إذا خلوا بحارم الله .. انتهكوها
بقلم د. أشرف نجم
ديسمبر 2010
يصيبني الذعر والهلع كلما أردت أن أتحدث أو أكتب في هذا الموضوع، يرعبني قول الله تعالى: "أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب؟! .. أفلا تعقلون؟! ( البقرة – 44) .. ويزيد من خوفي قوله تعالى: "يأيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون؟ .. كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون" ( الصف – 2-3) .. ويبلغ خوفي منتهاه حين أقرأ ما رواه الشيخان عن أسامة بن زيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يُؤتى بالرجل يوم القيامة، فيلقى في النار، فتندلق أقتاب بطنه، فيدور بها كما يدور الحمار بالرحى .. فيجتمع إليه أهل النار ويقولون: يا فلان، مالك؟ ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟" .. فيقول: بلى .. كنت آمر بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه".
غير أن ما يدفعن للكتابة اليوم هو حاجتي قبل غيري إلى هذا المعنى الهام، فأقول لنفسي إنك تنصح نفسك قبل أن تسدي النصيحة لغيرك، علها تنتصح فترتدع، وتراقب ربها الذي يناديها وغيرها محذراً }واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه{( البقرة – الآية (235) .. }وكان الله على كل شيء رقيباً{ ( الأحزاب – 52) .. }وهو معكم أين ما كنتم{ ( الحديد – 4) ... }ألم يعلم بأن الله يرى{ ( العلق – 4) ... }يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور{ ( غافر – 18) .
قال عبد الله بن دينار: خرجت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى مكة فعرّسنا في بعض الطريق، فانحدر عليه راعٍ من الجبل، فقال له: "يا راعي، بعني شاة من هذه الغنم" .. فقال: إني مملوك، فقال: "قل لسيّدك أكلها الذئب" ... قال الراعي: " فــأيــن الله؟ " ... قال: فبكى عمر، ثم غدا إلى المملوك فاشتراه من مولاه، وأعتقه، وقال: "أعتقتك في الدنيا هذه الكلمة، وأرجو أن تُعتقك في الآخرة".
إنها مراقبة الله عز وجل، درجة من درجات ارتقاء العبد إلى ربه سبحانه .. تعالوا نتعرف عليها .. قال المحاسبي: "المراقبة دوام علم القلب بعلم الله عز وجل في السكون والحركة علماً لازماً مقترناً بصفاء اليقين" ... وقال ابن القيم: "المراقبة دوام علم العبد، وتيقّنه باطلاع الحق سبحانه وتعالى على ظاهره وباطنه" ... وقال ابن المبارك لرجل: "راقب الله تعالى"؛ فسأله عن تفسيرها، فقال: "كن أبداً كأنك ترى الله عز وجل".
إنها ثمرة إيمان يقظ في القلب، وعقيدة راسخة في الوجدان، ويقين لا يعكر صفوه شك، وحين يكتمل معنى المراقبة في قلب العبد يعصمه من المعاصي خالياً أكثر مما تعصمه رؤية الناس له ... قال حميد الطويل لسليمان بن علي: عظني، فقال: "لئن كنت إذا عصيت خالياً ظننت انه يراك لقد اجترأت على أمر عظيم ، ولئن كنت تظن انه لا يراك فلقد كفرت" ...و قال ابن الجوزي: "فقلوب الجهال تستشعر البُعْد؛ ولذلك تقع منهم المعاصي، إذ لو تحققت مراقبتهم للحاضر الناظر سبحانه لكفوا الأكُفَّ عن الخطايا، والمتيقظون علموا قربه سبحانه فحضرتهم المراقبة، وكفتهم عن الذنب".
عبد مملوك اسمه مبارك .. أرسله سيده إلى بساتين له ليحفظها في سفره، فبقي شهرين ثم جاءه سيده وقال: ائتني بقطف عنب ... فجاءه بقطف فإذا هو حامض ... فقال : ائتني بقطف آخر إن هذا حامض .. فأتاه بآخر فإذا هو حامض ... قال : ائتني بآخر .. فجاءه بالثالث فإذا هو حامض .. فغضب وقال : ألا تعرف حلوه من حامضة ؟ ... فقال العبد: "والله ما أرسلتني لآكله .. وإنما أرسلتني لأحفظه وأقوم على خدمته ... والذي لا إله إلا هو ما ذقت منه عنبة واحدة !!! والذي لا إله إلا هو ما راقبتك ولا راقبت أحداً .. ولكني راقبت الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء !!" ... فأعتقه وزوجه ابنته ... فولدت طفلاً أسمياه عبد الله .. إنه عبد الله بن المبارك المحدث الزاهد العابد.
إنها طريقنا جميعاً إلى رضا الله تعالى، ورفيع الدرجات في جناته ... سُئل ذو النون: بم ينال العبد الجنة؟ فقال: بخمسٍ: "استقامة ليس فيها روغان، واجتهاد ليس معه سهو، ومراقبة الله تعالى في السر والعلانية، وانتظار الموت بالتأهب له، ومحاسبة نفسك قبل أن تحاسب".
كان لبعض المشايخ تلميذ شاب وكان يكرمه ويقدمه .. فقال له بعض أصحابه: كيف تكرم هذا وهو شاب ونحن شيوخ ... فدعا بعدة طيور وناول كل واحد منهم طائراً وسكيناً .. وقال: ليذبح كل واحد منكم طائره في موضع لا يراه أحد .. ودفع إلى الشاب مثل ذلك وقال له كما قال لهم .. فرجع كل واحد بطائره مذبوحاً ورجع الشاب والطائر حي في يده ... فقال: ما لك لم تذبح كما ذبح أصحابك .. فقال: "لم أجد موضعاً لا يراني فيه أحد، إذ الله مطلع عليَّ في كل مكان".
غير أن ما ينبغي أن يشغل بال المؤمن دوماً هو الوسائل العملية للتحصل على هذه المنزلة العالية، يجب أن يسأل أحدنا نفسه: كيف أروض نفسي وأعودها مراقبة الله تعالى في السر والعلانية؟ .. دعوني اجتهد في الإجابة فأقول أن من الوسائل العملية لذلك ما يلي:
1- تدبر الآيات أثناء الورد القرآني واستخراج آيات المراقبة وأسماء الله الحسنى الدافعة لها (الرقيب – السميع – البصير ... الخ) ومعايشتها.
2- قراءة قصص الغافلين وعاقبتهم، وقصص الصالحين ومراقبتهم لله، والقراءة في موضوع المراقبة خاصة كتب التراث مثل: إحياء علوم الدين للغزالي، ومختصر منهاج القاصدين لابن قدامه، ومدارج السالكين لابن القيم، وشعب الإيمان للقصري، والوصايا للمحاسبي.
3- المداومة على ورد المحاسبة تفصيلياً .. ومحاسبة النفس قبل وبعد الأعمال اليومية.
4- الملازمة للصحبة الصالحة التي تذكر بالله تعالى وتمنع من المعاصي.
5- حضور الدروس والحلقات والمناسبات الإسلامية التي تنمي معنى المراقبة.
6- لصق ملصق بآيات وأحاديث المراقبة في البيت والعمل ... ووضع لوحة على سطح المكتب في الكمبيوتر للتذكير بمعاني المراقبة.
7- الإلحاح على الله بالدعاء بأن يرزقنا المراقبة له وخشيته.
8- التذكر من خلال نغمة رنين للنقال بآية عن المراقبة أو أنشودة أو غيرها.
9- المداومة على الأذكار في الصباح والمساء وأذكار اليوم والليلة، والمداومة على قراءة القرآن وحفظه ومراجعته مع دوام الذكر والاستغفار في كل الأحوال.
10- إرسال رسائل تذكر الآخرين بالمراقبة عبر النقال والنت، وتداول بعض المقاطع والفلاشات المتعلقة بالمراقبة.
حكى الإمام الغزالي في الإحياء عن أبي سليمان الداراني قال: "كنت غلاماً حدثاً، وكان خالي رجلاً صالحاً، فقال لي يوماً: إذا أويت إلى فراشك فقل سبع مرات (الله معي .. الله ناظري .. الله مطلع عليَّ) .. قال: ففعلت .. ثم قال لي اجعلها عشراً، ثم أمرني أن أقولها عندما أستيقظ، ثم قال: قلها وقت كذا وكذا ... حتى جرى بها لساني .. فقال: (يا غلام .. من كان الله معه وناظره ومطلع عليه .. أيعصيه؟!) .. قال أبو سليمان: فما تعمدت معصية لله بسر أو علانية من يومها"
احذروا إخوتي ثم احذروا ... واستمعوا لما رواه ابن ماجه عن ثوبان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لأعلمن أقواماً من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات كأمثال جبال تهامة بيضاء، فيجعلها الله عز وجل هباءً منثوراً" .. قال ثوبان: يا رسول الله، صفهم لنا، جلِّهم لنا، ألا نكون منهم ونحن لا نعلم ... قال: "ألا إنهم إخوانكم، ومن جلدتكم، ويأخذون من الليل كما تأخذون ... ولكنهم أقوام إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها".