من مظاهر حب الله لك:
هدايته وعصمته ودوام عافيتـــــه
خلصنا مما سبق أنه قبل أن تولد وتخرج إلى الدنيا اختارك الله عز وجل لتكون من مخلوقاته، وأكرمك أكثر وأكثر فجعلك واحدًا من بني آدم، واختارك لهذا الزمان ابنًا لأبوين مسلمين ناطقين بالعربية.
أحلَّ روحك في شكل مناسب، وعافاك من كثير من الأمراض الخِلقية قبل أن تبدأ رحلتك على الأرض.
واستمر فضله عليك حتى يومك هذا...
استمر فضله في نعمة العافية، فقد حفظك طيلة سنوات عمرك الماضية من الإصابة بأمراض كثيرة، وإذا ما أردت أن تعرف حجم هذا الحفظ، فتأمل كل صاحب مرض قد عافاك الله منه.
مئات بل آلاف الأمراض التي تصيب أجهزة الجسم وأعضاءه المختلفة قد عافاك الله منها.
لو علمت عدد الفيروسات والكائنات الدقيقة ومسببات الأمراض التي تحيط بنا، وتسبب أمراضًا خطيرة، والتي لا يمنعها من مهاجمتنا إلا الله عز وجل، لهرعت إلى السجود الطويل شاكرًا لله عز وجل على حفظه لك طيلة هذه السنين، ولسألته دوام وتمام العافية.
هدايته لك
أخي القارئ, يا من أكرمك الله عز وجل بالإيمان.
أتدري ما الذي حدث معك لتكون من أهل المساجد، بل من أهل الصلاة أصلا، ومن أهل الصيام والذكر والصدقة وفعل الخير؟!
لقد حبب الله إلى قلبك الإيمان، وشرح له صدرك، وكره إليك طريق الضلال والغي، ولو أردت أن تدرك حجم هذه النعمة العظيمة فتأمل أقرانك وجيرانك، وزملاء دراستك.
كم واحد منهم مثلك في تدينك والتزامك؟!
أتظن أن لك يدًا في ذلك؟! لا والله، بل هو محض الفضل الإلهي الذي منَّ الله به عليك وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ [النور: 21].
إن كل صلاة صليتها كان الله سبحانه سببًا في أدائك إياها.
فقد كان من الممكن ألا تجد في نفسك همة ولا عزيمة للقيام بها، بل فتور وتكاسل.
كان من الممكن أن يصيبك شيء يقعدك، ويعيقك عن أدائها.
كان من الممكن أن يأتيك من يشغلك عنها, يأتيك اتصال هاتفي طويل، أو تحدث مشكلة تتدخل لحلها أو ...
كان من الممكن أن تذهب إلى أدائها فلا يطاوعك لسانك على الذكر، ولا أعضاؤك على الحركة.
هذه هي الحقيقة، فالذي مكنك من هذا كله وأزال عنك العوائق وشرح صدرك لأدائها هو ربك الودود، فليس بينك وبين ترك الصلاة إلا أن يتركك الله عز وجل لنفسك وحبها الدائم للراحة وكرهها المعهود للتكليف.
وكن على يقين بأن الفضل الإلهي يحدث مع كل صلاة تصليها، وكل صوم تصومه، وكل صدقة تتصدق بها، وكل تسبيحة تسبحها وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي [سبأ: 50].
العصمة
أما عن مظاهر حب ربك لك في جانب العصمة من الفجور والكفر فمن الصعب إدراك أبعادها، ويكفيك في ذلك أن كل معصية تحدث على وجه الأرض من كفر واستهزاء بالدين، وإلحاد، وسرقة، وزنا، و تعامل بالربا، وأكل أموال الناس بالباطل، وغش، وخداع، ورشوة، وعقوق للوالدين، و....
كل هذه المعاصي وغيرها لا يمنعك من القيام بها سوى ربك الذي كرَّهك فيها، وصرف ذهنك عنها، وأبعدك عن طريقها، وأبعدها عن طريقك.
فإن قلت: وهل من الممكن أن أفعل ذلك وأنا لم أقترف شيئًا منها طيلة حياتي، ولم أفكر فيها؟
نعم أخي، من الممكن أن يفعلها أي واحد منَّا لو تركه الله عز وجل ولم يعصمه منها، فلا يوجد في البشر من يستعصي على فعل المعصية – صغيرة أو كبيرة – وذلك لطبيعة النفس البشرية الأمارة بالسوء ووجود الشيطان الذي يوسوس ويزين للنفس فعل المعاصي.
فإن كنت في شك من هذا فتأمل معي دعاء إبراهيم عليه السلام لربه وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأصْنَامَ [إبراهيم: 35]. وكذلك يوسف الصديق عليه السلام عندما استجار بربه ليصرف عنه فعل السوء وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ [يوسف: 33].
فماذا تقول لربك بعد ذلك؟!
ماذا تقول لمن عصمك من الكفر والفسوق والعصيان؟!
ماذا تقول لمن اجتباك وهداك إلى صراطه المستقيم؟!
ألا ينبغي لنا أن نردد – بيقين – ما كان يقوله رسولنا صلى الله عليه وسلم لربه في صباح كل يوم: وإنك إن تكلني إلى نفسي تكلني إلى ضعف، وعورة، وذنب وخطيئة، وإني لا أثق إلا برحمتك( ). ونقول: الْحَمْدُ للهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلاَ أَنْ هَدَانَا اللهُ [الأعراف: 43].
* * *
ثالثًا: من مظاهر حب الله لك:
قيامه على شئونك
تخيل معي لو أن شخصًا ما يقوم برعايتك باستمرار، ويدير كل شئونك.. يأتيك بالطعام والشراب وسائر ما تحتاج.
تريد الماء فتجده يسارع بإحضاره، وسقايته لك.
تريد الطعام فيشتريه ويطهيه ويناولك إياه، بل يطعمك بنفسه.
يحمل عنك أغراضك، ويقضي لك حوائجك.
تنام فيظل ساهرًا بجوارك، يحرسك ويحميك، ويطمئن عليك.
تخيل لو أن شخصًا يفعل معك ذلك كل يوم وبدون مقابل.. ماذا ستكون مشاعرك نحوه؟!
أليست مشاعر الامتنان والحب هي التي ستغمرك تجاهه؟!
فإن كان من الطبيعي أن تتملكك هذه المشاعر تجاه من يتولى رعايتك في بعض جوانب حياتك، فماذا ينبغي أن تكون مشاعرك تجاه من يتولى القيام على جميع شئونك منذ أن ولدت وحتى يومنا هذا.. وحتى لحظتك هذه؟!
لا حول ولا قوة إلا بالله
لقد خلقنا الله عز وجل من العدم وجعل لنا السمع والأبصار والأفئدة والأطراف والأجهزة المختلفة كأسباب تتيسر لنا من خلالها الحياة بلا منغصات.
هذه الأسباب لا تملك في نفسها القدرة الذاتية على القيام بوظائفها المختلفة، فالعضلات- مثلا- خلقها الله عز وجل ولديها القابلية للانقباض والانبساط، لكن الذي يمدها بالفاعلية والقدرة على ذلك هو الله سبحانه وتعالى. في كل لحظة وطرفة عين يمدها سبحانه بما يكفل لها القيام بوظيفتها ولو تخلى عنها طرفة عين لما انقبضت، ولا انبسطت، فإذا أردت الضحك لا تطاوعك عضلات فمك فيما تريد لأنها بدون المدد الإلهي تبقي عاجزة وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى [النجم: 43].
هذه هي الحقيقة فهو سبحانه الذي أضحك وأبكى، وهو الذي أقام وأقعد، وهو الذي حرَّك وسكَّن.
نعم- أخي القارئ- لا قيمة لأحد منا بدون الله، وكيف لا وكل خلية تعمل في جسمك فإن ربك هو القائم عليها، وعلى تدبير شئونها.
القلب يتعاهده ويحفظه ويتولى ضبط سرعة ضخه للدم.
اللقمة التي تأكلها في فمك يتولى سبحانه وتعالى عملية تسييرها وهضمها وامتصاص النافع منها، وإخراج ما ينبغي إخراجه.
النَفَس الذي تتنفسه يتولى سبحانه عملية دخوله إلى الرئتين وأخذ مادة الأكسجين منه وإخراجه محملا بثاني أكسيد الكربون.
الكُلية يعمل بها حوالي مليون جهاز ترشيح يقوم عليهم جميعًا ويتولى أمر حفظهم وإمدادهم بالقدرة على تنقية الدم والسوائل مرات ومرات في اليوم الواحد.
يقوم سبحانه على الجهاز العصبي والإحساس, وعلى الجهاز المناعي، وعلى الغدد وما تفرزه من هرمونات تحتاج دومًا إلى ضبط نسبها الدقيقة في الدم.
قائم على الدم، وضبط درجة سيولته في كل لحظة، فلو زادت لحدث النزيف ولو نقصت لكانت الجلطات والعياذ بالله.
يتولى سبحانه أمر إبصارك بالعين، وسماعك بالأذن، ونطقك باللسان.
يمدك بالماء ويمكنك من شربه، ويمده بالقدرة على إروائك وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ [الحجر: 22].
يتولى أمر إثمار الطعام بأنواعه لتجده أمامك في أي وقت تشاء فَلْيَنظُرِ الإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَبًا وَقَضْبًا وَزَيْتُونًا وَنَخْلاً وَحَدَائِقَ غُلْبًا وَفَاكِهَةً وَأَبًّا مَتَاعًا لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ [عبس: 24- 32].
يوحي إليك فعل الخيرات ويحببها إليك، ويصرف عنك فعل المنكرات ويكرهك فيها.
يجعلك تنام لترتاح، ويتولى حفظك وأنت نائم، ثم هو الذي يوقظك ويرد إليك روحك.
قريب منك.. أقرب مما تتخيل، يجيب دعاءك إذا ناديته بصدق وطلبت منه حاجتك.
وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة: 186].
يحميك من نفسك ومن عدوك وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [فصلت: 36].
يحفظ لك أولادك وأهلك «اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل».
فماذا تقول لمن يفعل معك كل هذه الأمور وغيرها كل يوم ومنذ أن ولدت؟!
ماذا تقول لمن يطعمك ويسقيك وإذا مرضت فهو الذي يشفيك؟!
فلتردد معي قوله صلى الله عليه وسلم: «الحمد لله الذي يطُعمِ ولا يُطعمَ، منَّ علينا فهدانا، وأطعمنا وسقانا، وكل بلاء حسن أبلانا، الحمد لله غير مودّع ربي، ولا مكافأ ولا مكفور ولا مستغني عنه، الحمد لله الذي أطعم من الطعام، وسقى من الشراب، وكسا من العُري، وهدى من الضلالة، وبَصَّر من العَمي، وفضّل على كثير ممن خلق تفضيلا، الحمد لله رب العالمين»( ).
* * *
رابعًا: من مظاهر حبه لك:
تسخيـــر الكون لك
الله عز وجل خلق الإنسان ليكون عبدًا له، وسيدا لما سواه، فلقد جعل الكون المحيط به مسخرًا لخدمته، يعمل من أجل راحته هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا [البقرة: 29] وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأنَامِ[الرحمن : 10].
انظر- مثلا- إلى السماء فستجد الشمس تتحرك حركة دائبة كل يوم من المشرق إلى المغرب، لم تخلد يومًا إلى الراحة، وكيف تفعل ذلك وتغيب عنا وهي مأمورة بإمدادنا بالضياء والطاقة؟
والقمر كذلك يتحرك حركة دائبة من أول يوم في الشهر العربي يكون فيه هلالاً يكبر يوما بعد يوم فيكون بدرًا يضيء السماء ثم يعود كما كان في نهاية الشهر فيساعدنا بذلك على معرفة الأيام والشهور اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأنْهَارَ وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ [إبراهيم: 32- 33].
أنت القائد
أنت قائد هذا الكون أيها الإنسان، فكل ما فيه مسخر لخدمتك..
انظر إلى جسمك وتأمل ما فيه من جوانب التسخير والخدمة لك أيها المكرم.. فعينك مُسخَّرة لترى بها ما حولك، ولسانك ما هو إلا خادم لك لتعبِّر من خلاله عما تريده، ويدك للبطش والكتابة، والتسبيح، ورجلك للحركة والذهاب إلى
حيث تشاء.
كل هذا يتم دون اعتراض أو تمنُّع، بل استسلام تام وانقياد تام لأوامرك.
هل فكرت يومًا في الطعام الذي تأكله كيف تتم رحلته داخل جسمك فيحدث من خلالها الهضم والامتصاص وإخراج الفضلات.
إن الأجهزة الداخلية تعمل داخلك ليل نهار لتقوم على راحتك، فلا تجهد ذهنك في التفكير عن كيفية عملها وماذا يحدث في داخل الرئتين أو القلب أو الكبد أو....
لا تفكر في كيفية التئام جرح من الجروح فهناك من يقوم بذلك.
أرح نفسك من هذا كله فهناك خدم كثيرون لا يحصى عددهم يقومون على خدمتك.
أيها المدلل
انظر إلى طعامك وتخيل أن هذه الخضروات والفواكه لن تكون موجودة بهذه السهولة، وأن المطلوب منك هو أن تقوم بنفسك على عملية استخراجها من مكوناتها الأصلية.
كم من الوقت والجهد ستبذله للحصول على بعض ثمار الخيار مثلا، بل على ثمرة واحدة؟!
أيها المدلل...
أتدري أن هناك مصانع لا تعد ولا تحصى موجودة تحت الأرض وفوقها تعمل ليل نهار- بإذن ربها- من أجل أن توفر لك شتى أنواع الأطعمة وما عليك إلا أن تجمع إنتاجها، وتختار منه ما يروق لك؟!
تخيل ثم تخيل
تخيل- أخي القارئ- أن الدابة التي تستخدمها في تنقلاتك من مكان لآخر، قد أنطقها الله عز وجل، فإذا هي تسألك قبل تحركها بك عن وجهتك، ولماذا تذهب إلى هذا المكان، وكم من الوقت ستستغرقه فيه و.....
تخيل أن الماء الذي تريد شربه لا يتحرك في فمك، بل يسألك لماذا تشرب الآن؟ ألم تشرب منذ قليل؟!
تخيل أنك تريد الكتابة فلا تتحرك معك يدك بل توبخك على كثرة استخدامها وعدم إعطائها راحتها.
تخيل ذلك وتخيل أن كل من حولك من المخلوقات يتكلم، ويناقش قبل قيامه بتنفيذ الأوامر.. ثم اسأل نفسك كيف ستكون الحياة بهذا الشكل؟!
لا تستغرب – أخي- هذا الكلام، فبالفعل قد أنطق الله بقرة في عصر من العصور السابقة لتكون آية للناس تشعرهم بحجم نعمة التسخير، ونعمة صمت الكائنات من حولنا.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح، ثم أقبل على الناس، فقال: «بينا رجل يسوق بقرة إذ ركبها فضربها، فقالت: إنَّا لم نخلق لهذا، إنما خلقنا للحرث، فقال الناس: سبحان الله، بقرة تتكلم؟ فقال: فإني أومن بهذا أنا وأبو بكر وعمر...». ( )
سل نفسك
وبعد أن تخيلت ما تخيلت، سل نفسك:
هل يرفض الماء إرواءك، والطعام إشباعك؟!
هل ترفض الدواب حملك إلى المكان الذي تريد ولو كان لا يرضي الله عز وجل؟!
هل امتنعت النار عن الإحراق والماء عن الغليان؟!
هل امتنعت الشمس يومًا عن الإشراق، والليل عن الإظلام؟!
تأمل ثم تأمل هذا اللون العجيب من نعم التسخير والتكريم لك أيها الإنسان واسأل نفسك- مرة أخرى- لماذا ميزك الله عن سائر مخلوقاته؟!
ولماذا هيأ الكون كله لخدمتك، وجعلك قائده وسيده؟!
هل هناك جواب آخر غير أنه يحبك ويريد لك النجاح في المهمة التي خُلقت لأجلها، ومن ثَّم دخول الجنة والتمتع بنعيمها الأبدي؟!
جاء في الأثر: «يا ابن آدم خلقت كل شيء لك، وخلقتك لنفسي، فلا تشتغل بما خلقته لك عما خلقتك له».
***
خامسًا: من مظاهر حبه لك
كرمه البالغ وهداياه المتنوعة إليك
إن ميزان العدل يقول إن من عمل حسنة كان جزاؤه حسنة، ومن عمل سيئة كانت عليه سيئة، ولكن ميزان الكرم والفضل الإلهي له رأي آخر وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا [الشورى: 23].
فميزان الحسنات يختلف عن ميزان السيئات, كرمًا منه سبحانه وتعالى، وحبًا لعباده، ورغبة في دخولهم الجنة مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ [الأنعام: 160].
تأمل أخي القارئ قوله صلى الله عليه وسلم: «فمن همَّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، فإن هو همَّ بها فعملها كتبها الله له عنده عشر حسنات إلى سبع مائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، ومن همَّ بسيئة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة، فإن هو همَّ بها فعملها كتبها الله له سيئة واحدة».( )
فإن كنت في شك من جوده وكرمه فماذا تقول في قوله صلى الله عليه وسلم: «من قال سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة حُطت ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر».( )
وماذا تقول في قوله صلى الله عليه وسلم: «من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، عشرًا، كان كمن أعتق رقبة من ولد إسماعيل».( )
وغير ذلك من الأعمال المتاحة للجميع في أي وقت، والتي رتب الله على أدائها عظيم الثواب.
من الأمير؟
جعل الله عز وجل لكل عبد من عباده ملكان يحصيان عليه أعماله, مَلَك على اليمين يكتب الحسنات، وملك على الشمال يكتب السيئات، فمن هو الأمير الذي له الكلمة على الآخر؟!
يقول صلى الله عليه وسلم: «صاحب اليمين أمير على صاحب الشمال، فإذا عمل عبد حسنة كتبها بعشر أمثالها، فإذا عمل سيئة فأراد صاحب الشمال أن يكتبها قال له صاحب اليمين: أمسك، فيمسك ست ساعات، فإن استغفر منها لم يكتب عليه شيئًا، وإن لم يستغفر كُتبت عليه سيئة واحدة».( )
أأدركت أخي قدر المعاملة الكريمة التي يعاملنا الله بها؟!
كريم في عطاياه
هذا من ناحية الكرم في الجزاء، أما الكرم في العطاء والرزق فحِّدث ولا حرج.. انظر معي إلى أصناف الفواكه مثلا، ألم يكن يكفينا صنف أو صنفان يدُخلان السرور علينا، ونتمتع بلذيذ طعمها؟! ولكنه الكرم الإلهي الغير محدود الذي أتاح لنا هذه الأنواع الكثيرة كي نتمتع بها، بل إن الصنف الواحد له عدة صور، وقل مثل هذا على الخضروات والطيور والأسماك.. هذا مع العلم بأننا لم نعرف بعد كل أنواع هذه المأكولات.
بل العجيب أن هناك مخلوقات خلقها الله عز وجل لإشاعة البهجة في نفوسنا عند رؤيتها وَأَنْزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ [النمل: 60].
الهدايا المتنوعة
لقد وصانا نبينا صلى الله عليه وسلم بالتهادي فيما بيننا ليزداد الحب، فالهدية لها تأثير عجيب في استمالة القلوب تجاه مُعطيها؛ قال صلى الله عليه وسلم «تهادوا تحابوا».( )
هذه الوسيلة العظيمة ذات الأثر المجرب في تنمية الحب يفعلها معنا ربنا باستمرار، فهداياه لا تنقطع عنا رغم إعراضنا الشديد عنه, يتحبب بها إلينا حتى نزداد له حبًا، وهو من هو.. هو الإله العظيم الذي خضعت له السماوات والأرض والجبال والبحار وكل شيء في هذا الكون.. هو الله الذي له ملكوت كل شيء.
هو الرب الغني الذي لا ينتظر من عباده طاعة تنفعه، ولا يخشى منهم معصية تضره- حاشاه- هذا الإله بجلاله وكماله وملكه العظيم يتودد ويتحبب إلينا بإرسال تحفه وهداياه كل حين, قال صلى الله عليه وسلم: «إن لربكم في أيام دهركم نفحات فتعرضوا لها، لعل أحدكم أن يصيبه منها نفحة لا يشقى بعدها أبدًا».( )
ومن هذه النفحات والهدايا: يوم عرفة.. فإن صمته أخي القارئ غُفر لك ذنوب عامين, عام سابق وعام لاحق، وإن استطعت أن تكون في أرض عرفة في هذا اليوم تستغفر ربك غُفرت كل ذنوبك، وأصبحت كيوم ولدتك أمك.. بلا ذنوب ولا خطايا.
وكذلك يوم عاشوراء فمن صامه غُفرت له ذنوب عام كامل.
والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهما إذا ما اجتنبت الكبائر.
وفي شهر رمضان: الفريضة فيه بسبعين فريضة، والعبادة في ليلة القدر خير من عبادة ألف شهر.
فماذا تقول لمن يهديك كل هذه الهدايا بلا مقابل ينتظره؟!
«يا عبادي لو أن أولكم وأخركم وأنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئًا».
قال بعضهم: ليس العَجَب من فقير يتودد، وإنما العجب من غني يتحبب.
يرضى بالحمد شكرًا
إن الحقيقة التي لا مرية فيها أن لله عز وجل هو الذي يطعمنا ويسقينا ويتولى جميع شئوننا بالإمداد والرعاية ولولاه ما كانت حياة.
والمفترض أن يكون المقابل الذي نؤديه لله عز وجل كشكر له على نعمه وإمداده المتواصل لنا: هو السجود المتواصل، والتسبيح المطلق كحال الكون كله وما فيه من مخلوقات يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ [الأنبياء: 20].
ولكنه- سبحانه وتعالى- لم يطلب منا ذلك، بل طلب أعمالا يسيرة لا تستغرق منا وقتًا معتبرًا، ويكفيك في هذا قولهصلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة، أو يشرب الشربة، فيحمد الله عليها».( )
بل إنه سبحانه وتعالى يعلي من شأن هذا الحمد كما قال صلى الله عليه وسلم «ما أنعم الله على عبد نعمة، فحمد الله عليها، إلا كان ذلك الحمد أفضل من تلك النعمة».( )
رب شكور
بلا شك أن الله عز وجل هو الذي يحبب إلينا فعل الخير، ويعيننا على القيام به، ويصرف عنا الشواغل، ويزيل العوائق، فلولاه سبحانه ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلاَ أَنْ هَدَانَا اللهُ [الأعراف: 43].
ومع ذلك فإننا نجده سبحانه يُعظِّم أعمالنا ويكبرها، ويشعرنا بأننا قد فعلنا شيئًا عظيمًا.. تأمل قوله لأهل الجنة ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [النحل: 32].
أهذه الأعمال القليلة تستحق هذا الجزاء العظيم لو افترضنا أن أصحابها بالفعل قد قاموا بها دون إعانة من أحد؟ فما بالك والأمر غير ذلك، فالله عز وجل هو الذي وفقهم وأعانهم للقيام بها, ثم يقول لهم بعد ذلك وهم يتقلبون في صور النعيم في جنات الخلود: إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُورًا [الإنسان: 22].
تخيل لو أن رجلا غنيًا- واسع الثراء- له صديق فقير يحبه كثيرًا ويريد أن يساعده دون أن يجرح مشاعره، فهداه تفكيره إلى أن يطلب منه القيام ببعض الأعمال البسيطة الخاصة به، فلما قام بها أعطاه مقابل ذلك عطاء كبيرًا، ولم يكتف بذلك بل أشعره بأن ما قام به من أعمال قد عادت عليه بنفع كبير، وأنه مهما أعطاه فلن يستطيع أن يوفيه حقه، و...
كل هذا ليقبل صديقه الفقير أعطيته بنفس راضية، على الرغم من أن هذا الفقير يعلم في قرارة نفسه أن هذا المقابل لا يتناسب بأي حال من الأحوال مع ما قام به من أعمال.
هذا تشبيه- مع الفارق- لما يستشعره أهل الجنة عندما يفاجئون بنعيم لا يمكن تخيله جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ [فاطر: 33].
فماذا يقولون بعد ذلك؟!
وَقَالُوا الْحَمْدُ للهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلاَ أَنْ هَدَانَا اللهُ [الأعراف: 43] فإذا بهم يفاجئون بنداء يقول لهم: بل هذا حقكم وجزاء أعمالكم وَنُودُوا أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الأعراف: 43].
كرم عجيب
تأمل معي أخي القارئ هذا الحديث الشريف الذي يخبرنا عن حوار دار بين آخر رجل يدخل الجنة، وبين الله عز وجل، فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني لأعلم آخر أهل النار خروجًا منها، وآخر أهل الجنة دخولا الجنة. رجل يخرج من النار حبوًا، فيقول الله عز وجل له: اذهب فادخل الجنة، فيأتيها، فيخيل إليه أنها ملأى، فيرجع فيقول: يا رب وجدتها ملأى! فيقول الله عز وجل له: اذهب فادخل الجنة، فإن لك مثل الدنيا وعشرة أمثالها أو أن لك مثل عشرة أمثال الدنيا، فيقول: أتسخر بي، أو تضحك بي وأنت الملك» قال: فلقد رأيت رسول الله × ضحك حتى بدت نواجذه، فكان يقول: «ذلك أدنى أهل الجنة منزلة».( )
وفي نهاية الحديث عن مظاهر الكرم الإلهي أتركك- أخي- تتأمل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله رحيم، حيٌّ، كريم، يستحي من عبده أن يرفع يديه ثم لا يضع فيهما خيرًا»( ).
* * *
سادسًا: من مظاهر حب الله لك:
رحمته ورأفته بك وشفقته وحنانه عليك
في يوم من الأيام وبينما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بين صحابته إذ جاءه سَبْي،
وفي هذا السَبْي امرأة تسعى ملهوفة مضطربة- فقد ضاع منها صبيها- واستمرت على ذلك الحال الشديد حتى وجدته، فأخذته وضمته إلى صدرها بشدة، ثم أرضعته.
منظر مؤثر دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن يعلق عليه ويقول لأصحابه: «أترون هذه طارحة ولدها في النار»؟! قالوا: لا والله. قال «الله أرحم بعباده من هذه على ولدها».( )
وفي بعض مغازيه صلى الله عليه وسلم وبينما كان يسير مع أصحابه، إذ أخذ بعضهم فرخ طير، فأقبل أحد أبويه حتى سقط في أيدي الذي أخذه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا تعجبون لهذا الطير أُخذ فرخه فأقبل حتى سقط في أيديهم، والله لله أرحم بخلقه من هذا الطير بفرخه».( )
نعم، أخي القارئ، الله عز وجل أرحم بنا من أمهاتنا، ومن آبائنا، وأبنائنا وأزواجنا. يقول عبد الله بن مسعود: لله أرحم بعبده يوم يأتيه، أو يوم يلقاه، من أم واحد فرشت له بأرض قرّ، ثم قالت (نامت) فلمست فراشه بيدها، فإن كان به شوكة كانت قبله، وإن كانت لدغة كانت بها قبله.( )
لا وجه للمقارنة
فإن قلت إن والديَّ لا يفتآن يدعوان لي بالصلاح والفلاح حرصًا منهما عليَّ وعلى استقامتي، ذكرناك بقوله تعالى هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا [الأحزاب: 43].
وإن قلت فإن والدي يعتصرهما الألم والشفقة إذا ما أصابني مكروه من مرض ونحوه، بشرناك بأن الله عز وجل يشملك وقت مرضك- عافاك الله من كل مكروه- برعاية ومعية لا يمكن تصورها، ويكفيك في ذلك هذا الحديث القدسي الذي يخبرنا بأن الله عز وجل يقول يوم القيامة: «يا ابن آدم مرضت فلم تعدني قال: يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلم تعده؟! أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده»... الحديث( ).
وليس هذا فحسب بل إنه سبحانه وتعالى قد رغَّب عباده في عيادة المريض، ووعدهم على ذلك بعظيم الجزاء لتكون الزيارة سببًا في رفع معنويات المريض، وتخفيفًا عنه، وتسرية له.
قال صلى الله عليه وسلم: «ما من مسلم يعود مسلمًا غُدْوَة إلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يمسي، وإن عادة عشيّة صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يصبح، وكان له خريف في الجنة».( )
وليس ذلك للمريض فحسب، بل لكل أصحاب الحالات الخاصة والضعفاء كأهل البلاء والأرامل والأيتام.
فهؤلاء تزداد الرحمة والشفقة الإلهية عليهم، وتزداد تبعًا لذلك وصاياه لنا برعايتهم مع وعده – سبحانه- بعظيم الجزاء الذي يفوق ويفوق ثواب الكثير من العبادات.
ففي الحديث الذي رواه أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله» وأحسبه قال: «وكالقائم الذي لا يَفتُر، وكالصائم الذي لا يُفطر»( ).
ويخبرنا عليه الصلاة والسلام مبلغًا عن ربه بأن «من عال جاريتين حتى يبلغا جاء يوم القيامة أنا وهو كهاتين» وضم أصابعه ( ).
أما عن اليتيم فلا تسل عن فضل كفالته.. يكفي أن كافله سيكون جار رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنة.
وليس هذا فحسب، بل كان الترهيب الشديد من تضييع أمواله إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [النساء: 10].
ولماذا الابتلاء؟!
قد يقول قائل: ولماذا هذه الأقدار المؤلمة، والابتلاءات الشديدة التي تتنافى
-ظاهرًا- مع مظاهر الرحمة الإلهية بالناس؟!
نعم، قد يكون لهذا السؤال وجاهته إن كانت الدنيا هي دار النعيم الأبدي والمستقر النهائي، ولكن الدنيا ليست كذلك، فهي دار اختبار، يؤدي كل من عليها امتحانًا في مدى عبوديته لربه إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً [الكهف: 7].
هذا الامتحان مكون من تكاليف يقوم بها الفرد، وأدوات عليه أن يُحسن التعامل معها، فالتكاليف هي الأوامر والنواهي، والأدوات هي العطاء والمنع.
أما العطاء فهو كل ما يرد على العبد من النعم، والمطلوب منه أن يشكر الله عليها.
والمنع هو كل ما يمنع الله منه العبد من صحة أو مال أو....، والمطلوب أن يصبر على ذلك ابتغاء وجه الله.
فالعطاء ليس دليل كرامة من الله للعبد، والمنع ليس دليل إهانة، بل كلاهما مواد اختبار فَأَمَّا الإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاَهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاَهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ كَلاَّ [الفجر: 15- 17].
فإن قلت: ولماذا لا يمتحن الناس جميعًا في مادة العطاء؟
لو كان الجميع في صحة وعافية ورزق وفير ما استشعر الناس قيمة هذه النعم، ولما انكشف المتواضع من المتكبر، ولا الشاكر من الجاحد، ولا الصابر من الشاكي ربه.. ألم يقل سبحانه: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ [محمد: 31].
وقال: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِيمَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ [الأنعام: 165].
هذا من ناحية ومن ناحية أخرى فإن الله عز وجل يبسط الرزق أو يمنعه عن عباده حسب ما يصلحهم، وبحسب حالتهم التي لا يعلمها سواه إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَّشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا [الإسراء: 30].
لذلك جاء في الحديث القدسي يقول الله عز وجل: «إن من عبادي من لا يُصلح إيمانه إلا الغني ولو أفقرته لأفسده ذلك، وإن من عبادي من لا يُصلح إيمانه إلا الفقر ولو أغنيته لأفسده ذلك، وإن من عبادي من لا يُصلح إيمانه إلا الصحة، ولو أسقمته لأفسده ذلك، وإن من عبادي من لا يصلح حاله إلا السقم ولو أصححته لأفسده ذلك...». ( )
وما يؤكد هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى ليحمي عبده المؤمن من الدنيا، وهو يحبه، كما تحمون مريضكم الطعام والشراب، تخافون عليه».( )
من فوائد الابتلاء
الله عز وجل يبتلي عباده ليذكِّرهم به، وبضرورة العودة إليه قبل فوات الأوان وَأَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الزخرف: 48] فهو إذن مظهر عظيم من مظاهر رحمة الله بالعصاة وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ [الأنعام: 42].
ويبتلي سبحانه عباده كذلك ليطهرهم من ذنوبهم في الدنيا قبل أن لا يصبح أمامهم طريقة للتخلص منها إلا بالنار.
أيهما أهون علينا- أخي القارئ- التطهير في الدنيا أم التطهير في الآخرة بالنار والعياذ بالله.
ألم يقل صلى الله عليه وسلم: «ما يُصيب المسلم من نصب، ولا وصب، ولا هم، ولا حزن، ولا أذى، ولا غم، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه».( )
وقال: «ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة، في نفسه وولده وماله، حتى يلقى الله وما عليه من خطيئة»( ).
وهناك طائفة أخرى من العباد الطائعين لربهم، يريد سبحانه أن يكافئهم برفع درجاتهم في الجنة، ولكن أعمالهم لا يمكنها أن ترقى بهم إلى هذه الدرجات فكان الابتلاء وسيلة يستخرج الله عز وجل من قلوب هؤلاء ألوانًا من العبودية من ذل وانكسار وفقر واضطرار ما كانت لتخرج من قلوبهم إلا من خلال هذا الابتلاء.
ويؤكد على هذا المعنى القاضي عياض في كتاب «الشفا بتعريف حقوق المصطفى صلى الله عليه وسلم»، فيقول: فإن قيل: فما الحكمة في إجراء الأمراض وشدّتها عليه صلى الله عليه وسلموعلى غيره من الأنبياء على جميعهم السلام؟ وما الوجه فيما ابتلاهم الله به من البلاء، وامتحانهم بما امتحُنوا به، كأيوب، ويعقوب، ودانيال، ويحيي، وزكريا، وإبراهيم، ويوسف، وغيرهم، صلوات الله عليهم، وهم خيرته من خلقه وأحباؤه وأصفياؤه؟
فاعلم- وفقنا الله وإياك- أن أفعال الله تعالى كلها عدل، وكلماته جميعها صدق، لا مبدل لكلماته، يبتلي عباده كما قال تعالى لهم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [يونس: 14]. فامتحانه إياهم بضروب المحن زيادة في مكانتهم، ورفعة في درجاتهم، وأسباب لاستخراج حالات الصبر والرضا، والشكر والتسليم، والتوكل، والتفويض، والدعاء، والتضرع منهم، وتأكيد لبصائرهم في رحمة الممتحنين، والشفقة على المبتلين، وتذكرة لغيرهم، وموعظة لسواهم ليتأسَّوا في البلاء بهم، فيتسلوا في المحن بما جرى عليهم، ويقتدوا بهم في الصبر، ومحوٌ لهَنَّاتٍ فرطت منهم، أو غفلات سلفت لهم، ليلقوا الله طيبين مُهذّبين، وليكون أجرهم أكمل، وثوابهم أوفر وأَجْزل. ( )
جاء في الأثر: إن الله تعالى ليصيب العبد بالأمر، وإنه ليحبه، لينظر كيف كان تضرُّعه إليه. ( )
أخي ..
إن بعض الناس لا يرغب في نزول المطر لأنه يراه عائقًا أمام حركة السير، وسببًا لبعض الحوادث.
ولكن المطر- في حقيقته- من أجَلّ صور الرحمة الإلهية بالناس، فيه ينبت الزرع وتحيا الحياة، وترتوي المخلوقات، وليس معنى عدم استشعار البعض لهذه الحقيقة أن يتوقف نزول المطر- رحمة بهم على حد زعمهم- بل إن الرب الرحيم يرى المصلحة العامة لعباده فُيقدِّر الأقدار، ويحرك الأحداث من أجل تحقيقها.
فالابتلاء وإن كان في ظاهره الضيق والعنت إلا أنه يحمل في طياته رحمات كثيرة فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا [النساء: 19].
الشفقة الإلهية
ثم تأمل معي هذا الحديث لتدرك بعضًا من أبعاد الشفقة والرأفة الإلهية بعباده والتي تزداد وتزداد عند ابتلائهم.
عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا مات ولد العبد قال تعالى لملائكته: قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم، فيقول، قبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون: نعم، فيقول: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع، فيقول الله تعالى: ابنوا لعبدي بيتًا في الجنة، وسموه بيت الحمد».( )
أما يوم القيامة فالتكريم الخاص ينتظر أهل البلاء الذين نجحوا في مادة الصبر. يقول صلى الله عليه وسلم: «يود أهل العافية يوم القيامة حين يعطي أهل البلاء الثواب لو أن جلودهم كانت قُرِّضت في الدنيا بالمقاريض».( )
الابتلاء بالذنب والحرمان من الطاعة
ومن المظاهر العجيبة للرحمة الإلهية ابتلاؤه لعباده بالذنب، والحرمان من الطاعة، بتركهم لأنفسهم وعدم إعانتهم وتوفيقهم للقيام بالطاعة والإقلاع عن الذنب، فيستشعروا وقتها مدة فضل ربهم عليهم، وأنهم به لا بأنفسهم، وأنه لو تخلى عنهم طرفة عين لهلكوا، ولضلوا، ولوقعوا في أشد المعاصي.
وفي المقابل لو استمر إمدادهم بالتوفيق والإعانة اللازمة للقيام بالطاعة، وترك المعصية، فمن المتوقع أن يتسرب إلى نفوسهم داء العُجب، فيعجبوا بأعمالهم، وبصلاحهم، ويغترون بذلك، ويظنون أن لهم مكانة خاصة عند الله بهذا الصلاح وهذه الأعمال، ويحتقرون غيرهم من المقصرين، فتكون هذه الطاعات سببًا لارتدائهم رداء الكبر، ومن ثمَّ استدعائهم لغضب الله وعقابه المُستحق للمتكبرين.
لذلك كان الابتلاء بالذنب، والحرمان من الطاعة من لطف الله الخفي بعبده، بل من دلائل حبه له أحيانًا.
جاء في الحديث: «يقول الله عز وجل: وإن من عبادي من يطلب بابًا من العبادة فأكفه عنه كيلا يدخله العجب، إني أدبر أمر عبادي بعلمي بما في قلوبهم، إني عليم خبير»( ).
ولعلنا بذلك ندرك مغزى قوله صلى الله عليه وسلم: «لو لم تكونوا تذنبون، لخفت عليكم ما هو أكبر من ذلك العُجب العُجْب».( )
ومما يؤكد هذا المعنى ما قاله صلى الله عليه وسلم للصحابة «لو أنكم تكونون على كل حال على الحالة التي أنتم عليها عندي لصافحتكم الملائكة بأكفهم، ولزارتكم في بيوتكم، ولو لم تذنبوا، لجاء الله بقوم يذنبون كي يغفر لهم».( )
الرحمة الواسعة
إن رحمة الله بعباده ولطفه الخفي بهم ليس له حدود ولا يمكن للعقل البشري أن يدرك أبعاده، ويكفي أنه سبحانه وتعالى كتب على نفسه الرحمة، ففي الحديث «إن الله حين خلق الخلق كتب بيده على نفسه أن رحمتي تغلب غضبي».( )
وجاء في الأثر أن بني إسرائيل قالت لموسى : «هل يصلي ربك؟ قال موسى: اتقوا الله يا بني إسرائيل. فقال الله يا موسى: ماذا قالت لك قومك؟ قال: يا رب قد علمت، قالوا: هل يصلي ربك؟ قال: فأخبرهم أن صلاتي على عبادي أن تسبق رحمتي غضبي, لولا ذلك لأهلكتهم».( )
ومن أعظم الأدلة التي تؤكد هذا المعنى: رحمته سبحانه بالعصاة له والكافرين به، فهو سبحانه لم يمنع عنهم رزقه رغم عصيانهم وابتعادهم عن طريقه، ولم يُعجل نهايتهم فلعلهم يعودون إليه في لحظة من اللحظات إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ [البقرة: 143].
ويكفينا في ذلك ما حدث من فرعون من طغيان فاق الحدود، ومع ذلك أمهله الله عز وجل وأرسل إليه موسى وهارون عليهما السلام اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه: 43، 44] فظلا يحاورانه ويثُبتان له بالأدلة الدامغة ألوهية الله وربوبيته على خلقه، ولكنه أبى واستكبر.. وكان ما كان من تتبعه لموسى في البحر إلى أن أغرقه الله عز وجل.. في هذه اللحظات- لحظات النهاية، وبعد أن أصبح الغيب عنده كالشهادة قال آمَنتُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ [يونس: 90].
شهادة لا تنفع في هذا الوقت، وقت الغرغرة ونزع الروح، ورؤية الملائكة، ومع ذلك فإن جبريل كان له موقف عجيب انطلق من إدراكه لمدى سعة الرحمة الإلهية، وانطلق كذلك من بغضه الشديد لفرعون وأفعاله الطاغية، وكبره وإصراره على الكفر رغم ما رأى من آيات مبصرة.
يقول صلى الله عليه وسلم: «لما أغرق الله فرعون، قال: آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل، قال جبريل: يا محمد! فلو رأيتني وأنا آخذ من ماء البحر فأدسه في فيه مخافة أن تدركه الرحمة».( )
رب رءوف:
أخي القارئ, لعلك قد لمست مدى شفقة أمك عليك وهي ترغِّبك في تناول وجبة الإفطار قبل ذهابك لمدرستك أو عملك خوفًا عليك من أن يداهمك التعب والإرهاق.
وأين هي رحمة أمك وعطفها-مهما بلغا- من رحمة ورأفة الرءوف الرحيم، الذي يعاملك ويعاملنا جميعًا بشفقة تفوق وتفوق شفقة أمك بك.
فمع أنه- عز وجل- يكلفنا بأداء العبادات ليجزينا عليها الجنة، إلا أنه لا يريد لنا أن نقع في مشقة أو حرج من أدائها وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج: 78].
يطالبنا بالصوم، ثم يرغبنا في التعجيل بالفطر، فيكفي الصيام حتى المغرب، ولا داعي للتأخير أكثر من ذلك حتى لا يزداد الإرهاق، ففي الحديث القدسي: قال الله عز وجل: «أحب عبادي إليَّ أعجلهم فطرًا».( )
ويحثنا كذلك على السحور، وعلى تأخيره قدر المستطاع لينشط به الصائم ويقوى، ويهون عليه صيام يومه.
قال صلى الله عليه وسلم: «تسحروا فإن في السحور بركة».( )
ربك- أخي- علمنا على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم كلمات نقولها حتى لا يصيبنا مكروه، ففي الحديث: «ما من عبد يقول في صباح كل يوم ومساء كل ليلة: بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم- ثلاث مرات- فيضره شيء».( )
وعند الخروج من المنزل ومواجهة أحداث الحياة أوصاك أن تقول: «بسم الله، توكلت على الله ولا حول ولا قوة إلا بالله. فيقال لك: كُفيت ووقيت وهُديت، وتنحى عنك الشيطان».؟( )
وتأمل معي هذه الوصية النبوية التي تقطر شفقة ورحمة إلهية:
«من لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجًا، ومن كل ضيق مخرجًا، ورزقه من حيث لا يحتسب».( )
ربك أوصاك على لسان نبيه بأن تميط الأذى عن الطريق كيلا يتسبب وجوده في إيذاء الناس؛ شفقة عليهم ورحمة بهم.
ولكي يشجعنا على تنفيذ هذا الأمر أعد مكافأة خاصة لمن يقوم بذلك, قال صلى الله عليه وسلم «كان على الطريق غصن شجرة يؤذي الناس فأماطها رجل فأُدخل الجنة»( )
فأي شفقة ورحمة تلك التي يغمرنا الله بها؟!
رفع الحـــــــرج
ومن مظاهر رحمة الله وشفقته بعباده رفع الحرج عنهم من خلال تخفيف العبادات عند مظنة وقوعهم في مشقة.
فالصلوات الخمس التي لا يستغرق أداؤها وقتا طويلا، والتي نستفيد نحن منها لتسكب داخلنا الطمأنينة، والسلام الداخلي، ومع ذلك، ففي وقت السفر، ومظنة التعب، فإنه سبحانه يخفف عن المسافرين عدد ركعات الصلوات الرباعية ليجعلها ركعتين، ويسمح لهم كذلك بالجمع بين الصلوات تخفيفًا عليهم، ورفعًا للحرج عنهم، مع العلم بأنه ليست كل الأسفار تسبب تعبًا ومشقة ولكنها الرحمة الإلهية التي تغمر الجميع يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة: 185].
ولعلمه سبحانه بأن البعض قد يتحامل على نفسه ولا يأخذ بهذه الرخص فلقد أخبرنا على لسان نبيه بأنه- سبحانه- يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه. ( )
ومن مظاهر رفع الحرج قوله صلى الله عليه وسلم: «وُضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه».( )
ومنها كذلك: عدم محاسبتنا عما نحدث به أنفسنا من مخالفات- وما أكثرها- يقول صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى تجاوز لأمتي عما حدثت به نفسها، ما لم تتكلم به، أو تعمل به».( )
ومن مظاهر رفع الحرج أيضًا مراعاته سبحانه للحاجات الفطرية للناس وحالات الضعف البشري التي تعتريهم ومن ذلك قوله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ [البقرة: 187].
ومنها السماح للناس وهم في رحلة الحج أن يبيعوا ويشتروا ويتزودوا بما يريدونه لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ [البقرة: 198].
لا تنس أنك عبد
إن العبد- أي عبد- من المفترض عليه أن يقوم بالتكاليف التي يطلبها منه سيده لمجرد أنه عبد، وأن هذا سيده، وليس له أيضًا أن يسأل عن سبب تكليف سيده له بذلك، ولا أن ينتظر أجرًا عليه، لأنه يخدمه بموجب أنه عبد عنده.
أي أننا وإن افترض الله علينا ما شاء من عبادات فهذا ما تقتضيه عبوديتنا له سبحانه، ويقتضيه كونه مستحقًا للعبادة، وعندما نراه- جل شأنه- يخفف عنا بعض التكاليف، ويرفع بعضها في أوقات معينة، مراعاة لظروف البعض، فهذا منتهى الرحمة والرأفة من الرب بعبيده المكلفين في الأصل بطاعته وعبادته.
شريعته كلها رحمة
ومما يؤكد هذا المعنى أن أحكام الشريعة التي أمرنا الله أن نتحاكم إليها ونتعامل بها ما هي إلا مظهر عظيم من مظاهر رحمته بعباده، ألم يقل سبحانه لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107] فالحدود على سبيل المثال لو تأملناها جيدًا لوجدناها بمثابة السور الشائك الذي يحمي بناء المجتمع المسلم، والذي لا بد من وجوده وإلا ضاع الأمن والأمان والثقة والاستقرار وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الألْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة: 179].
والجهاد في سبيل الله ما هو إلا مظهر عظيم من مظاهر الرحمة بعموم الناس.
فإن قلت: كيف يكون القتل والدماء رحمة بالناس؟!
يكون رحمة بالناس لأن من خلاله يزيل المسلمون العوائق التي تحول بينهم وبين دعوة الناس الذين لا يعلمون شيئًا عن الإسلام، فطغاتهم يشكلون حائلا يحول بينهم وبين وصول الدعوة إليهم وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ للهِ فَإِنِ انْتَهَوا فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ [البقرة: 193].
تقليل الأعمال في أعيننا
ومن مظاهر رحمة الله بعباده أنه سبحانه يريد منهم أن يؤدوا ما أمرهم به كي يدخلهم الجنة، ولأنه يعلم كراهية نفوسنا للتكليف وحبها للراحة، فإنك تجده يقلل الأعمال المطلوبة في أعيننا ليسهل علينا أداءها، فيقول لنا عن الصيام يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ [البقرة: 183، 184] تأمل عبارة: أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ وما فيها من معان الاستدراج وتيسير العبادة.
ونفس الأمر بالنسبة للحج: وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ [البقرة: 203].
أما بالنسبة للمحرمات فهو سبحانه يخبرنا بأن كل الأطعمة والأشربة مباحة لنا إلا بعض الأصناف اليسيرة، ولو اضطررنا لتناولها فلا إثم علينا إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [النحل: 115].
الرحمة المدَّخرة
إن الحديث عن مظاهر الرحمة الإلهية لا ينتهي، وكيف له أن ينتهي وقد أخبرنا سبحانه بأنه كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام: 12] فرحمته سبحانه قد شملت كل شيء وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [الأعراف: 156].
ولعل أفضل ما نختم به الحديث عن هذا المظهر العظيم من مظاهر حب الله تعالى هذه البشرى التي حملها إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما أخبرنا بأن الله عز وجل قد خلق مائة رحمة جعل جزءًا واحدًا منها للدنيا يتراحم بها الناس فيما بينهم، أما بقية المئة (التسعة وتسعون جزءًا) فقد ادخرها- سبحانه- ليوم أحوج ما نكون فيه إلى الرحمة, ليوم القيامة.
قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى خلق يوم خلق السماوات والأرض مائة رحمة، كل رحمة
طباق بين السماء والأرض، فجعل منها في الدنيا رحمة، فبها تعطف الوالدة على ولدها، والوحش والطير بعضها على بعض، وأخَّر تسعًا وتسعين، فإذا كان يوم القيامة أكملها
بهذه الرحمة» ( ).
وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده ليغفرن الله يوم القيامة مغفرة ما خطرت على قلب بشر، والذي نفسي بيده ليغفرن الله يوم القيامة مغفرة يتطاول لها إبليس رجاء أن تصيبه»؟( ) .
* * *
سابعًا: من مظاهر حب الله لك:
تيسير طريقك إلى التوبة
والرجــــــــــوع إليـــــــه
كان رجل في بني إسرائيل اسمه «الكفل»، وكان معروفًا بين الناس بفحشه وإجرامه، وذات ليلة وبينما هو في منزله إذ سمع طرقًا على بابه، فقام ليفتحه فإذا بامرأة يقطر منها الحياء وقد جاءته لتطلب منه أن يقرضها مبلغًا من المال لحاجتها الضرورية إليه، فيوافق على إقراضها بشرط أن تمكنه من نفسها، فتضطر المرأة للموافقة، وعندما يقترب منها إذ بها ترتعد، فيسألها عن السبب، فتجيبه بأنها لم تفعل هذا من قبل، وإنها تخاف من غضب الله عليها.
هنا توقف الكفل عما كان ينوي فعله، وقال لها: من الذي ينبغي له أن يخاف من غضب