تجارب زوجية
زوجي لا يصلي!
تربيتُ على الصلاة صغيرة، وكنتُ إذا
تكاسلْتُ عنها يكون عقابي وخيمًا تتعدَّد أشكاله، وتتنوَّع صُوَره، فأذوق
كلَّ ما لذَّ وطاب من أنواع الحرمان، فمرَّة أُحرم من الطعام نهارًا
طويلاً، لا يُنْبِئ بليل، وكأنِّي في حصار بني شعيب! ومرة أُحرم من مشاهدة
التِّلفاز الذي جعَلَني أنسى الصلاة، ومرة أُحبَس في غرفتي منبوذة، ويَطلب
أبي من الجميع تجاهلي، وعندما كَبِرت كنت قد اعتدتُ على أدائها وأصبَحَت من
أهم مهامِّي اليومية وعاداتي الجميلة.
وحينما تزوَّجتُ كنت مُرشَّحة لِلَقَب أسعد زوجة في الكون؛ فزوجي رمزٌ للرجولة والغِنى والشَّباب، "ولكن"، وآه مما وراء هذه الكلمة التي تقف دائمًا في وجهنا آخِذَة من راحتنا وسعادتنا، كما يقول المثَل: "الحِلو ميكملش" فزوجي الذي لم يترك الله نعمة إلاَّ وكان له منها نصيب... لا يصلِّي!!
فمنذ أول يوم لزواجنا لاحظتُ تكاسُلَه
ونومه عن الصلاة، فقلت في نفسي: لعله تكاسُلُ العِرسان، وستمرُّ الأيام
ويعود إلى صلاته، ورحتُ أُسكِت بعقلي أزيز ظنوني مُحدِّثةً نفسي الشريرة: "هاااااااااه هل سنبدأ"؟!
وكنت إذا جاء وقت الصلاة أنزَوِي في ركن
بعيد من البيت أصلِّي فريضتي، وهو يلمحني ولا يعلِّق! فيعلو صوت الحيرة في
عقلي الذي لا يتوقَّف عن نَكْء السؤال مرات ومرات: لماذا لا يصلِّي؟!
ومرت الأيام تَتْرَى ما بين صَدى ظنوني وتكذيبها، إلى أن عاد زوجي إلى عمله بكل نشاط وحماس... ولا صلاة!!
إذًا لم يكن ترْكُه للصلاة مجرَّد (دلع) عرسان؛ فقد تيقَّن لي الآن أنه لا يصلِّي!!
ردَّدْتها في نفسي ليقلقني صداها، أصابني
وابلٌ من الغم الشديد، ودار عقلي دورة كاملة يبحث عن نقطة انطلاق، ولكن دون
أي اشارة للبثِّ المباشر!
كيف سأفتح معه الحوار؟ هل أبدو غاضبة
مستنكِرَة أم أستعمل الرَّأفة وأتصنَّع الهدوء؟ هل أهدِّده إن لم يصلِّ فلا
يَقْربني؟ هل أتحَيَّن أول فرصة وأجعل حديثي وكأنه جاء مصادفة؟
أعجبني الحلُّ الأخير، نعم،
سأستغِلُّ حديثًا عن الصلاة وأبدأ، وبالفعل حينما علاَ صوت أذان المغرب
ونحن جالسان أخذت جهاز التحَكُّم بالتِّلفاز وأسكَتُّ صوته تمامًا، فقال:
لم أسكتِّه؟! قلت بنظْرة يملؤها الدَّهشة: لنستمع للأذان، ثم بادرتُه
قائلةً: هل تَؤمُّني لصلاة المغرب؟ فلم يعلِّق، وازداد وجهه وجومًا،
فكرَّرت سؤالي؛ لعله لم يَسْمعني، فقال بصوت لا أكاد أسمعه، وكأنه لا
يريدني سمَاع ما سيَقذفني به: لا؛ أنا لا أصلِّي!!
فنظرت إليه وقلت له ووجهي تَعْلوه كلُّ علامات الدهشة والاستنكار: معقول؟!
كل هذه النعم التي أعطاها الله لك ولا تصلي له؟! فتمادَى
في صمته مُوغِلاً قلبي الذي صُدم فيه، خدعَتْني طِيبته وأخلاقه العالية،
ولم يتسَنَّ لي لقِصر الخِطْبة أن أساله سؤالاً بديهيًّا جدًّا، فوالده -
أكرمه الله - يصلِّي، وكذلك إخوته، وهو الابن الأكبر، فلماذا لا يصلِّي؟ لم
يَرُدَّني صمتُه، بل التصقْتُ به في وُدٍّ بالغ، وحبِّ زوجة مشْفِقة، وقلت
له هامسة: إنْ صلَّيتَ معي ستكون لك هدية مميَّزة لن أُعلنها سوى في
وقتها، وأخذتُه من يديه ليتوضَّأ، فتحرك معي بصعوبةٍ كطفل مشاكِس، يقدِّم
قدَمًا ويؤخِّر أخرى، ووقفت أساعده بوجه مبتسم ومشجِّع، وأخَذ ينظر لي
كالطفل الذي تعلِّمه أمُّه أول حرف من أوَّل كلمة حتى إذا نطقَها امتلأت
الأمُّ فرحًا، ورقص قلبها طربًا لِسَماع كلمته المتلعثمة، ووقف إمامًا يقرأ
الآيات كطفل يتهجَّى الحروف، وأنا أنادي عليه في أعماقي مبتسمة: أحسنتَ.
وهكذا كنتُ كلَّ يوم أَعْرِض عليه الصلاة
بوجه باشٍّ، ورُوح محبَّة حانية مشفقة، وعندما ندخل إلى النوم أجعل رأسه
ترتاح على صدري، وكأني أحكي لصغيري حكاية قبل النوم؛ قصَّة الأميرة التي
تحبُّ الأمير ومن شدَّة حبِّها له كانت تدعو دائمًا أن يكون معها في الدنيا
والآخرة، فكان يأتيها مَلك يقول لها: لكِ ما تطلبين بشرط أن يَلزم حبيبُكِ
الصلاة، فكان زوجي الحبيب تتَّسع ابتسامته ويستدير لي، قائلاً: "حاضر يا ماما"!
وأخذتُ عهدًا بيني وبين الله ألاَّ أتركه
لنفسه الكسول مرَّة أخرى مهما كلَّفني الجهد، وفعل بي اليأس، وألاَّ أقطع
وصلات الحب بيننا، وكان إذا تملَّكَه عنادٌ أو أصابه تملْمُل أو تبرُّم
أُعِيد دورة المحاولة من جديد، وأذكِّر نفسي أنْ لا تيئسي.
شهورٌ طويلة وأنا أجاهد زوجي؛ مرَّة بالترهيب، بتذكيره بوعيد الله لتارك الصلاة، ومرَّات بالترغيب، وفرحة الله بعودة التائب.
ولم يمر العام إلاَّ ويداه تَرْبت على كتفي في حنان هامسًا:
هيا غاليتي، صلاة الفجر!
عزيزتي: لا تيئسي، ما دام الهدف نبيلاً، واجعلي الرحمة والحب يساندانك.