟!
إنهم ليسوا أشخاصًا بعينهم، ولكنها نموذج يقدمه الله لنا لكي يختصر علينا طريق اختيار الكلمات والعبارات التي تنال رضاه، وتستفتح باب فضله وكرمه، فيجيب علينا – حين نرددها – بفتح خزائن عفوه وفضله ورزقه.
وقد ورد أن العبد حين يقرأ: رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا يجيب سبحانه: «قد فعلت»، فإذا قال: رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا يجيب الله: «قد فعلت» وهكذا( ).
فانظر إلى مدى حب الله لنا, يعلمنا ما نقول، ليجيبنا بعد القول: قد فعلت!.
عدم الاستقصاء
أرأيت لو أن زميلا لك قد أساء إليك إساءات بالغة، وارتكب في حقك مخالفات جسيمة، ثم جاءك بعد أن أفسد وأفسد ليعتذر لك عما فعله, أليس أدنى ما يتوقع منك ساعتها أن تجلس معه وتعاتبه، وتطلب منه إصلاح ما أفسده قبل قبول اعتذاره، وأن تأخذ منه المواثيق على ذلك؟!
ولكن الله عز وجل لا يفعل معنا ذلك، فهو يقبل منا الاعتذار – مهما كان حجم جرائمنا في حقه – دون استقصاء، كما حدث مع موسى – عليه السلام – فبعد أن قتل القبطي، وقبيل هروبه من مصر قال: قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فبماذا أجاب الله؟ فَغَفَرَ لَهُ لماذا المغفرة بكل هذه السهولة إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [القصص: 16].
لا يطالب أحدًا بإصلاح ما أفسده إلا إذا كان في حقوق الناس – رحمة بهم – أما ما كان في حقه سبحانه، فهو يتجاوز عنه .. لماذا؟!
لأنه لا يريد أن يضع أي عقبات أمام طريق التوبة.
يريد أن يجعل الطريق سهلا ميسرًا للجميع دون استثناء.
يكفي أن يندم المرء على ما فعل، ويستغفر الله بصدق ويتوب إليه.
يكفي ذلك، فليس المطلوب منه تقديم كشف بالمخالفات التي ارتكبها، وكيف سيصلحها ..تأمل معي قوله تعالى: وَمَن يَعْمَلْ سُوءً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ ما الذي سيحدث إن فعل ذلك؟ يَجِدِ اللهَ غَفُورًا رَّحِيمًا [النساء: 110]. لا يجده منتقمًا ولا يجده جبارًا. بل يجده فرحًا بتوبته، لأنه يحبه، وينتظر منه هذه التوبة إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ [البقرة: 222].
يسهل علينا طريق التوبة
ولأنه سبحانه يحبنا ويريد لنا الجنة، لذلك فهو يسهل علينا طريق التوبة من كل جانب.
يطمئننا بأنه سيغفر لنا جميع ذنوبنا – مهما بلغت – وذلك بمجرد توبتنا قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر: 53].
ويؤكد لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا المعنى فيقول: «إن عبدًا أصاب ذنبًا فقال: رب أذنبت، فاغفره، فقال ربه: أعلم عبدي أن له ربًا يغفر الذنب ويأخذ به؟ غفرت لعبدي، ثم مكث ما شاء الله، ثم أصاب ذنبًا، فقال: ربَّ أذنبت آخر، فاغفر لي. قال: أعلم عبدي أن له ربًا يغفر الذنب ويأخذ به؟ غفرت لعبدي، ثم أصاب ذنبًا، فقال: ربَّ أذنبت آخر، فاغفر لي، قال: أعلم عبدي أن له ربًا يغفر الذنب ويأخذ به؟ قد غفرت لعبدي فليعمل ما شاء»( ).
يعني- كما يقول ابن رجب – ما دام على هذا الحال كلما أذنب استغفر( ).
أتدري ما الذي يغضب ربك غضبًا شديدًا؟
جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله عن سعة رحمة الله، فقال:
«جئت تسألني عن سعة رحمة الله؟ وأخبرك أن الله تعالى يقول: ما غضبت على أحد غضبي على عبد أتى معصية فتعاظمها في جنب عفوي، فلو كنت معُجَّلا أو كانت العجلة من شأني لعجلت للقانطين من رحمتي»( ).
لم تعلموا قدري لذلك أخطأتم في حقي
تخيل أن ابنًا من الأبناء قد أخطأ في حق أبيه، ويريد أبوه منه أن يعتذر ليسامحه على خطئه، فتراه يسهل عليه طريق الاعتذار، فيقول له لعلك لم تدرك أن ما فعلته كان خطأ، ولعلك قد أخذتك الغفلة حينها ولعلك ....، فيجد الابن نفسه مندفعًا إلى الاعتذار بعد أن شعر بالأمان من جانب والده.
أكثر من هذا يفعله الله معنا, تأمل قوله تعالى: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ [النحل: 119].
وقوله: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [الأنعام: 54].
إنها رسالة تطمين وترغيب تقول لنا: لقد أخطأتم واقترفتم السيئات لأنكم كنتم غافلين عني، جاهلين بقدري، فما عليكم إلا أن تستغفروني لأغفر لكم وأتوب عليكم.
لننتهز الفرصة
أخي القارئ:
وفي نهاية الحديث عن هذا المظهر العظيم من مظاهر حب ربك لك، ولسائر عباده، تبق كلمة لا بد أن تُذكر في هذا المقام وهي أن كل ما قيل في الصفحات السابقة عن ترغيب الله لعباده في التوبة وتيسيره لطريقها، ما هو إلا استدراج منه سبحانه لهم لكي يسارعوا بالفرار والعودة إليه، ومن ثمَّ يرزقهم الحياة الطيبة في الدنيا، والجنة في الآخرة بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ [سبأ: 15].
ولكن هب أن البعض لم يستفد من هذه الفرصة العظيمة التي أتاحها الله له، ولم يتب إليه أو يقبل عليه، وظل في غفلته يمنَّي نفسه أنه سيفعل ذلك بعد حين .. بعد أن يحج، أو يزوج الأولاد، أو يخرج على المعاش... بلا شك أن هؤلاء سيندمون أشد الندم عندما تتسرب أعمارهم يومًا بعد يوم دون أن يشعروا، ثم يفاجئوا بملك الموت أمامهم قد جاءهم ليقبض أرواحهم، ومن ثمَّ ينغلق باب التوبة أمامهم.
ومن عجب أن الرب الرحيم حذرنا كثيرًا من ذلك الموقف كي لا نقع فيه وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لاَ تُنْصَرُونَ وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ [الزمر: 54، 55].
فلننتهز الفرصة، ولنستجب لنصائح ربنا، ولنبادر بالاستغفار والتوبة، والاستفادة من ثمارها في الدنيا قبل الآخرة وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ [هود: 3].
ونختم الحديث عن هذا المظهر العظيم من مظاهر حب الله لعباده بقوله صلى الله عليه وسلم: «إن للتوبة بابًا عرضُ ما بين مصراعيه ما بين المشرق والمغرب لا يُغلق حتى تطلع الشمس من مغربها»( ).
ثامنًا: من مظاهر حب الله لك:
حلمه وصبره وستره لك
أخي.
نعلم جميعًا أن الله عز وجل حي قيوم لا يغفل ولا ينام, أحاط بالناس جميعًا لا تختلط عليه اللغات، ولا يتوارى عليه شيء ولو كان في قعر الجبال أو قاع البحار.
قريب منا جميعًا، يرى مكاننا، ويسمع كلامنا، ويعلم ما توسوس به أنفسنا وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق: 16].
لا يحدث شيء في أي مكان من الأرض إلا ويعرفه سبحانه، ويحيط به علمًا وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ [يونس: 61].
لا يغيب عنه – سبحانه – سقوط ورقة يابسة من شجرة وارفة في ليلة مظلمة داخل غابة من الغابات الكثيفة وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ [الأنعام: 59].
ومع هذا العلم وهذه الإحاطة فإنه سبحانه قادر مقتدر، لا يعجزه شيء أن يفعله إذا اراد أن يفعله إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النحل: 40].
كان معنا
يقينًا- أخي – أن الله عز وجل لم يغب عنا ولو للحظة من لحظات حياتنا وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ [يونس: 61].
معنى ذلك أنه كان معي ومعك حين عصيناه.
كان معك حين أطلت النظر إلى غير محارمك من النساء.
كان معك وقت أن سمعت مؤذن الفجر ينادي للصلاة، فلم تجب النداء بل تكاسلت وتجاهلت، وأخلدت إلى النوم.
كان معك وأنت تجتهد في إقناع الآخرين بشيء تعلم في قرارة نفسك أنه غير حقيقي، وأنك تكذب عليهم.
كان معي ومعك وقت كل معصية عصيناها، وكل تقصير قصرناه، وكان يقدر – سبحانه – على أن يأخذ الواحد منا على الحال التي كان عليها.
كان يقدر أن يأخذه وهو يكذب.. وهو يطلق بصره.. وهو يحسد غيره.. يأخذه في لحظات شهادة الزور أو لحظات تطاوله على والديه أو ....
كان من السهل واليسير عليه سبحانه أن يأخذنا في هذه الأوضاع المشينة وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلاَ يَرْجِعُونَ [يس: 67].
ولكنه لم يفعل، بل تركنا نعصاه، ونقصر في حقه أكثر وأكثر.
ولكن لماذا لم يفعل ذلك وهو القادر المقتدر؟!
الإجابة واضحة؛ لأنه يحب عباده ويريد لهم أن يُنهوا حياتهم نهاية سعيدة لذلك فهو يحلم ويصبر عليهم لعل لحظة تأتي عليهم يفيقون فيها من غفلتهم، ويتوبون إليه فيتوب عليهم وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ [الرعد: 6].
تأمل معي قوله تعالى: أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ [النحل: 45- 47].
لكنه لم يفعل، لأنه كما جاء في ختام الآية الأخيرة "فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ" [النحل: 47].
نعم أخي القارئ، فربنا رب حليم، صبور، لا يؤاخذ عباده بأفعالهم السيئة ولو فعل لما تنعم متنعم بيومه أو ليله ولتذوَّق الجميع العذاب الأليم وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ [الكهف: 58].
جاء في الأثر: ما من ليلة اختلط ظلامها، وأرخى الليل سربال سترها، إلا نادى الجليل جل جلاله: مَن أعظم مني جودًا والخلائق لي عاصون وأنا لهم مراقب، أكلؤهم في مضاجعهم كأنهم لم يعصوني، وأتولى حفظهم كأنهم لم يذنبوا فيما بيني وبينهم، أجود بالفضل على العاصي، وأتفضل على المسيء.
من ذا الذي دعاني فلم أُلبَّه، أم من ذا الذي سألني فلم أعطه، من ذا الذي أناخ ببابي فنحيته( ).
وكان ابن السماك يقول في مناجاته:
تباركت يا عظيم .. لو كانت المعاصي التي عصيتها طاعة أطعت فيها ما زاد على النعماء التي تبتليها.
وإنك لتزيد في الإحسان إلينا كأن الذي أتيناه من الإساءة إحسان.
فلا أنت بكثرة الإساءة منا تدع الإحسان، ولا نحن بكثرة الإحسان منك إلينا عن الإساءة نقلع.
أبيت إلا إحسانًا وأبينا إلا إساءة واجتراء.
فمن ذا الذي يحصي نعمك ويقوم بإحسانك وبأداء شكرك إلا بتوفيقك ونعمك؟! ( )
غضبة الكون
أخي القارئ.
والله ثم والله لو قُدَّر لأحدنا أن يرى ما يحدث في الأرض كما يراه الملأ الأعلى لاستشاط غضبًا، ولألح على الله بتعجيل عقوبته لأهل الأرض جميعًا.
تخيل أنك ترى أناسًا يعيشون في ملك الله.
ويأكلون من رزقه.
وينامون آمنين في حفظه.
والخدم تحيط بهم من كل جانب .. مسخَّرة لديهم ومأتمرة بأوامرهم.
ثم بعد ذلك كله لا يذكرون من أكرمهم بهذا كله, لا يشكرونه، ولا يعبدونه، بل يعصون أوامره، ويجحدون نعمه، ويبارزونه بالمعاصي، ويدَّعون عليه الادعاءات, فمن قائل إن له ولدًا، ومن قائل إن له شريكًا، ومن قائل إن هناك إلهًا غيره.
تخيل أن هذا يحدث كل يوم، بل في كل وقت، وتخيل أنك ترى هذا كله، فماذا سيكون رد فعلك؟!
سيكون بلا شك رد الفعل الطبيعي الذي تعيشه كل المخلوقات التي تشاهد ما يفعله الإنسان من جحود وعصيان، وتجرؤ على ربه.
سيكون مثل رد فعل السماوات والأرض والجبال حينما يردد بعض الضالين أن لله ولدًا وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا [مريم: 88، 91].
سيكون رد فعلك كالبحر الذي يستأذن كل يوم أن يغرق ابن آدم لكثرة معاصيه، وجرأته على ربه.
ولكن الحليم لا يسمح بذلك إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولاَ وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا [فاطر: 41].
الخليل يرى الملكوت
لقد حدث – أخي القارئ – لإبراهيم عليه السلام ما كنا نتخيله منذ قليل "وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ" [الأنعام: 75] فلقد رُفع إلى ملكوت السماوات، ونظر إلى أهل الأرض، ورأى منهم ما رأى من معاص وفجور فماذا كان رد فعله وهو كما وصفه الله عز وجل إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ [هود: 75].
فعن سلمان الفارسي قال: لما رأى إبراهيم ملكوت السماوات والأرض رأى رجلا على فاحشة فدعا عليه فهلك، ثم رأى آخر على فاحشة فدعا عليه فهلك، ثم رأى آخر على فاحشة فدعا عليه، فأوحى الله إليه: أن يا إبراهيم مهلا فإنك رجل مستجاب لك، وإني من عبدي على ثلاث خصال: إما أن يتوب قبل الموت فأتوب عليه، وإما أن أُخرج من صلبه ذرية يذكروني، وإما أن يتولى فجهنم من ورائه»( ).
الستير
ومع حلمه العظيم وصبره سبحانه على عباده، فإنه كذلك ستير، يسترهم ولا يفضحهم رغم إساءاتهم البالغة.
تخيل – أخي القارئ- أن صديقك الذي يحبك وتحبه، قد علم أنك قد حسدته على الخير الذي أتاه.. ماذا ستكون مشاعره تجاهك؟!
ولو علم من اغتبته بما ذكرته عنه.. بأي وجه سيلقاك بعد ذلك؟!
ولو علم الناس حقيقة أمري وأمرك ومدى تقصيرنا في جنب الله، وجرأتنا على معاصيه أتراهم يُقبلون علينا ويبتسمون في وجوهنا؟ وهل سيلقون علينا السلام أصلا؟!
إن من أَجَلّ رحمات الله بعباده ستره لهم، وعدم انكشاف هذا الستر أمام بعضهم البعض، وإلا لما استطاعوا أن يتعايشوا فيما بينهم، أو يتوادوا، أو يتراحموا، ولما أقدم بعضهم على مساعدة البعض، ومن ثمَّ يصبح الجميع فريسة سهلة للشيطان.
بل إنه سبحانه يستحثنا على ستر بعضنا البعض، ووعد بعظيم الجزاء لمن ستر أخاه.
يقول صلى الله عليه وسلم «لا يستر عبد عبدًا في الدنيا إلا ستره الله يوم القيامة»( ).
هذه في الدنيا, أما في الآخرة فيستمر الستر لعباده المؤمنين.
قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى يُدني المؤمن، فيضع عليه كنفه، وستره من الناس، ويقرره بذنوبه، فيقول: أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ فيقول: نعم أي رب، حتى إذا قرره بذنوبه، ورأى في نفسه أنه قد هلك، قال: فإني قد سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم، ثم يُعطى كتاب حسناته بيمينه»( ).
وإليك هذه القصة:
ونختم الحديث عن هذا المظهر العظيم من مظاهر حب الله لعباده بهذه القصة التي وقعت أحداثها في زمن موسى – عليه السلام – إذ أصاب قومه القحط، فاجتمع الناس إليه، فقالوا: يا كليم الله, ادع لنا ربك أن يسقينا الغيث، فقام معهم، وخرجوا إلى الصحراء وهم سبعون ألفًا أو يزيدون. فقال موسى عليه السلام: إلهي, اسقنا غيثك، وانشر علينا رحمتك، وارحمنا بالأطفال الرُضَّع، والبهائم الرُتع، والمشايخ الركع، فما زادت السماء إلا تقشُّعًا، والشمس إلا حرارة وأوحى الله إليه إنَّ فيكم عبد يبارزني منذ أربعين سنة بالمعاصي، فناد في الناس حتى يخرج من بين أظهركم، فبه منعتكم.
فقام مناديًا وقال: أيها العبد العاصي الذي يبارز الله منذ أربعين سنة, أخرج من بين أظهرنا، فبك مُنعنا المطر.
فقام العبد العاصي، فنظر ذات اليمين وذات الشمال، فلم ير أحدًا خرج، فعلم أنه المطلوب، فقال في نفسه: إن أنا خرجت من بين هذا الخلق افُتضحت على رءوس بني إسرائيل، وإن قعدت معهم منُعوا لأجلي، فأدخل رأسه في ثيابه نادمًا على فعاله، وقال: إلهي وسيدي, عصيتك أربعين سنة وأمهلتني وقد أتيتك طائعًا فاقبلني، فلم يستتم الكلام حتى ارتفعت سحابة بيضاء فأمطرت كأفواه القِرَب، فقال موسى: إلهي وسيدي, بماذا سُقينا وما خرج من بين أظهرنا أحد؟ فقال: يا موسى, سقيتكم بالذي به منعتكم.
فقال موسى: إلهيّ أرني هذا العبد الطائع. فقال: يا موسى إنّي لم أفضحه وهو يعصيني، أأفضحه وهو يطيعني؟! ( ).
تاسعًا: خطابـــــــه الودود
الذي يخاطبـــك به
الله عز وجل يملك كل شيء في هذه الأرض التي نسكنها، والسماء التي تراها أعيننا للهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [المائدة: 120].
وكل المخلوقات التي نراها من جبال وأنهار وبحار وأشجار ورمال وأحجار ودواب و...
كل هذا خاضع لله عز وجل وَللهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وكَرْهًا وظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآَصَالِ [الرعد: 15].
وخضوع الكون كله لله عز وجل خضوع سرمدي يغلّفه الحمد لإتاحته سبحانه الفرصة للوجود من العدم، واستمرار بقائه وحفظه، ويغلِّفه كذلك الإجلال لعظمته، والرهبة من جبروته وسلطانه وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ [الرعد: 13].
ومن مظاهر الإجلال والرهبة والخضوع لله عز وجل عبودية الملائكة له سبحانه، فهناك بعضهم في حالة من الركوع منذ أن خلقه الله عز وجل، ومنهم من هو في حالة السجود له سبحانه منذ أن خلقهم وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ [الأنبياء: 19، 20].
يقول صلى الله عليه وسلم: «إن لله ملائكة في السماء قيامًا إلى يوم القيامة ترعد فرائصهم من مخافته، ما منهم ملك تقطر من عينيه دمعة إلا وقعت على ملك يسبح، ولله ملائكة سجدوا منذ خلق الله السماوات والأرض لم يرفعوا رءوسهم، ولا يرفعونها إلى يوم القيامة، وصفوفًا لم يتفرقوا عن مقامهم إلى يوم القيامة، فإذا كان يوم القيامة تجلى لهم ربهم عز وجل، فينظرون إليه تبارك وتعالى، فقالوا: سبحانك ما عبدناك كما ينبغي لك»( ).
من أنت؟
هذا الإله العظيم بعظمته وجبروته, بجلاله وكماله, بعزه وسلطانه كيف يخاطبك أنت؟! ومن أنت؟! أنت ذرة يسيرة في ملكه لا تساوي شيئًا بجوار جبل من الجبال أو بحر من البحار، بل إن الأرض كلها بمن عليها بالنسبة لمملكته لا تساوي مقدار حبة رمل من صحراء شاسعة لا حدود لها.
وبالإضافة إلى ذلك فلا تنس أن ربك هو الذي أوجدك من العدم، فقبل شهور من ولادتك لم تكن شيئًا مذكورًا.
وتذكر أن حياتك كلها متوقفة على إمداداته، ولو توقفت تلك الإمدادات لانتهت حياتك.
ما المتوقع أن يكون خطاب العزيز للذليل، والغني للفقير، والقوي للضعيف، والعظيم للحقير، والكبير للصغير، والمعطي للآخذ، والقادر للعاجز.
أليس من المتوقع أن يكون الخطاب الموجه إلينا يتناسب مع صفاته سبحانه وصفاتنا؟
أليس من المتوقع من إله عظيم له هذا الملك والجلال والكمال أن يكون خطابه عبارة عن تعريف بمهمتنا مع بيان بالأوامر المطلوبة منا وكفى؟!
ولكنه ليس كذلك.
إنه خطاب عجيب يقطر ودا وحبًا.
خطاب عنوانه وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ [البقرة: 163].
خطاب يطمئن مستمعه
لو تفكرنا فقط في خطاب الله لعباده – مؤمنهم وكافرهم – لتأكدنا من حبه سبحانه لهم، وحرصه عليهم.
إنه خطاب يطمئن من يسمعه ويدفعه ويستدرجه للفرار في اتجاه قائله.. الفرار إلى الله، لا الفرار منه.
ولنبدأ بصيغة النداء:
تأمل نداءه سبحانه للعصاة والمجرمين الذي يحادونه، ويجاهرون بارتكاب كل ما يغضبه، ويصرون على ذلك، بل ويستهزئون بالمؤمنين.. بماذا يناديهم: يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر: 53].
إنه يناديهم بـ: يا عبادي، بكل ما يحمله هذا النداء من ود، وتلطف، وحنان. ثم انظر إلى ندائه للبشر جميعًا: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ [فاطر: 5].
وتأمل نداءه للنصارى الذين ادعوا عليه زورًا وبهتانًا أن له ولدًا وزوجة – حاشاه- يناديهم بقوله: يا أهل الكتاب، فيشعرهم بأن هناك صلة قوية بينهم وبينه، وأنهم ليسوا ببعيدين عنه.
ثم تأمل وتأمل نداءه لليهود الذين ارتكبوا من الآثام، ومظاهر العلو والاستكبار ما ارتكبوا .. قتلوا الأنبياء، وعبدوا العجل، وحاربوا المسيح – عليه السلام – وكذبوا بمحمد صلى الله عليه وسلم و ... ومع ذلك يناديهم فيقول لهم «يا بني إسرائيل» ..يا أبناء النبي إسرائيل .. نداء لطيف رقيق من المفترض أن يستثير مشاعرهم، ويستدرجهم لإصغاء سمعهم لما يتضمنه الخطاب الإلهي.
خطاب يقول لك: أقبل ولا تخف
نعم، أخي القارئ، إن خطاب الله عز وجل للبشر جميعًا خطاب مطمئن، يؤكد لهم فيه أن بابه مفتوح للجميع «يا ابن آدم إنك إن دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي».
«يا عبادي إنك تخطئون باليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعًا فاستغفروني أغفر لكم» إنه خطاب عجيب يناشدنا فيه الله عز وجل أن نستغفره ليغفر لنا... أن نستفيد بالفرصة المتاحة أمامنا قبل أن يحل بنا الأجل.
ففي كل ليلة وبالأخص ثلثها الأخير يوجِّه الله عز وجل نداءه لعباده ويقول لهم: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟! ( ).
فماذا تقول بعد ذلك؟!
ماذا تقول لمن يناديك وينادي عباده جميعًا فيقول: «يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم. يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم. يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم» ( ).
ماذا تقول لمن يطلب منك دومًا أن تحسن به الظن فهو لن يضيعك، ولن يتركك، فمراده دخولك الجنة. قال صلى الله عليه وسلم «لا يموتن أحد منكم إلا وهو يحسن الظن بالله تعالى»( ).
خطاب يستثير الهمم
ومن سمات خطابه سبحانه لعباده أنه يستثير همتهم لفعل الخير، وذلك من خلال قوة طرقه على مشاعر الرغبة، واستجاشته للعاطفة، والتركيز على الجزاء العظيم المترتب على الفعل الذي يريد منهم فعله.
فعلى سبيل المثال: الإنفاق في سبيل الله عمل عظيم يطهر نفس صاحبه من الشح، ويسمو بها إلى السماء، ويخلصها من جواذب الأرض، ومن ثم يصبح من اليسير عليها العمل للآخرة والزهد في الدنيا بمفهومه الصحيح.
هذا العلاج الناجع للنفس البشرية يريد الله عز وجل أن يجعلنا نتناوله بكثرة حتى ننتفع به، لذلك فهو يحببه لنا، ويرغبنا في القيام به بأساليب شتى، من أهمها رصد الجوائز الكبيرة والمغرية لمن ينفق من ماله في سبيل مرضاته كما قال عز من قائل: مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ [الحديد: 11].
ويتكرر هذا النوع من الخطاب الذي يستثير الهمم كثيرًا في القرآن: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدِّتْ لِلْمُتَّقِينَ من هم؟!
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ أُولَئِكَ جَزَاؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [آل عمران: 133، 136].
النصائح الغالية
أتَذْكر كم من المرات سمعت فيها نصائح غالية من أبويك وهما يوجهانك من خلالها نحو المعالي، ويحذرانك من العقبات التي قد تعترض طريقك؟
هذه النصائح ما انطلقت من ألسنتهما إلا بدافع الحب والشفقة والحرص على أن تكون في أحسن حال.
وكذلك يفعل الله مع عباده مع الفارق الكبير بين نصائحه ونصائحهم، وبين حبه وحبهم، وبين علمه وإحاطته بما يصلحك وبين علمهم.
فإن كنت تريد دليلا على ذلك فتأمل معي هذا الخطاب الناصح منه سبحانه للناس جميعًا والذي يقول فيه يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [فاطر: 5، 6].
وكذلك قوله لهم: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِن رَّبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَّكُمْ [النساء: 170].
وانظر إلى الخطاب الموجه لأهل الكتاب وما يحمل في طياته من نصائح غالية لهم على الرغم مما فعلوه من كفر وعصيان: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُوا ثَلاَثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَّكُمْ [النساء: 171].
وتأمل كذلك خطابه الناصح لليهود: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُمْ وَلاَ تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلاَ تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ [البقرة: 40، 41].
أما المؤمنين فوصاياه لهم كثيرة منها قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَمَن يَّفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلاَ أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ [المنافقون: 9، 10].
وأحيانًا نجد الخطاب جامعًا بين لهجة النصح ولهجة الإشفاق والحنو، التي يُشعر الله فيها عباده المؤمنين بمدى حبه لهم، وخوفه عليهم من الحساب في الآخرة: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لاَّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ [لقمان: 33].
اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ مَا لَكُم مِّن مَّلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُم مِّن نَّكِيرٍ [الشورى: 47].
التوجيه غير المباشر
ولعلمه سبحانه بطبيعة نفوسنا، وصعوبة قبولها النقد والتوجيه المباشر، كانت توجيهاته سبحانه غاية في التلطف والتوجيه الغير مباشر، وإن أردت أن تتأكد من ذلك بنفسك – أخي القارئ- فما عليك إلا أن تقوم بإحصاء أوامره المباشرة في القرآن فستفاجأ أنها لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، وفي المقابل تجد أن الله عز وجل كثيرًا ما يعرض لك أمرين ويبين سمات كل واحد منهما ثم يترك لك حرية الاختيار مثل قوله تعالى: الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً [الكهف: 46] وقوله: مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآَخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآَخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ [الشورى: 20].
وقوله تعالى: وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [الجمعة: 11].
مراعاة النفسية البشرية
ومن أبرز صور مراعاة الخطاب الإلهي لطبيعة النفس البشرية عدم الإكثار من قوله «أنا» عند سرده لنعمه على عباده، وفضله الذي لا حدود له.
فالنفس لا تحب سماع هذه الكلمة بكثرة من الطرف الذي يخاطبها، ومع أن الله عز وجل هو الذي خلقنا من العدم، وأعطانا من النعم ما لا يُعد ولا يُحصى، وأن من حقه أن يحدثنا بضمير المتكلم «أنا» وهو يعرفنا بنفسه وبنعمه وبقيوميته وقدرته و...
إلا أنه سبحانه لا يفعل ذلك، بل يتحدث عن نفسه – في غالب القرآن – بضمير الغائب «هو» هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ [يونس: 22].
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ [غافر: 13].
هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ [يونس: 5].
فأي رب رءوف ودود حي كريم هو ربنا.
ما بال أقوام؟!
ومن صور مراعاته سبحانه لطبيعة النفس البشرية توجيهه الغير مباشر لعباده في خطابه لهم، فحين يريد تحذير المؤمنين من القيام بفعل ما، فإنه لا يتوجه مباشرة بذلك – في غالب الأحيان – بل يحدثهم عن أناس آخرين – بصيغة النكرة – ويشهَّدهم عليهم، ويجعلهم يستنكرون أفعالهم، مع أنهم قد يكونون هم المعنيين بهذا التحذير، ومن ذلك قوله تعالى: "وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا" [إبراهيم: 34] الخطاب هنا موجه لنا بأن علينا أن نجتهد في إحصاء نعم الله كصورة من صور الشكر، ومن المفترض أن يكون التحذير الذي تتضمنه الآية بعد ذلك من مغبة عدم ذكر النعم حتى لا نقع في دائرة الظلم والكفر موجه لنا كذلك، فهل جاء الخطاب يحمل هذا المعنى المباشر.
لا، لم يحدث ذلك، بل جاء وكأنه يخاطب شخصًا آخر: وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم: 34].
الخطاب موجه للإنسان, وكأنه شخص آخر بعيد لا نعرفه، مع أن الخطاب في بدايته موجه لنا، ومما لا شك فيه أن هذا التلطف العجيب في التوجيه والنصح له دور كبير في استقبال النصيحة بنفس هادئة.
لماذا العقاب؟
ومن مظاهر خطابه المطمئن لعباده أنه يذكر لهم دومًا السبب الذي من أجله عاقب فردًا أو قومًا في الماضي، مع أنه الإله العظيم ملك الملوك الذي لا ينبغي أن يُسأل عما يفعل، لكنه في نفس الوقت الرب الودود الذي يحب عباده ويريد منهم أن يفروا إليه، لا أن يفروا منه، لذلك تراه سبحانه يُفصَّلِ في الأسباب التي أدت إلى عقوبة العصاة، وأنه قد صبر عليهم وأمهلهم وأعطاهم الفرصة تلو الفرصة، ولكنهم هم الذين أبوا العودة إليه، وأصروا على طغيانهم، واستكبروا عليه سبحانه، وحاربوا عباده، فاستدعوا بأفعالهم الكثيرة الظالمة غضب الحليم عليهم وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ [القصص: 59].
ومع العقاب المستحق للظالمين، والذي يقع بعد طول إمهال، نجد التعقيب القرآني: يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ [يس: 30]. فالله عز وجل لا يرضى لعباده هذا المصير، وأنهم هم الذين أبوا أو استكبروا إلا أن يسيروا إليه، ولو تأملنا القرآن لوجدنا أن هذا الأمر واضح فيه تمام الوضوح، وأن الله عز وجل لا يظلم أحدا، لذلك نجده سبحانه يذكر لنا دومًا أسباب العقوبة التي يعاقب بها الناس.
تأمل معي قوله تعالى: لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ.
فماذا فعل أهل سبأ؟ هل شكروا هذه النعم العظيمة؟ لم يفعلوا ذلك، بل أكلوا من رزق ربهم ولم يشكروا له؟ وتبطروا على نعمه، فاستدعوا العقاب من الله عز وجل لهم فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ ثم تأتي حيثيات هذه العقوبة ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا ويتلوها الخطاب المطمئن وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ الْكَفُورَ [سبأ: 15- 17].
وتأمل قوله تعالى وهو يحدثنا عن اليهود ولماذا عاقبهم بما عاقبهم، وكيف أنه صبر عليهم طويلا، ولكنهم هم الذين أصروا على طغيانهم يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللهِ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَن ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُّبِينًا تأمل قوله: فَعَفَوْنَا عَن ذَلِكَ.
وتمضي الآيات تعدد م