وسائل تنمية الأخوة
تتعدد وسائل تنمية الأخوة في الله ومنها:
- الحب في الله إنه أروع وأعظم أنواع الحب: أن يكون في الله ولله، فلا نفعَ ولا غرضَ دنيويًّا وراءه، وفي الحديث القدسي: "المتحابون في جلالي لهم منابر من نور، يغبطهم النبيون والشهداء" (رواه الترمذي).
- سلامة الصدر: وسيلة في غاية الأهمية لتقبل ما يبدر عن الآخرين دون حقدٍ أو ضغينةٍ أو سوء نية، وكذلك لحمل الأشياء على معانيها الحسنة.. قال النبي- صلى الله عليه وسلم-: "لا تقاطعوا ولا تدابروا، ولا تباغضوا، ولا تحاسدوا، وكونوا عباد الله إخوانًا، لا يحل لمسلمٍ أن يهجر أخاه فوق ثلاث" (رواه البخاري).
وعن عبد الله بن عمرو: "قيل يا رسول الله، أي الناس أفضل؟ قال: "كل مخموم القلب صدوق اللسان"، قيل صدوق اللسان نعرفه فما مخموم القلب؟ قال: "هو التقي النقي، لا إثمَ فيه ولا بغي، ولا غل ولا حسد" (رواه ابن ماجة).
- النصح والتواصي: إنَّ المسلمَ لا يسير في طريقٍ آمنٍ لكنه يسير في طريقٍ محفوفٍ بالمكاره والمزالق والعقبات والفتن، وشياطين الإنس والجن له بالمرصاد فهو أحوج في مثل هذا الطريق إلى مَن يأخذ بيده ويرشده، ويبصره، ويذكره إذا نسي ويعينه إذا ذكر، وصدق الله العظيم إذ يقول: ﴿وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)﴾.
ولا بد من أن نشير هنا إلى بعض آداب التواصي، والنصح: كأن يكون سرًّا وبالحكمة والموعظة الحسنة، وبأسلوب رقيق، يقول بعض السلف "أد النصيحة على أكمل وجه واقبلها على أي وجه".
- معرفة الفضل: قال تعالى: ﴿وَلا تَنسَوْا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ﴾ (البقرة)، فمعرفة المسلم لفضل أخيه، بل ومحاولته البحث له عن فضل تجعله يحبه، ويتقبل منه، ويسمع له بدلاً من أن ينفر منه، ويتجنب لقاءه، فإذا بحث كل واحد منا عن فضلٍ لأخيه فسوف يزدهر العمل، ويحس بقيمة أخيه وتأثيره وفضله.
- المصارحة والمكاشفة: تُزيل عن القلب موانع تعطل تيار الأخوة ما دامت تؤدي بطرقها السابق ذكرها، فلا بد للمسلم من أن يُصارح أخاه بما في صدره، فربما وجد عنده إجابة شافية تكفيه مؤونة الإرهاق الذهني، والقلق، والتوتر الذي يؤثر حتمًا على سلامةِ الصدر، وكذلك على المسلم أن يُصارح قيادته بما يعتريه من تساؤلاتٍ أو شكوكٍ دون أدنى حرج.
ولنا في الرسول (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه الأسوة في ذلك، ففي بيعة العقبة الثانية وقف أبو الهيثم بن التيهان يصارح ويكاشف، ويستفسر من الرسول (صلى الله عليه وسلم) عما يجول بنفسه فقال: "يا رسول الله، إنَّ بيننا وبين الرجال- يعني اليهود- حبالاً، وإنا لقاطعوها، فهل عسيت إن فعلنا ذلك، ثم أظهرك الله، أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ قال كعب بن مالك: فتبسم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ثم قال: "بل الدم الدم، والهدم الهدم، أنا منكم وأنتم مني، أحاربُ مَن حاربتم، وأسالم مَن سالمتم".
فهذه قمة المصارحة والمكاشفة حتى لما يجول في أغوارِ النفس، وقد تقبَّلها النبي (صلى الله عليه وسلم) برحابةِ صدر، وذلك درسٌ في واجباتِ القيادة لتقبل المصارحة والمكاشفة بسلامةِ صدر، والعمل على إزالةِ ما قد يكون قد التبس على أذهان إخوانهم.
- التسامح والتراحم: يجب أن يكون ديدن العاملين للإسلام هو التسامح والتراحم حتى لمَن ظلمهم، فما بالنا بأبناءِ الصف الواحد؟
فينبغي أن يعذر بعضنا بعضًا، وأن يسامح بعضنا بعضًا، وأن نتراحم فيما بيننا.. وصدق الله العظيم إذ يقول: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾ (آل عمران: من الآية 159).. وفي الحديث: "مَن اعتذر إلى أخيه المسلم فلم يقبل منه كان عليه مثل خطيئة صاحب مكس" (رواه بن ماجة)، وفي رواية: "من تنصل إليه فلم يقبل لم يرد الحوض" (الطبراني)
إجراءات للحماية
ومن المهم أن يُدرك المسلم أنَّ هناك إجراءات احترازية لحمايةِ الأخوة أهمها:
- إدراك أهميتها: على كلِّ مسلمٍ أن يُدرك أهمية الأخوة، وأنَّ كلَّ مسلم عمق إستراتيجي لأخيه: يحميه، ويؤازره، وأن يُدرك أنه كثير بإخوانه مع إدراك الثواب الجزيل فهذه النعمة.
- معرفة فقه الخلاف: نحن يمكن أن نختلف وأن تنتباين وجهات نظرنا دون أن يحنق كل منا على الآخر أو يحمل لأخيه ضغينة، بل نتبع القاعدة الذهبية لصاحب المنار التي تقول: "لنتعاون فيما اتفقنا عليه وليعذر بعضنا بعضًا فيما اختلفنا فيه".
- استصحاب فقه الأولويات: فقد يكون رأيي صوابًا، ولكن هناك ما هو أولى منه في مرحلةٍ ما، فإذا عرفنا ذلك عذر بعضنا بعضًا، وقويَّنا من أخوتنا وأعنا بعضنا بعضًا على المهامِ الموكلة لكل منا.
- رفع سقف الخلاف: فينبغي أن نحسن الظن ببعض، وأن تتسع صدورنا للنقد البناء، وأن يعمل كل منا على احتواء الخلاف من جانبه وكأنه هو المسئول عن ذلك، وهذا لهدف أسمى وأرفع وأنبل، وهو إثراء روح الأخوة.
- رفع مستوى الحوار: لا بد أن يحرص كل منا على نفس أخيه، وألا يجرحه، وأن يُراعي معه أدب الحديث، وألا تكون الأخوة مرادفًا لعدم الحرص في الحديث أو الابتذال فيه، أو زوال الفوارق السنية والاجتماعية، فلا بد من أن نرقى بأسلوب حوارنا، وأن يحترم كل منَّا الآخر، قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- "ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا".
الثمار الحلوة
ولكي نتيقن من نجاح تطبيق برنامجنا في التأسيس المتين لبنيان الأخوة يجب أن نعلم أهم آثار الأخوة على عددٍ من المستويات:
أولاً: على مستوى العمل الجماعي:
لا شك في أنَّ رُوح الفريق ستجعل من كلِّ فردٍ شُعلة نشاط يبذل كل ما في وسعه، ويأخذ بكل الوسائل لإنجاح ما يعد له: "مثل اليدين تغسل إحداهما الأخرى"، كما سيعمل على تنفيذ ما أعد له هو وإخوانه فسيكونون جميعًا على قلب رجل واحد لتنفيذ ما اتفق عليه، متناسين أي خلافٍ قد يكون نشأ في مرحلة ما.
ولا شك في أنَّ أي صفٍّ يعمل الجميع به- قيادةً وجنودًا- بقلب رجل واحد، متجردين لله ولا يرجون من إنسان جزاءً ولا شكورًا، أقدر على تحقيق أهدافه كلها بإذن الله، فلقد حقق المسلمون الأوائل ما حققوه لعقيدتهم الراسخة وإيمانهم الوثيق بالله، ثم بأخوتهم التي أرساها المصطفي- صلى الله عليه وسلم- حين آخى بينهم.
كما تعزز الأخوة وحدة الصف بكل معانيها، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ (4)﴾ (الصف)، فروح الأخوة ستجعله صفًّا واحدًا يصعب اختراقه وتدميره.
لقد ثبت العاملون في الصف الإسلامي في مواجهة المحن- بعد فضل الله- بإيمانهم الراسخ، ثم بالروح الأخوية بينهم فكان الواحد منهم يُضحِّي بحياته على أن يشي بأحد إخوانه أو يضر دعوته من قريبٍ أو بعيد، فضربوا بذلك أروع الأمثلة على روح أخوتهم العالية.
ثانيًا على المستوى الفردي:
إنَّ أول المستفيدين من رُوح الأخوة هو الفرد نفسه إذ يستشعر أنه ليس وحيدًا، وأنَّ معه إخوانه يساعدونه على تقوى الله، وعبادته، وطاعته، فقد جاء في الحديث: "إنما يأكل الذئب من الغنم القاصيه"، كما سيجد فيهم خير الأصحاب فهو إذا ذكر الله أعانوه، وإذا نسي ذكروه.
وعندما يختلط المسلم بإخوانه سيكتسب منهم خبرات، وتجارب متنوعة في شتى المناحي، وسيرتفع بذلك مستوى أدائه في المجالات جميعًا الدعوية والدنيوية والمهنية قال تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى﴾ (المائدة: من الآية 2).
كما سيجد الفرد من بعض إخوانه، لا أقول كلهم، قدوة حسنة، تقربه من ربه، وتزرع فيه خصالاً، يحاول الوصول إليها دون جدوى، وذلك من خلال معايشته لهم، بل سيقتدي بهم في مختلف الأحوال والأوقات فيكتسب قدرات لا تُقدَّر بثمن.
وتعين الأخوة الفردَ على الثبات، ذلك أن من يسير في طريق الدعوة إلى الله يكون- بطبيعة الحال- عُرضةً لملاقاةِ الأذى، والابتلاء، والفتن، فالطريق محفوف بالمكاره، مليئ بالعقبات، والمسلم في حاجةٍ لإخوانه، وقلوبهم معه، يعينونه على مكارهِ الطريق، ويتواصون معه بالحق.
ثالثًا: على مستوى المجتمع:
المجتمع الذي يكون أعضاؤه على قدرٍ كبيرٍ من المحبةِ والتعاون، ويعرف كل منهم حقوقه وواجباته، يكون مستواه متميزًا حتى لو كان هؤلاء الناس قلة لأنهم سيكونون قدوة، وسيؤثرون في المجتمع، وسيتأثر بهم المجتمع، وسيرتفع مستواه الإيماني والاجتماعى والثقافي.. إلخ، مما سيؤثر على إنتاجه في جميعِ المستويات والجوانب.
هذا المجتمع سيقف في وجه أشد الصعاب، فلقد صمد الصحابة في شعبِ أبي طالب، وأبلوا بلاءً حسنًا، بإيمانهم ثم بأخوتهم الفذة، كما صمد المسلمون في المدينة أمام التحديات الداخلية- من داخل المدينة- والخارجية وجاهدوا أفضل الجهاد.
واجهوا في بدرٍ وأحد والخندق أكبر التحديات، وكانت أكبر عدة لهم، بعد الله ثم إيمانهم الراسخ، هي أخوتهم، ووحدة صفهم، وتماسكه، فلقد ذاب كل واحد منهم في المجموع فتشكلت قوة واحدة منهم يصعب اختراقها بل كان النصر حليفها.
كما أن المجتمع المتحاب أفراده سيكون من القوة بمكانٍ ليقف في مواجهة شتى التحديات، أو على الأقل الخروج بأقل الخسائر؛ لأن هذه المجموعات ستشيع هذه الروح في أسرها، وعائلاتها، وجيرانها وأصدقائها من خلال فهمها الصحيح للإسلام، وبعملها به، فما بالنا لو كان المجتمع كله على هذه الدرجة العالية من الأخوة، والحب في الله؟
رابعًا: على مستوى غير المسلمين:
حبنا بعضنا بعضًا وأخوتنا وروابطنا الإسلامية العظيمة تُثير غيظ أعداء الإسلام مهما حاولوا إخفاء ذلك، لأن هذا الجانب الروحي قل- إن لم ينعدم- في مجتمعاتهم المادية. وإذا وجد أعداؤنا أننا على درجةٍ عاليةٍ من الحب والأخوة فسيهابوننا، أما تفرقنا وتشرذمنا الآن فهو برد وسلام على قلوبهم، قال سبحانه: ﴿لأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنْ اللَّهِ﴾ (الحشر).
وإذا رأى أعداؤنا فينا القوةَ والصلابةَ العقدية، والأخوة الملتحمة فسيؤثر ذلك حتمًا فيهم، ويضعفهم معنويًّا، إذ كيف يحاربون مجتمعًا متحابًا متعاونًا على قلب رجل واحد؟
ومن جانبٍ آخر فإنَّ غير المسلمين إذا وجدوا فينا الصورة المشرقة للإسلام ومثله العليا فربما اتجهوا إلينا لأن الإسلام دين الفطرة، فالواجب علينا- إذن أن نقدم لهم الصورة المشرفة للأخوة الإسلامية كما قدمها أسلافنا، وفتحوا بسلوكهم المتآخي كثيرًا من بقاع العالم.
والخلاصة: إذا ازدهرت شجرة الأخوة وترعرعت ونمت فلا بد من أن تنمو شجرة العمل وتزدهر، وتُعطي حينها أطيب الثمار.
ومن هنا علينا جميعًا وعلى المخلصين العاملين للإسلام خاصةً، أن يعملوا على ازدهار شجرة الأخوة، وعلى حمايتها، وصيانتها من الهجماتِ الشرسة التي تعمل على اقتلاعها.
إننا في حاجةٍ لهذه الروح وهذا الفقه ليسري في جسد الأمة، فتنبعث فيه الحياة بعد طول رقاد.
إنَّ على قادةِ العمل الإسلامي والمربين العمل على غرس روح وفقه الأخوة في نفوس إخوانهم من خلال برامح عملية، وكذلك تأصيل هذه الروح وتجذيرها في النفوس فلقد انتصر المسلمون في بدر وهم قلة مؤمنة تتمتع بقدر عالٍ من التربية والأخوة، لكنهم انهزموا في حنين على كثرتهم، ذلك أنَّ الكثرةَ قد تحوي الخَبَث الذي سرعان ما ينزوي عندما يواجه محنة أو اختبار.
منقول