بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على سيد المرسلين
إن هذا المقال يريد أن يقدم للداعية المسلم الذي يجوب الأرض سائحا بين الناس مفهوم الحلاوة لدعوته، وهذا الأمر ليس جديدا على مفهوم العربية، ففي الصحاح في مادة "حلا": " الحُلْوُ: نقيضُ المُرِّ. يقال: حَلا الشيءُ يَحْلُو حَلاوَةً. واحْلَوْلى مثله. واَحْلَيْتُ الشيء: جعلته حُلْواً. يقال: ما أَمَرَّ وما أحْلى، إذا لم يقل شيئاً. وأَحْلَيْتُهُ، إذا وجدتَه حُلْواً.
وحالَيْتُهُ، أي طايَبْتُهُ. قال المرَّارُ الفقعسيّ:
فإني إذا حُليتُ حُلْوٌ مَذَاقَتي ومُرٌّ إذا ما رامَ ذو إحْنَةٍ هَضْمي
فالمرار جعل الحلاوة تختص بعلاقته مع الناس بمفهوم الليونة والقوة، بل يرمي ببصره إلى أبعد من ذلك فيجعله مفهوما متبادلًا بينه وبين المجتمع.
وحلاوة القرآن عَلِمَهَا الكافرون قبل المسلمين، فقصة الوليد بن المغيرة معروفة لدى الجميع: " إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإنه يعلو وما يعلى عليه ".
وحلاوة المسلم تبدو للناظرين من بعيد في ابتسامة شفتيه وعذوبة كلامه، ويكأن النور يخرج من بين ثناياه، لا يمل الابتسامة ولا يسأم الكلمة الطيبة، بل هي رفيقة دربه في الدعوة إلى الله، تجد الناس ينصتون إليه إذا تحـدث شـوقًا إلى سماع ألفاظه الجميلة، فما يكادون أن يقتربوا منه أكثر إلا وقـد أسرهم بحلو كلامه وحلو قلبه.
ومن حلاوة الحديث أن تتكلم مع أناس فقـدوا الثقة في ربهم ونصرة دينهم بعزة وشموخ لتروي لهم من التاريخ ما يثبت أن الأمة دكت كثيرا ولكنها شبت أكثر، لتلقي على أسماعهم بل قل على قلوبهم آيات الأمل والعزة وبينات النصرة والتمكين في الأرض: " بشر هذه الأمة بالسناء والتمكين في الأرض ". .... [ قال في مجمع الزوائد رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح ]
لم يلقب أبو حمزة ـ رحمه الله ـ بالسكري لبيعه السكر وإنما كما قال في السير والتهذيب وتحفة الأحوذي وغيرهم: "وإنما سمي السكري لحلاوة لسانه ".
قال أبو نواس:
فَكِدنا جَميعًا مِنْ حَلَاوَةِ لَفظِهِ نُجَنُّ وَلَم نَسْطِعْ لِمَنْطِقِهِ صَبْرًا
وحلاوة الداعية تدوم في النفوس حتى تغمس القلوب في وعاء ضَرَبٍ صافٍ، وهي حلاوة يرى الناظر من خلالها رؤية للإسلام تختلف عن رؤية المتشدقين والمنهزمين نفسيا، يقول الشيخ محمد بن أحمد الراشد: " وهي الحلاوة عند الحكماء والظرفاء والوسطيين والشموليين وأهل التفاؤل والطموح والنظر الواقعي؛ فلسنا نريد الثقة فقط بل نريد الحلو الذي هو طيب، الذي إنْ جالسته أحاطك بحسن الظنِّ وآنسك وأنساك الآلام ومرارات الأيام ".
وأظهر ما تكون الحلاوة في زمن المرارة وتجرع كأس الهوان وفي زمن الامتحان والابتلاء، وفي زمنٍ يحيطك أعداؤك فيه من كل جانب فتتمثل ببيت ابن الرومي وأنت تحاول تخفيف الآلام على الناس بحلو حديثك:
لا تخلطنَّ حلاوةً بمـرارةٍ إن المخلِّـط في الإخـاء منغّصُ
كـن ظل بيت لا يزول ولا تكن ظل السحاب يُظِلُّ ثم يقلّصُ
فيصفـو لهم حديثك ويجيش في صدورهم حتى يجدوا أثر حلاوة كلامك في واقعهم وإن كان مرًّا.
ولقد كان عمار بن ياسر رضي الله عنه فقيها لمعنى الحلاوة خاصة في صدد ما نقول، قال رضي الله عنه:" ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: الإنفاق من الإقتار، وإنصاف الناس من نفسك، وبذل السلام للعالم " .... [ الجامع لمعمر بن الراشد: 10/386]، فالمواطن الثلاث تكون مواقف حرجة وضيقة على النفس ومع ذلك بفعلها تجد الحلاوة تنبع منك، إنفاق على الناس بل وإنصافهم ولو كان الظالم نفسك، وفي نهاية المطاف تسير وأنت تحمل ابتسامة جميلة تلقي بها السلام على من تعرف ومن لا تعرف.
وإن الأمة الآن بحاجة إلى من يحتضنها بالكلمة الطيبة، ومع الأسف الشديد نجد كثيرا من المتصـدرين للدعوة يفتقـدون حلاوة الكلام ولطفه وظرفه، لما سئل أحمد رحمه الله تعالى عن إسماعيل بن زكريا قال:" ليس به بأس، إلا أنه ليس له حلاوة "، ومما نرى أن البعض يخال أن هذا من عدم توقير أنفسهم وعلمهم، فنقـرع آذانهم ببيت ابن الرومي:
فيها حلاوةُ ظَرْفٍ غير مُنْتحَلٍ إلى فخامة علم غير مؤتشَبِ
فنرى من يرد على السؤال متجهم الوجه فـظ الحديث لا لينه، فينفر منه الناس ويخافون الاقتراب منه، بل حلاوة الداعية أو العالم مطلوبة لجلب الناس إليهم وتشوقهم دائما إلى لقائهم وأحاديثهم.
ذكر القرطبي قصة عن شيخه ابن العربي في تفسيره في تفسير سورة يوسف عـن هـم يوسف وهـم امرأة العزيز:" قال ابن العربي: كان بمدينة السلام إمام من أئمة الصوفية، - وأي إمام - يعرف بابن عطاء! تكلم يومًا على يوسف وأخباره حتى ذكر تبرئته مما نسب إليه من مكروه؛ فقام رجل من آخر مجلسه وهـو مشحـون بالخليقة من كل طائفة، فقال: يا شيخ يا سيدنا فإذًا يوسـف هـمَّ وما تم؟ قال: نعم؛ لأن العناية من ثـَمَّ. فانظر إلى حلاوة العالم والمتعلم، وانظر إلى فطنة العامي في سؤاله، وجواب العالم في اختصاره واستيفائه".
|
وما أجمل وصية الراهب لأخيه الراهب: " أوصني قال: ازهـد فـي الدنيا ولا تنازع أهلهـا، وكـن فيهـا كالنحلة؛ إن وقعت على عـود لم تكسره، وإن أكلت أكلت طيبا، وإن وضعـت وضعت طيبـا، وانصـح لله نصـح الكلـب لأهله، فإنهم يضربونه ويطردونه ويجيعونه ويأبى إلا أن يحـوطهـم ويحفظهـم وينصح لهـم ". .... [ الزهد لابن عاصم ].
ولأنَّ النحلة سرى في دمائها العسلُ ـ الحلاوة ـ صارت لا تقع إلا على طيب ولا تأكل إلا طيبا، فكـن مثلها أخي، ولا ينبثق لسانك إلا عـن طهـر وطيـب وجمال، إن النفـوس جبلت على حـب من أحسـن إليهـا.
وإن نجد ونرى في هذه الأيام ما يجعل لساننا وقلوبنا تتفتق حـلاوة وأملًا باسمًا بعد أن أشرقت شمس ظننا أنها غابت، واترك قافلة المنافقين وأشباه المنافقين الناعقين: ﴿ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً ﴾[الأحزاب:12]، وسـر بحلـو كلامك وثقتك بالسناء والتمكين مع القافلة السائرة لا تبتغي إلا الشروق الذي بدأت علاماته تضرب في الآفاق.
واعلم أن الحلاوة لا تنبثق على لسانك قبل أن تختلط بدمائك فتجدك في أشد الأمور ضراوة وأشد أوقات الليل ظلمة نهتدي بكلامك ونستأنس بمنطقك وثباتك: " ].
{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ }آل عمران159
منقول