بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الواعد الأمين اللهمّ لا علم لنا إلا ما علَّمتنا إنَّك أنت العليم الحكيم، اللهمّ علِّمنا ما ينفعنا، وانْفعنا بما علَّمتنا وزِدنا علمًا، وأرِنا الحقّ حقًا وارزقنا اتِّباعه، وأرِنا الباطل باطلا وارزقنا اجْتِنابه، واجْعلنا مِمَّن يستمعون القَوْل فيتَّبِعون أحْسَنَهُ، وأدْخِلنا بِرَحمتِكَ في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة المؤمنون، سوف ننتقل الآن إلى موضوع آخر وهو الفسخ في العقد يعني نقضه، نقض الشيء أي حلّ عُراه وجزَّأهُ، وفسْخ العقد يعني حلّ الرابطة بين الزوجين وقد يكون الفسخ بِسَبب خلل وقع في العقد، أو بسبب طارىءٍ عليه يمنع بقاءهُ، إما خللاً في العقد أو طارئ طرأ عليه يمنعُ بقاءهُ.
مثال الفسخ بسبب الخلل الواقع فيه، إذا تمَّ العقد وتبيَّن أنّ الزوجة التي عُقِدَ عليها أو التي عقد عليها، إذا تبيَّن له أنَّها أخته من الرضاعة فُسِخَ العقد عقدك على امرأة هي أختك من الرضاعة عقْدٌ باطل لا يُصَحَّح، علاجه الفسخ، أما عقدك على امرأة بلا مهْر عقْدٌ فاسدٌ يُصَحَّح علاجُه تسْمِيَة مهر المثل، إذًا فرْق بين العقد الباطل، وبين العقد الفاسد، فإذا تمَّ العقد وتبيَّن أنَّ الزوجة التي عقدَ عليها أختهُ من الرضاع فُسخَ العقد أيْ أُلْغِيَ، إذا عقد غير الأب أو الجدّ للصغير أو للصغيرة، عقد بالوكالة، ثمّ بلغ الصغير أو الصغيرة فَمِنْ حقّ كلّ منهما أن يختار البقاء على الزَّوجيَّة أو إنهاءها فلو زوَّج الواحد ابنته دون سِنّ البلوغ إلى شاب، أو إلى صغير وتمَّ العقد بينهما، فإذا بلغت البيت فلها خيار البقاء أو الفسخ لأنّ خيارها لم يكن صحيحًا حين العقد، لم تكن تعرف ما إذا كانت توافق أو لا توافق، ولا أعني صغيرة سبعة عشرة، الصغيرة هي سبعة أو ثمانية أو إحدى عشرة سنة، قبل أن تعي ما الزواج، إذا عقد على الصغيرة وكان العاقد غير الأب والجدّ، لأنّ الأب والجدّ لا يبتغي لابنه غير الصلاح، غير الأب والجدّ إذا عقد وكالة على صغيرة أو صغير، ثمَّ بلغ الصغير أو الصغيرة فللصغير أو الصغيرة إذا بلغا اختيار البقاء أو الفسخ، فهذا هو الخلل في صلب العقد، العقد فيه خلل، العقد ينقصه موافقة الزوجة أو موافقة الزوج إذا كان صغيرًا، فلمَّا كبرَت العقد إمَّا أن يثبت وإما أن يُفْسخ، إذا ثبت أنَّ هذه البنت أو هذه الزوجة أخت الزوج من الرضاع يفسخ العقد مباشرة، هذا الفسخ لِعِلَّة ثابتة في العقد.
أما الفسْخُ لِعِلَّة طارئة، إذا ارتدَّ أحدُ الزَّوجين، كان مسلمًا ثمّ ارْتدّ عن الإسلام ولم يعُد إليه فُسِخَ العقد بسبب الردَّة الطارئة، والنبي صلى الله عليه وسلّم فسَخَ عقْد ابنته زينَب على صِهره حينما أصرَّ على الشِّرْك، ودخلَت زيْنت في الإسلام، ثمَّ عاد إليها بعد أن آمنَ، فارْتِداد أحد الزوجين عن دين الله، أو إصراره على الشرك، وبقاؤه على الشرك يفسخ العقد بينهما.
الحالة الثانية، إذا أسْلم الزوج وأبَت الزوجة أن تسلم، أو إذا أسلمت الزوجة وأبى الزوج أن يسلم، فيُعَدُّ العقد فاسخًا، أي لاغيًا، وتحلّ علاقة الزوجين، إذا كان الزوج مسلم، أو الزوجة مسلمة توصلهُ إلى جهنَّم، تجد بعضهم يتزوّج امرأة غير مسلمة، ويأتي بها إلى بلده فإذا بها تعمل حمَّام شمس على الأسطوح ! ما هذا ؟ هكذا عاداتهم !! لو كنت فقيهًا هذا الزواج فاسِخ تجدهُ يقول لك: الحمد لله أنا إيماني بقلبي ! ماذا تريدني أن أفعل معها ؟ هكذا النساء ! الله يهديها فهذا الزواج لا يجب أن يتِمّ امرأة فاسدة مائلة مميلة، تخرج وكأنَّها عارية، تُخالط الرجال، لا تستحي من الله، ولا من الناس، هذه كيف تكون زوجتك ؟
والفرْقة الحاصلة بالفسخ غير الفرْقة الحاصلة بالطلاق، هنا عندنا فرقتان، فرقةٌ حصَلَت بالفسخ، وفرقة حصلَت بالطلاق، إذْ أنَّ الطلاق ينقسم إلى طلاقٍ رَجْعِيّ، وطلاقٍ بائن الطلاق الرجعي لا يعني أنّ تفكيره قديم أو صعب !! لا، الرجعي يعني أنَّه يمكن أن تُراجعها في هذا الطلاق، والرجعيّ لا ينْهي الحياة الزوجيّة في الحال، طلَّقتها وبعدها هناك ثلاث حيضاتٍ أو ثلاثة أشهر تبقى عندك وتستطيع ان تشاهدها، وتستطيع أن تتزيَّن لها، ولك أن تراجعها بكلمة أو بكنايةٍ، أو بإشارة أو بأيّ شيءٍ آخر، هذا هو الطلاق الرجعي، فالطلاق إما رجعيًّا، وإما بائنًا، والرجعيّ لا يُنهي الحياة الزوجيَّة في الحال، والبائن يُنهيها في الحال، أما الفسخ فسواءٌ أكان بسببٍ طارىء على العقد، أو بسبب خلل فيه فإنَّه ينهي العلاقة الزوجيّة في الحال، إذا الواحد شعر أنَّه بجانب الوقود السائل نار يقول: والله ناوي أن أبْعِد النار عن الوقود السائل ! ما هذا ؟ أتنْوي ؟ لن تستطيع اللَّحاق، سيكون انفجار، ففي مثل هذه الحالات لا بدّ من إبعادهما في الحال، ومن جهة أخرى، فإنّ الفرقة بالطلاق تنقص عدد الطلقات، يعني الواحد طلَّق زوجته طلاقًا رجْعيًّا، ومضَت العِدَّة ولم يُراجِعها فبانَت عنه بيْنونةً صغرى، له أن يعْقِدَ عليها عقْدًا جديدًا بِرِضاها، وبِمَهر جديد ولكنَّه بقي معه فرصتين فقط لا ثلاث، فالطلاق البائن ينقص عدد الطلقات فإذا طلَّق الرجل زوجته طلاقًا رجْعِيًّا ثمَّ راجعها في عدَّتها، أو عقد عليها بعد انقضاء العدّة عقْدًا جديدًا فإنَّه تُحْسبُ عليه تلك الطَّلقة، ولا يملك عليها بعد ذلك إلا طلْقتين، أما لو أن رجلاً جاء الإسلام ودخل في دين الإسلام وأصرَّتْ الزوجة على الشّرْك ففُسِخَ العقد بينهما، بعد خمسة سنوات أسْلمَت فعقدَ عليها عقْدًا جديدًا، وتزوَّجها، أمامه ثلاث طلقات، فالفُرْقة بسبب الفسْخ لا تنقص عدد الطَّلقات لكنّ الفرقة بسبب الطلاق البائنة تنقص عدد الطلقات، فلو فُسِخَ العقد بسبب خيار البلوغ، مثلاً صغيرة عُقِدَ زواجها على شاب، فلمَّا بلغَت اختارَت أن تفسخَ العقد وفسخَتْهُ، وبعد فتْرةٍ ارْتأتْ أن تنْفِذَهُ فَعَقَدَتْ على زوجها عقدًا جديدًا، ما دام هذا الفسخ بسبب خيار البلوغ إذًا بقِيَ أمامه ثلاث طلْقاتٍ.
الفسخُ بِقَضاء القاضي، من الحالات ما يكون سبب الفسْخ فيها جليًّا لا يحتاج إلى قضاء القاضي، يعني يبْدو أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام تشْريعهُ كان واضح، وفقه الناس بالدِّين واضح، فَتِسْعة وتسعون بالمئة من المشكلات كانتْ تُحَلُّ فيما بين الناس، سيّدنا أبو بكر عيَّن سيّدنا عمر قاضيًا، وبقيَ في منْصبه الرفيع سنَتَين أو حَوليْن كاملين، ولم يترافَع إليه اثنان في قضيَّة.
لو أنصف الناس استراح القاضي وبات كلّ عن أخيه راضي
الحقيقة لا تُغْلق أبواب المحاكم إلا إذا عرف الناس ربّهم، إذا عرف الناس ربّهم لا يجترئون على حقّ الآخرين، ولو دفعوا الثمن غاليًّا ؛ يخافون من الله تعالى، علامة التَّدَيّن الصحيح الخوف من الله، وعلامة ضعْف التَّدَيُّن في الناس عدم الخوف من الله تعالى، وعدم الخوف من الله يعني رفع القضايا إلى القضاء، لذلك جاء في الحديث القدسي: يا موسى خَفْ ثلاثًا خفني وخف نفسك وخف من لا يخافني ! نصيحة لكلّ أخ مسلم، في كلّ علاقاتك ؛ علاقة الزواج، علاقة الشراكة، علاقة الجِوار، إذا ما كان مؤمنًا سوف يُسَبِّب لك متاعِبَ كُبرى المشكلة أنَّني لا أُفاجىء بِتَصرّف في بغي أو عدوان أو ظلم لإنسان غير مؤمن، بالعكس أنا أُفاجىء إذا كان مؤمنًا لأنّ الذي لا يعرف الله لا لا يمكن أن يستقيم، فلمَّا الإنسان يُشارك شخصًا لا دين له، يقول لك: فقط لا يُصَلِّي !! لا قيمة لها، أما أخلاق وفهم ومرونة، وذكاء، فقط لا يصلّي، هذا ما دام مقطوعًا عن الله قد يُسَبِّب لك متاعب لا حصْر لها، أنت قلْت ذكيّ، وأحد أنواع الذكاء يظهر أمامك بِمَظهر يأخذ بالألباب، ما هذا الشريك ؟! وسيم، بعد سنوات تجده أخذ منك مئة ألف وأنت لا تشعر، سافرت فغشّك، أخي هذا لبِق، ما معنى لبِق ؟ ليس لها معنى إما أن يكون متديِّنًا أو لا ؟ إذا لا يوجد دين يعني لا يخاف من الله عز وجل، ولو أرضاك بلسانه فسوف يُفاجؤك بعمله السيئ، فهذه نصيحة، لا تقيم علاقة مع إنسان ليس فيه دين ثمّ تُفاجىء أنا أفاجىء إذا استقام معك، لأنّ انحراف غير الديِّن حَتْمي، قال تعالى:
﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2)﴾
[ سورة الماعون ]
سبب، التعليل العلمي أنَّ هذا الإنسان مجموعة شهوات، وهذه الشهوات قِوَى مندفعة حُبّ المال، الإنسان محرّك لكسب المال منقطع النظير وهناك محرِّك إلى حبّ النساء منقطع النظير، فهذه الشهوات المندفعة ما الذي يوهنها ؟ خوف الله وحده، فإذا لا يوجد خوف من الله شهوات، ولا بدّ من أن وهي تنطلق أن تأخذ ما لها وما ليس لها، قال تعالى:
﴿وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَمّاً (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً (20)﴾
[ سورة الفجر ]
عندنا قاعدة وهي أنَّ هذا الإنسان إذا كانت له صِلَة بالله عز وجل يخافه فهو منضبط وإن لم تكن له صِلَة لا يخافه ولا ينضبط، هو عنده شهوات ومن أجل أن يروي شهواته لا بدّ من مال، والمال قد يأخذه حلالاً أم حرامًا، فلذلك احتمال انحراف غير الدَّيِّن احتمال حتمي، ولا بدّ منه فلمَّا الإنسان يتورَّط بعلاقة مع إنسان مشرك أو غير ديِّن، أو لا يصلّي، وطعنه طعنةً نجلاء كما يقولون، فلا يشكي للخلق، ولا يتفاجىء، ولا يقول: أنا ما توقَّعت أن أفعل هكذا أنت ما توقَّعتَ لأنَّك لا تعرف، لو تعرف طبيعة المعرض عن الله عز وجل تتوقَّع منه كلّ شيء نِيَّة المؤمن خير من عمله، ونيَّة الكافر شرّ من عمله، إلا أنّ الكافر نوعان، هناك كافر ذكيّ يستدرج كثيرًا من الناس، أشخاص كثيرون يقولون لك: فلان آدمي وجيّد إلا أنّه لا يُصلِّي، هذا لا يكفي ! ما دام مقطوع عن الله فهو إنساني شهواني، ويصل إلى شهواته بأيّ ثمن، قال تعالى:
﴿فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50)﴾
[ سورة القصص ]
انظر للقرآن ما أجمله، لو تتبَّعْت آيات القرآن الكريم تجد معظمها يربط بين الإيمان والعمل الصالح، قال تعالى:
﴿الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾
[ سورة البقرة ]
طيّب عندنا معنى عكسي، إذا قلنا فلان طويل، وفلان غير طويل، ما معنى غير طويل أي قصير، هذا المعنى العكسي، تقول: من جدَّ وجَدَ، ومن تكاسلَ خسِرَ، فمن تكاسل خسر هذا معنى لم يُذْكر لكنَّه منطوي في الجملة الأولى، المعاني العكسيّة دقيقة جدًّا، من سار على الدَّرب وصل ؛ هذه عبارة مُنْطوٍ فيها أنَّه من وقف في الدَّرب لا يصل، فقوله تعالى:
﴿الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾
[ سورة االبقرة ]
ماذا ينطوي في هذه الآية ؟ الذين لم يؤمنوا لهم أعمال سيّئة دون ذلك، له أعمال لا ترضي الله، ولا تُرضي الناس، فلمَّا يتوقَّع الإنسان أنَّه يقيم علاقة بإنسان غير جيِّد يكون قد أراح نفسه وفات بِبَحر الآمن، فإذا تورَّط بعلاقة مع إنسان لا دين له تجد أنَّه سوف يُسبِّب له متاعب لا حصْر لها، وأنا في غِنَى عنها، لذلك قال عليه الصلاة والسلام:
((اتقوا فراسة المؤمن، فإنه ينظر بنور الله عز وجل))
[ رواه الترمذي ]
في الحالات ما يكون سبب الفسْخ فيها جَلِيًّا لا يحتاج إلى قضاء القاضي كما إذا تبيَّن للزَّوجين أنَّهما أخوان من الرضاعة، وحينئذٍ يجب على الزوجين أن يفسخا العقْد، من تِلْقاء أنفسهما، ومن الحالات ما يكون سبب الفسخ خفيًّا غير جليّ فيحتاج إلى قضاء القاضي، ويتوقّف عليه كالفسخ بإباء الزوجة المشركة الإسلام إذا أسْلم زوجها لأنَّها ربّما لا تمتنع فلا يُفْسخُ العقد فالقاضي متى ؟ إذا لم يحصل شيءٌ بالقاضي يرفع الأمر إليه، وكان منْصب القاضي في العصور القديمة أعلى منصب يلي في الدولة، لأنَّه أوَّل الشيء فقيه وورع، وهو الحكَمُ الفيْصَل في كلّ أمرٍ، وإن شاء الله تعالى في درس قادم ننتقل إلى موضوع العدَّة، وهذا موضوع جليل كثير من الناس من يسأل عنه، ولاسيما في هذه الأيام التي يظنّ الناس فيها أنّ العدَّة شيء لازم نتساهل فيه مع أنَّ العِدَّة لها تعليلات جليلة سوف نقف عندها إن شاء الله في درسٍ قادم.
والآن إلى بعض الأحاديث الشريفة، بالمناسبة صلى الله عليه وسلّم قيل له: يا رسول الله إنَّك بشر، وإنَّك تغضب، فإذا غضبْت أفنكْتُب عنك ؟ يعني هناك ساعات غضب أفنكتب عنك هذا الغضب ؟ لأنَّه ممكن أن يكون هناك خطأ، فأمْسك عليه الصلاة والسلام بِفَمه الشريف وقال: والذي بعث محمدًّا بالحق، إنّ هذا الفم لا ينطق إلا بالحق.
فلمَّا الإنسان يوقن أنَّ هذا الكلام وحيٌ يوحى إلى رسول الله وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحيٌ يوحى، يعني قاعدة من الله عز وجل، فإذا أخذ بها سعد، وإذا تركها شقي وسيّدنا سعد بن معاذ كان يقول: ثلاثةٌ أنا فيهنّ رجل، وفيما سوى ذلك فأنا واحدٌ من الناس معنى كلمة رجل إنسان عظيم، قال تعالى:
﴿رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37)﴾
[ سورة النور ]
ما سمعتُ حديثًا من رسول الله إلا علمت أنَّه حقّ من الله تعالى، مثلاً النبي عليه الصلاة والسلام قال:
((الأمانة تجلب الرزق، والخيانة تجلب الفقر))
[ أخرجه الديلمي ]
أنا سمعتُ آلاف القصص عن شخص أُتيح له أن يسرق فسرَق، وهو يظنّ أنَّه بهذه السرقة سوف يغتني، ولو قرأ هذا الحديث، وتيقَّن منه، لعلم أنَّ الخيانة طريق الفقر، وضع ابنه عند صديقه في المحل التِّجاري، هذا الابن وجد الغلّة كثيرة، كلّ يوم يأخذ ألف ليرة ويخبّؤها، على عدَّة أسابيع أصبح معه تسعون ألف ليرة، خبَّأهم بعلبة نحاس بِمَحلّ بالبيت وجاءته سفرة، ووصَّى زوجته أن تنظِّم البيت تنظيمًا جيِّدًا، فوجدت عِدَّة أشياء لا قيمة لها فرمَتها، ورمَت معهم التسعون ألفًا ! لو علم أنَّ هذا الابن أنَّ الأمانة تجلب الغنى، والخيانة تجلب الفقر ما فعل هذا، وهذه أحاديث مصيريّة، وما منَّا إلا وله أعمال، أحيانًا الإنسان يكون تحت يده مال، ولا توجد قوَّة تكشفه، وأحيانًا يضع مصروفًا، يضعهم ثلاثينات، طيّب ضعهم ستِّين الحمد أنَّه لم يحاسبْك، الله المحاسب، والخيانة تجلب الفقر، لو تتبَّعت مليون قصَّة كلّ إنسان خان لا بدّ أن يفتقر، الذين أكرمهم الله تعالى بالحياة الدنيا أُمناء يملكون ثرْوةً طائلة هي ثقة الناس بهم، ثقة الناس بك ثرْوَة لا تُقدَّر بِثَمَن فالنبي الكريم قال:
((الأمانة تجلب الرزق، والخيانة تجلب الفقر))
[ أخرجه الديلمي ]
والأمانة ليس لها وَضع نسبي، إذا كان عندك مستودع للوقود، وسألوك هل هو مُضبَّط، فلا تقل وسط ! ما معنى وسط ؟ إما أن يكون محكمًا أو غير محكَمٍ، المحكم أن تملأ ألف لتر فيبقى ألف لتر، أما إذا كان غير محكم فيمكن أن يرشح منه بشهر شهرين وبسنة أحيانًا بجمعة، إذا كان بِقَعْره فتحة كبيرة، بخمسة دقائق يفضى، فالخيانة نسبيَّة أما الأمانة مطلقة، الأمانة إذا أراد أن يضع الإنسان عظمة في فمه في غير دكانه لا يستطيع طبعًا هناك موضوع عالجْتهُ كثيرًا، فالنبي عليه الصلاة والسلام قال:
((من عامل الناس فلم يظلمهم وحدَّثهم فلم يكذبهم......غيبته))
[ رواه..." ]
فإذا حدَّث الناس وكذبهم سقطَت عدالته، فإذا وعد الناس وأخلفهم سقطَت عدالته، فإذا عامل الناس وظلمهم سقَطَت عدالته، وهناك أشياء تجرحها، هناك أشياء تسقطها، وهناك أشياء تجرحها، الخيانة، وإخلاف الوعد والظّلم يسقط العدالة، أما أكل لقمةٍ من حرام يجرحها مقبل على الحرام، تطفيف بِثَمرة، الميزان لم يأت بما يُعادل تمرة تُجْرح العدالة، حتى بعض العلماء قالوا: إذا كذب الإنسان على حيوان، وليس على إنسان تُجْرح عدالته، ألهى قطَّة فظنَّت أنَّ معه لحمًا، فلمَّا أتَتْ عنده فَطردها ! لو كان هذا الإنسان محدّث لامْتنعَ علماء الحديث عن الأخذ عنه لأنَّه كذب على حيوان، وهذا الذي جاء من المدينة المنوَّرة إلى البصْرة ليتلقَّى العلم عن رجل، فلمَّا وصل إليه رآه رفع طرف ثوبه يلهم فرسه بأنّ في هذا الرِّداء شعيرًا، فلمَّا أقْبلَت عليه أمسك بها، ولم تجد الشعير فعاد إلى المدين ولم يُكلِّمْهُ، وهذا هو المؤمن المؤمن شيءٌ عظيم، خُلق إلى أبْعَد الحدود، استقامة، نُبْل، وفاء، عفَّة حياء، صبر، تجمُّل في فاقة، شُكر والله المؤمن كما يقولون أحيانًا شخصٌ كألف، أما المؤمن فأحد أعضائه يعادل مجتمعًا بِكَاملِهِ إذا كان مستقيمًا، ليس يصلّي فقط، من شاء صام، ومن شاء صلّى، فتَطفيف بِتَمرة تجرح العدالة أكل لقمة من حرام تجرح العدالة، السَّيْر حافيًا في الطريق تجرح العدالة، البول في الطريق يجرح العدالة، الأكل في الطريق يجرح العدالة، من علا صوته فسمعه من في الطريق يجرح العدالة، الحديث عن النّساء يجرح العدالة، التّنزّه في الطرقات يجرح العدالة، صحبة الأراذل تجرح العدالة، سماع الغناء يجرح العدالة، من قابل هونًا تُجرح عدالته، من أطلق لفرسه العِنان تُجْرح عدالته، الموضوع طويل، وأنا أذكر ثلاثة وثلاثون نقطة إذا فعلها المسلم، جُرِحَت عدالته، ورُفضَت شهادته فكم الإسلام مُقدَّس، والشيء بإمكانك، فممكن بالطريق ما تأكل وممكن أن لا تنظر للنساء، وممكن أن لا تتنزَّه بالطّرقات، لأنّ هناك عورات، ولاسيما في هذه الأيام، كيفما الْتفتّ نساء كاسيات عاريات، حامل بذر في وقت العصريّات ! أنت مسلم ؟! هذا يجرح عدالتك.
من لعب بالنرد فكأنّما غمس يديه في لحم خنزير ودمه، الوقت ثمين جدًّا، يقول لك ماذا فعلنا ؟ ما لعبنا وما كذبنا ولا شربنا خمرًا، إنَّما نحن تسلّى إذا طالب عنده فحص الساعة الثامنة، وجلس ورتَّب مكتبته، ونزَّل الكتب كلّها على الأرض، وصفَّها الكتب حسب الطول ثمّ ضبّطها أكثر، ولمَّعها ماذا عمل هذا ؟ رتَّب مكتبته، هل هذا وقت ترتيب المكتبة ؟ أنت جالس بزمن محدود، الله عز وجل خلق في الدنيا لمهمّة كبيرة جدًّا، وأعطاك إمكانات لا نهائيّة لمعرفة الله، فَمِنَ الغباء أن تستخدم هذه الإمكانات، وأن تستهلك هذا الوقت، أن تستخدم، وهذا الفكر البشري، وأن تستخدم هذا الوقت في أشياء لا تمدّ إلى سعادتك الأبديّة بِصِلَة، خُلِقْت في الدنيا لعُمْرٍ محدود وأعطيت إمكانات غير محدودة لمعرفة الحقائق، وحلّ المشكلات، فمِنَ السخف والغباء أن تستخدم إمكاناتك في أشياء سخيفة، وأن تستهلك وقتك في ما لا علاقة له بالآخرة، لذلك ما من مؤمن يأتيه ملك الموت إلا ويُحِسّ بالنَّدَم، على ماذا ؟ دخل الجنّة، يندم على ساعةٍ مضَت في الدنيا لم يذكر الله فيها، لذلك لا إسراف في الخير، ولا خير في الإسراف قرأت قرآن الصبح، والساعة عشرة عندك وقت فراغ، اقرأ سورة ثانية وافهمها، فهمتَ هذه الآية زارك ضيف، ما هي أسعار الذهب ؟ غالٍ هذه الأيام ! لا، تكلّم عن هذه الآية فهي تُفرحُ القلب، أما هذه تزعجه، احْك له عن موضوع يتعلّق بآخرته، لا يوجد خبر سارّ، قال عليه الصلاة والسلام: ما من يوم إلا والذي بعده أشر حتى تقوم الساعة ! فلا أحد يتوقَّع أنّ هناك شيء أحسن ممَّا مضى، أما أن يتوقَّع إذا كان علم أنَّ الله سيُكْرمهُ إكرامًا شديدًا، والخير بيد الله فقط وليس بيد الأشخاص.
إذًا الأمانة تجلب الرزق، والخيانة تجلب الفقر، إذا كنت رجلاً بالمعنى الذي أراده سيّدنا معاذ، وقرأت هذا الحديث علمْت أنَّه حقّ من الله تعالى اعْمِل شيئًا فيه خيانة ! لن تعمل شيئًا، هناك محاسب، وحسابه قليل، هذا المال ليس لك، لذلك لن تستقيم الحياة الدنيا إلا بالإيمان لأنّ الإيمان وحده وليس شيء آخر يرْدع الإنسان، لأنّ الإنسان إذا أراد أن يطبّق شيئًا من أخوه الإنسان، فهذا إنسان وهذا إنسان ؛ يلعب عليه، نسمع أشياء مضحكة، حكى لي شخص كان بأوروبا، قال لي: الطريق سرعته ثمانون، والناس يمشون بسرعة مئة وعشرون طبعًا يضعون برابيش بالطريق تمشي عليها السيارة، الجهاز يكشف أنّ هناك توجد سرعة زائدة فكلّ المواطنين عند هذه النقطة يضبِّطون سرعتهم، ثمّ يعيد المشي على سرعة أكبر ! لا يوجد حل للموضوع، فأعادوا صنع أجهزة متنقّلة، يضعونها بتمويه ضمن شجرة، يقولون لك هذا الطريق مراقب بالرادار ! هذا أبسط مثل، وهناك الآن عدّة طرقات مراقبة بالرادار، ما فوق الثمانين تُخالف، ما هذا الذي يُخالف ؟ سيارة واقفة معها جهاز، أما إذا الله عز وجل شرّع فالله يرى العداد، بكلّ لحظة، ويرى نيّتك، فلو الواحد أراد أن يسرع لعلم نيّته، فما الحياة إلا تشريعًا إلهيًّا، لا يمكن أن تنتظم، سمعتُ قصَّةً عن أحد التابعين اشترى زيتًا، وجد بتنكةٍ فأرةً ميتة، فقال: لو أرْجعتُ هذا الزيت لصاحبه لباعه غيري من المسلمين، فآثر أن يبقي هذا الزيت على أن يرْجِعَه لصاحبه، تشريع إلهي ؛ هذا زيت نجس، خطر ببالي خاطرًا، نشتري الزيت كثيرًا نحن، فيا ترى بائعي الزيت عندهم ورع إذا وجدوا بهذا الحوض أو المستودع فأرة، هل يمتنعون عن بيعه ؟! يقولون: لا بدّ من بيعه، ومن يدري ؟ الله يدري ! فالحياة لا تستقيم إلا بالدِّين، يمكن للواحد أن يأكل زيتًا نجسًا وهو لا يدري، فلمَّا يكون هناك تشريع إلهي تجد الناس تنضبط انضباط مذهل، أمريكا بعام ثمانيةٍ وعشرين فيما أذكر أصدرتْ قانونًا بِتَحريم الخمر بقي القانون أربعة عشرة عام، الذي حصل أنّ ثلاثمئة إنسانٍ أُعْدِموا ردعًا للناس، وأكثر من ثلاث مئة ألف كتاب طبع لِتَحذير الناس من الخمر، ودخل السِّجن مئات الألوف، وصنعَت بواخر بِكَاملها ذات جدارين لتهريب الخمر، الخمور يزداد بيعها في ظلّ هذا القانون، أما الدّين الإسلامي حرَّم الخمر، إلا ما ندر ؛ هذا المسلم الفاجر، ولكنّك تجد ألف مليون مسلم، إلا ما ندر هذا هو مفعول الشرع الإلهي، حُرِّمَ عليكم، وما دام هناك تحريم انتهى الأمر، لا تحتاج إلى نشرات، ولا إلى... حُرِّم عليكم وانتهى الأمر، فالآن في أوروبا يعرفون المسلم من الخمر، لا يشرب فيَثِقون به، يمكن أن يبعث بضاعة له من دون أن يحوِّل ثمنها إذا لم يكن يشرب الخمر أما إذا شرب، فهذا الذي خان دينه لا يوثق به، من كأس خمْرٍ يكشفونه.
حديث آخر، يقول عليه الصلاة والسلام: الأمانة غنى..." الأمانة طريق الغنى الحديث له علاقة بالأوّل، هل منَّا من لا يحب أن يكون في بحبوحة ؟ إذا قال: لا ! يكون كلامه غير صحيح، إذا الإنسان ميسور الحال، ومعه قوت يومه، لذَّ شيئًا فاشتراه، بذلة اشتراها لباسه أنيق وبيته مريح، هذا شيء مطلق طبيعي وشرعي، هذا غير ملام فيه أنت طريقه الأمانة فيا أيّها الشباب هذا الطريق طريقه الأمانة، بعملك كُنْ أمينًا، لا تحدِّثْك نفسكَ أن تأخذ قرشًا غير شرعي، إذا شعر من أنت عنده بهذه الأمانة، وهذا النقاء يمحضك ثقته، ثمّ يعطيك من الأرباح نسبة، ثمّ يُشاركك، ثمَّ يُزوِّجك ابنته، يقول: لن أجد مثل هذا ! سببها الأمانة، وأنا أعرف أناسًا بالأمانة بلغوا أعظم مرتبة، وبالخيانة ينفض كما ينفض الفأر الميّت !! هذا لا نريده، يمكن أن يكون قد أخذ ليرة ! فتح الدرج وأخذ ليرة فانتهى، وسقطت عدالته، فالذي يريد أن يزداد بحبوحة ويكون رزقه وفيرًا، ولا يكون متضايقًا فلْيَكن أمينًا إلى أبْعد الحدود.
والآن إلى قصَّة من قصص التابعين، القصّة بين عمر بن عبد العزيز وابنه عبد الملك.
ما كاد التابعيّ الجليل، وأمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز ينفض يديه من تراب قبر سلفه سليمان بن عبد الملك، سلفه الخليفة سليمان ابن عبد الملك توفّي، وليّ العهد الخليفة من بعده عمر بن عبد العزيز، بعدما انتهى من مراسم الدَّفن، ونفض يديه من تراب قبره حتى سمع للأرض من حوله رجَّةً - ضجيج- فقال ما هذه ؟فقالوا: هذه مراكب الخلافة يا أمير المؤمنين قد أُعِدَّت لك لِتَرْكَبها، فنظر إليها عمر بِطَرف عينه، وقال بصوته المتهبّج الذي أنهكه التَّعَب وأدبره السفر: ما لي ولها، نَحُّوها عنِّي بارك الله فيكم ! وقرِّبوا إليّ بغلتي فإنَّ لي فيها بلاغًا ؛ أي متعوِّد عليها، ثمّ إنَّه ما كاد يستوي على ظهر البغلة حتى جاء صاحب الشُُّرى لِيَمشي بين يديه ومعه رِجاله الذين اصطفوا عن يمينه وعن شماله، وفي أيديهم الحراب اللامعة، فالْتَفَتَ إليه وقال: ما لي بك وبهم حاجة، فما أنا إلا رجل من المسلمين أغدو كما يغدون، وأروح كما يروحون، ثمَّ سار وسار الناس معه حتى دخل المسجد، سيّدنا عمر، ونودي في الناس الصلاة جامعة الصلاة جامعة، فتسايَلَ الناس على المسجد من كلّ ناحيَة، فلمَّا اكْتملَت جموعهم قام فيها خطيبًا، فحمِدَ الله وأثنى عليه، وصلى على نبيّه صلى الله عليه وسلّم، ثمَّ قال أيّها الناس: إنِّي قد ابْتُليتُ بهذا الأمر ! رآه بلْوى، وبلاءً من الله عز وجل، على غير رأيٍ منِّي، طبعًا سليمان ابن عبد الملك، وما أطْلعَ عليه أحد، وقال إذا متُّ افتحوا هذا الكتاب تعرفوا مَن الذي سيأتي من بعدي، فقال: إني قد ابْتُليتُ بهذا الأمر على غير رأي منّي فيه، ولا طلبٍ له، ولا مشورة من المسلمين، وإنِّي خلعْت ما في أعناقكم من بيْعتي، فاختاروا لأنفسكم خليفةً ترضونه، فصاح الناس صيْحةً واحدة: قد اخْترْناك يا أمير المؤمنين، ورضينا بك فَلِي أمرنا باليُمْن والبركة فلمّا رأى الأصوات قد هدأت، والقلوب قد اطمأنَّت حمد الله كرَّةً أخرى، وأثنى عليه، وصلى على سيّدنا محمَّدٍ صلى الله عليه وسلّم، وطفق يحضّ الناس على التقوى، ويزهِّدهم في الدنيا ويرغّبهم في الآخرة، ويذكّرهم بالموت بلهْجةً تسْتلين القلوب القاسيَة، وتسْتدرّ الدموع العاصِيَة وتخرج من فؤاد صاحبها، وتستقرّ في فؤاد السامعين، ثمّ رفع صوته المتْعب حتى أسْمع الناس جميعًا وقال: من أطاع الله وجَبَت طاعته، ومن عصا الله فلا طاعة له على أحد، أيّها الناس أطيعوني ما أطعْت الله فيكم فإن عصَيْت الله فلا طاعة لي عليكم، ثمَّ نزل عن المنبر واتَّجَهَ إلى بيته، وآوى إلى حجرته، فقد كان يبتغي أن يصيب ساعةً من الراحة بعد ذلك الجهد الجاهد الذي كان فيه منذ وفاة الخليفة، يظهر انَّه بذل جهدُا جهيدًا أضْناه، بعدما ألقى هذه الخطبة السريعة نزل إلى بيته ليَسْتريح.
لكنّ عمر بن عبد العزيز ما كاد يسْلم جنْبهُ إلى مَضْجعه حتى أقبل عليه ابنه عبد الملك، وكان يومئذٍ يتَّجِه نحو السابعة عشرة من عمره، وقال: ماذا تريد أن تصنع يا أمير المؤمنين ؟ فقال: أيْ بُنيّ أريد أن أغفَلَ فلم تبق في جسدي طاقة ! فقال: أتغْفو قبل أن تردّ المظالم إلى أهلها يا أمير المؤمنين ؟! فقال: أيْ بنيّ، إنِّي قد سهرت البارحة في عمّك سليمان وإنِّي إذا حان الظهر صلَّيْت في الناس، ورددْت المظالم إلى أهلها إن شاء الله، فقال ابنه: ومن لك يا أمير المؤمنين لأن تعيش إلى الظهر ؟ هل تضمن العيش ؟ فأْهبَت هذه الكلمة عزيمة عمر وأطارَت النَّوْم من عَيْنيه، وبعثَت القوَّة والعزم في جسده، وقال: اُدْن منِّي أيْ بُنيّ، فدنا منه فضمَّه إليه، وقبَّلَ ما بين عينيه، وقال: الحمد لله الذي أخرج من صُلْبي من يُعينني على ديني والله إذا الواحد أخرج له من صلْبهِ من يُعينه على دينه، بابا قُم فصَلِّ الصُّبح، وأحيانًا توقضه ابنته، لا بدّ أن يذوبَ خجلاً من الله أن بعث له طفلاً يعينه على أمر دينه.
بكي سيّدنا عمر، ثمّ قام وأمر في الناس أن يُنادَى: ألا من كانت له مظلمةٌ فلْيرْفَع - لم ينَم - فمن عبد الملك هذا ؟ وما خبر هذا الفتى الذي قال عنه الناس: إنَّه هو الذي ادخل أباه في العبادة ! وسلكه مسالك الزهاد، كان لعمر بن عبد العزيز خمسة عشرة ولدًا فيهم ثلاث بنات وكانوا جميعًا على حظٍّ مَوفور من التُّقَى، ومقامٍ كبير من الصَّلاح، لكنّ عبد الملك كان واسطة العِقْد - أي أحسنهم- فقد كان أديبًا أريبًا له سنّ الفتيان وعقل الكهول - أما الآن الجسم كبير والعقل كالقمحة !! أجسام البغال وأحلام العصافير، أما عبد الملك فقد كان له سنّ الفتيان وعقول الكهول، ثمّ إنَّه نشأ في طاعة الله جلّ وعزّ منذ نعومة أطفاله، فكان أقرب الناس سمْتًا إلى آل الخطَّاب عامَّةً، وأشْبههم بعبد الله بن عمر خاصَّةً في تقوى الله، وتخوُّفه من معاصيه وتقرّبه إليه بالطاعة، حدَّث ابن عمّه عاصم قال: وفدْتُ على دمشق، فنزلْت على ابن عمّي عبد الملك وهو عذَب وذي زوج، فصلَّينا العشاء، وآوى كلٌّ منَّا إلى فراشه فقام عبد الملك إلى المصباح فأطفأه، وأسْلك كلٌّ منَّا جفْنيه إلى الكرى ؛ ناموا، ثمَّ إنِّي استيقظت في جوف الليل فإذا عبد الملك قائمٌ يصلّي في العتمة، وهو يقرأ قوله عز وجل:
﴿أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (207)﴾
[ سورة الشعراء ]
قال: فما راعني منه إلا أنَّه كان يُردِّد هذه الآية ويبكي بكاءً مكبوتًا يقطع نياط القلب وكأنَّه كلَّما فرغ من الآية عاد إليه حتَّى قلتُ: سيقتلهُ البكاء !:
﴿أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (207)﴾
[ سورة الشعراء ]
وقد كان فضل الشام في زمنه، فقد رُوِيَ أنَّ عمر بن عبد العزيز جمع فقهاء الشام وقال: إنِّي قد دعوْتكم لأمر هذه المظالم -عنده مظالم- التي في أهل بيتي، أقربائي، فقالوا: -اسمعوا ماذا قال فقهاهم- يا أمير المؤمنين إنَّ ذلك أمرٌ كان في غير ولايتك، هذا الشيء كان بعهد سليمان، وإنّ هذه المظالم على من غصبها، فلمْ يرْتَح إلى ما قالوه، فالْتفت إليه أحدهم مِمَّن يرى غير رأيِهِم وقال: ابْعَث يا أمير المؤمنين إلى عبد الملك -ابنك- فإنّه ليس بدون من دعَوت علمًا، أو فقْهًا، أو عقلاً، ابنك ليس أقل عقلا؟ً من هؤلاء، ابْعَث إليه واسْتشرْهُ في هذا الأمر عمرهُ سبعة عشرة عامًا، فلمَّا دخل عليه عبد الملك قال له عمر: ما ترى في هذه الأموال التي أخذها بنو عمِّنا من الناس ظلمًا ؟ وقد حضر أصحابها وجعلوا يطلبونها ! وقد عرفنا حقَّهم فيها فقال: أرى أن تردّها إلى أصحابها ما دمت قد عرفْت أمرها، وإنَّك إن لم تفْعل كنت شريكًا للذين أخذوها ظلمًا !! هذا هو رأيه، وأنت بيَدِك الأمر، تقدر أن تنتزعها منهم بقوَّة السلطان وعلمت بذلك، فإن سكت عليهم فأنت شريكهم في الإثم، فانْبسطَت أسارير عمر، وارْتاحَت نفسهُ، وزال عنه ما أغمَّه.
ولقد آثر الفتي العمري المرابطة على الثغور، والإقامة في إحدى المدن القريبة منها على البقاء في بلاد الشام.
كان أبوه أيْ عمر بن عبد العزيز، على الرغم من كلّ ما عرفه من صلاحه وتُقاه شديد الخوف عليه من نزعات الشيطان، كثير الإشفاق عليه من نزوات الشباب، حريصًا أن يعلم من أمره كلّ ما يجوز له أن يعلم، وكان لا يغفل عن ذلك كلّه ولا يهمله، حدَّث ميمون بن مهران وزير عمر بن عبد العزيز وقاضيه ومستشاره قال: دخلت على عمر بن عبد العزيز فوجدته يكتب رسالة إلى ابنه عبد الملك يعظه فيها، وينصحه ويبصِّره ويحذِّرهُ، وينذرهُ ويبشِّرهُ، وكان ممَّا جاء في قوله: أما بعد، فإنّ أحقّ من وعى عنِّي وفهم قولي لأنت، أحقّ الناس عرف الهدى أنت، وإنَّ الله وله الحمد قد أحسن إلينا في صغير الأمر، وفي كبيرة، فاذْكر يا بنيّ فضْل الله عليه وعلى والدَيْك، وإيَّاك والكِبْر والعظمة فإنَّها من عمل الشيطان، وهو للمؤمنين عدوّ مبين، واعْلَم أنِّي لمْ أبْعَث بكتابي هذا لأمْرٍ بلغني عنك، فما عرفْتُ من أمْركَ إلا خيرًا، لا توجد وِشايَة، إلا أنَّه بلغني عنك شيءٌ من إعجابك بِنَفسك ! ابن الخليفة ؛ تقى وصلاح وورع وشكل وشباب، له حق في الإعجاب، قال: فإنَّه بلغني عنك شيءٌ من إعجابك بِنَفسك ولو أنَّ هذا الإعجاب - انظر يا ابني - خرج بك إلى ما أكره لرأيْتَ مِنَّي ما تكره ! انتبه !!
قال ميمون: ثمّ الْتَفَتَ إليّ عمر وقال: يا ميمون إنَّ ابني عبد الملك قد زُيِّنَ في عيني ؛ أرى أنَّه إنسان ممتاز، وإنِّي اتَّهم نفسي في ذلك، وأخاف أن يكون حبّي له قد غلب على علمي به، هناك أشخاص من يحبّ ابنه محبَّةً عَمْياء، يأتي عنده فيقول له فلان ضربني لأمّه أو أبوه، فينزل الأب بغضب ! مهلاً عليك، أنت أيها الأب حبّك لابنك غلب علمك به، فقد يكون هو المفتري، وقد يكون هو المُسبِّب، لا يكن حبّك لابنك غالبًا على علمك به، وهذه دقيقة جدًّا.
قال له: أخاف أن يكون حبِّي له قد غلب على علمي به، وأدركني ما يدرك الآباء من العمى عن عيوب أولادهم، فأحيانًا الآباء يُصيبهم العمى عن عيوب أولادهم، فصِرْ إلي واصْبر غَورهُ، وانْظر هل ترى فيه ما يشبه الكبْر والفخْر ؟ على مرض نفسي ؟ من أجل قليل من الكبر بعث وزيره يراقبه، فإنَّه غلامٌ حَدَثٌ ولا آمن عليه الشيطان.
قال ميمون: فشَدَدْت الرِّحال إلى عبد الملِك حتى قدِمْتُ عليه فاسْتأذنْتُ ودخلْت، فإذا غلامٌ في مقتبل العمر، ريَّان الشباب، بَهِيّ الطَّلْعة، جمّ التواضع، قد جلس على خشبةٍ بيضاء فوق بساطٍ من شعر، فرحَّبَ بي ثمَّ قال: لقد سمعْتُ أبي يذكرك بما أنت أهل له من الخير، وإنِّ لأرجو أن ينفع الله بك، هذا كلام الابن لِمَيمون وزير عمر، فقلتُ له: كيف تجد نفسك ؟ فقال بخير من الله عز وجل ونِعمة، غير أنّي أخشى أن يكون قد غرَّني حُسن ظنِّ والدي بي، وأنا لم أبلغ من الفضل كلّ ما يظنّ، وإنّي أخاف أن يكون حبّه لي قد غلب على معرفته بي، الوزير طار عقله !! هذا مضمون الرسالة، فأكون آفة عليه، فعَجِبْتُ من اتِّفاقهما !!! ثمّ قلتُ له أعْلِمْني ؛ من أين معيشتك ؟ فقال: من غلَّة أرْضٍ اشْتريْتُها مِمَّن ورثها عن أبيه، ودفعْتُ ثمنها من مال لا شبهة فيه، فاسْتغنيْتُ بذلك عن طيء المسلمين، أي هذا مِن كَدِّي، قلتُ: فما طعامك فقال: ليلة لحمٌ، وليلة عدس وزيت، وليلة خلّ وزيت، وفي هذا بلاغ، فقلتُ له: أفما تعْجبكَ نفسكَ ؟ أراد أن يرى رأيَ والده فيه، فقال: قد كان فِيَّ شيءٌ في ذلك فلمَا وعضني أبي بصّرَني بِحقيقة نفسي، وصغَّرها عندي، وحطّ من قدرها في عيني، فنفعَنِي الله عز وجل بذلك فجَزاه الله عنِّي خير الجزاء، قال: فقعَدْتُ ساعةً أحدِّثهُ، وأسْتمتعُ بِمَنطقهِ فلم أرَ فتًى كان أجْمَلَ وجْهًا ولا أكْمَلَ عقْلاً، ولا أحْسنَ أدبًا منه على حداثةِ سِنِّه، وقِلَّة تجربته، فلمَّا كان آخر النهار، أتاه غلامٌ فقال: أصْلحك لقد فرغْنا ! جاء يتفحّص الأمر جاء يحاسبه على الشعرة، فسكَتَ، فقلتُ ما هذا الذي فرغوا منه ؟ فقال: الحمَّام، وقال: وكيف ؟ فقال: أفرغُوهُ لي من الناس، فقلتُ لقد كنت وقعْتَ من نفسي موقعًا عظيمًا حتى سمعتُ هذا، الآن سقطت من عيني ؛ الحمَّام أفرغوه من أجلك !! من أنت ؟ فَذُعِرَ واسْترجَعَ - قال لا حول ولا قوّة إلا بالله - وقال: وما في ذلك يا عمّ يرحمك الله ؟ فقلتُ: الحمّام لك، فقال: لا، فقلتُ: وما دعاك أن تخْرج الناس منه ؟ كأنَّك تريد بذلك أن ترفع نفسك فوقهم، وأن تجعل لك قدْرًا يعلو على أقدارهم، ثمّ إنَّك تؤذي صاحب الحمَّام في غَلَّة يومه، وتُرْجِع من أتى حمَّامهُ خائبًا، يأتي الواحد للحمَّام فيُرْجعونه، أنْقصْت الغلَّة لصاحب الحمام، وخيَّبت أمل المتحمِّم، وارتفعْت عن الناس، قال: أما صاحب الحمَّام فأنا أرْضيهِ وأعْطيه غلَّةَ يومه، فقلتُ: هذه نفقَةُ صدقة خالفها كِبْر ! هذه كذلك حرام، وما يمنعك أن تدخل الحمَّام مع الناس ؟ فأنت كأحدهم ؟ قال: يمنعني من ذلك أنَّ طائفةً من رعاع الناس يدخلون الحمَّام بغير أُزر، فأكره رؤية عوراتهم - العورة الفخِذ، تلك المغلَّظة شيء آخر - قال عليه الصلاة والسلام: لا تنظر إلى فخذ أخيك...." قال: يمنعني من ذلك أنَّ طائفةً من رعاع الناس، يدخلون الحمَّام بغير أُزر، فأكره رؤية عوراتهم، وأكره أن أُجبرَهم على وضع الأزر فيأخذوا ذلك على أنَّه إجبار منِّي عليهم بالسلطان، الذي أسأل الله أن يخلِّصنا منه كفافًا لا علينا ولا لنا، فعِظْني رحمَكَ الله عِظَةً أنتفع بها ؟ ماذا أفعل أنا أكره الدخول معهم، فقلتُ: انتظر حتى يخرج الناس من الحمَّام ليلاً، ويعودوا إلى بيوتهم ثمّ ادْخُلْه، فقال: لا جرم - صحيح - لا أدخله نهارًا بعد اليوم، عاهده، ولولا شدَّة ضرب هذه البلاد ما دخلتهُ أبدًا، وأطْرقَ قليلاً كأنَّما يفكِّر في أمر، ثمّ رفعَ رأس هُإليّ وقال: أقْسَمتُ لَتُطْوِينَّ هذا الخبر على أبي، فإنِّي اكرهُ أن يظلّ ساخطًا عليّ، وغنِّي لأخشى أن يحول الأجل دون الرضا منه، قال ميمون: فأردْت عند ذلك أن أسْبرَ عقلهُ، فقلتُ له: إن سألني أمير المؤمنين، هل رأيْت منه شيئًا ؟ فهل ترضى لي أن أكذب عليه ؟ أن أقوله: لا يوجد مثله، موضوع الحمّام أمر كبير ! فقال: لا، معاذ الله ولكن قل له رأيتُ منه شيئًا فوعضْتهُ وكبَّرْتهُ في عيْنِهِ فسارع إلى الرجوع عنه، فإنّ أبي لا يسألك عن كشف ما لم ترد إظهاره له !! لأنَّ الله جلّ وعزّ قد أعادهُ من البحث عن السَّفَه، أحيانًا يسألك الواحد: أين ذاهب ؟ فتقول: مشوار، فيعيد السؤال: أين هذا المِشوار ؟ لذا هناك من لا أدب له، تقول له اُقْعُد هنا، فيقول لك: لا هنا أحسن، وقد يكون مباشر للباب ! لذا هناك أشخاص حشريِّين، سيّدنا عمر أعاذه الله من أن يكشف ما اسْتتَر، أحدهم أراد أن يستتر عنك فأنت بيّن له أنَّك لم ترهُ.
قال ميمون: فلم أر والدًا قطّ، ولا ولدًا مثلهما يرحمهما الله، هذه قصَّة عبد الملك بن مروان بن سيّدنا عمر بن عبد العزيز، ومشكلة الحمَّام كانت كبيرة.
والحمد لله رب العالمين