غربة الدين
سمير بن خليل المالكي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد،
فقد صح في الحديث أن الإسلام بدأ غريبا وسيعود كما بدأ غريبا. ونحن نعيش في زمن غربة لا أظنها مرت بمثل هذا القدر على الأمة.
غربة في فهم أصول الدين وقواعده وفي تطبيقه في واقع المسلمين.
غربة عمت وطمت لا يعرف لها حد ولا وصف ، و لا يدرك لها قرار.
* * * * *
" التقول على الله "
ومن غربة الدين ظهور الجهل وقلة التقوى في قلوب كثير من المنتسبين للعلم ، فاجترءوا على القول على الله وفي دين الله بغير علم.
قال تعالى {قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله مالم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون}.
فبدأ سبحانه بأخفها ثم ختم بأشدها.
* وإن من التقول على الله ما يكون سببه الهوى وطلب الحظوة في الدنيا ، وكم رأينا من المفتين ممن يسارعون في تحريف نصوص الوحي المبين لإرضاء السلاطين. ومنهم من يكتمون الحق ، ولا يبينونه للخلق.
قال تعالى: {يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون }.
* * * * *
" رئاسة .. بالوكالة "
ولقد تتابعت النكبات على أمة الإسلام بعد سقوط الخلافة العثمانية، وتمكن أعداء هذا الدين من اغتصاب أكثر بلاد المسلمين ، وفرضوا قوانينهم الكافرة للحكم بين الناس ، وطال الأمد على ذلك الوضع المهين عقودا من الزمان ، ونصب عملاء اليهود وعبيد الصليبيين للحكم في بلاد المسلمين بالقوانين.
وقد طغى أولئك " الوكلاء " وبغوا على رعيتهم ، وساموهم سوء العذاب ، ولم تفلح كل دعوات الإصلاح السلمية ، ولا غيرها من دفع نزر يسير من ذلك الظلم والاستبداد.
* * * * *
" ربيع لم يزهر بعد "
ثم لاح من بعد تلك السنين العجاف من القهر والاستعباد ، بصيص أمل وبريق خلاص ، فسقطت بعض الأنظمة المستبدة ، بما قدره المليك القهار على يد نخبة من الأحرار. نعم ، سقطت عروش ظن أنها خالدة أبد الدهر ، فسبحان من يؤتي الملك من يشاء وينزعه ممن يشاء متى شاء !
* لكن ذلك الربيع شابته شائبة منعت من ازدهاره ، حيث نبتت معه دعوات علمانية تنادي بالتحرر من سلطة الشريعة الإسلامية ، ومن تحكيمها في البلاد والعباد.
ومن المعلوم بالضرورة أن تحكيم شريعة الإسلام والتحاكم إليها أعظم الفرائض على الأمة ، والمساس بهذا الفرض ، بالتشكيك فيه أو التهوين من أمره ، يعد من المنكرات العظام، فكيف بمن يصرح بضده ويدعو إلى نقيضه ، باسم الحرية واختيار حكم الشعب ، أو من يطالب بإقامة دولة علمانية أو ليبرالية ؟!
ولا ريب أن كل تلك الدعاوى الجاهلية التي تنادي بتحكيم غير الإسلام ، قد ظهر عوارها من قبل قرون حين حكمت قوانين الكفر في بلاد المسلمين ، فماذا جنت تلك البلاد وأهلها إلا الذل والصغار ، وضنك العيش ، مصداقا لما نطق به الوحي المبين :
{و من أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى}.
(وجعل الذل و الصغار على من خالف أمري) . الحديث.
* * * * *
" إن الحكم إلا لله "
ولا ريب أن كل الرسالات الإلهية إنما نزلت لتحكم في الناس بأمر الله ، فإذا رفضها الناس فقد طعنوا في الرسالة وفيمن أرسلها وفرضها .
وقد كفر القرآن اليهود والنصارى وشنع عليهم لما أعرضوا عن تحكيم التوراة والإنجيل.
قال سبحانه {إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار.. } إلى قوله {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} .
وقال {وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور..} إلى قوله {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون}.
قلت : فإذا كان هذا في أمر الشرائع الخاصة بزمان معين ، وبأقوام معينين ، فكيف بالشريعة الخاتمة العامة لمن في الأرض أجمعين ؟
ولذلك عقب الله سبحانه بعد الآيات السابقة في شأن التوراة والإنجيل ، بذكر شريعة القرآن فقال {وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق} إلى قوله{وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم}
إلى قوله {أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون}.
ومن استقرأ القرآن ، خاصة آيات التحكيم والتحاكم في سورتي النساء والمائدة ، فإنه يتبين له الحق جليا في هذه المسألة ، ولا يبقى عنده أدنى شك في فرضية تحكيم الشريعة ، وتحريم تحكيم غيرها ، وأنه لا اختيار لأحد في هذا الأمر كائنا من كان.
* * * * *
"خلع الحكام لا خلع الإسلام"
ومن غربة الإسلام في أهله ودياره ، ما أفتى به بعض من نصبوا أنفسهم فقهاء وباحثين ، بأن تحكيم الشرع الإسلامي خاضع لرغبة الجماهير ورضاهم ، وأن سيادة الأمة مقدمة على سيادة الشريعة ، إلى غير ذلك من الدعاوى الباطلة ، التي لم نكن نظنها تصدر عن جهلة العوام ، فضلا عمن نصب نفسه من الأعلام.
وقد تتابعوا على إعلان تلك الفتوى وإفشائها في الأمة ، كأنها الدين القويم والصراط المستقيم ، فصرح بها القرضاوي وطارق السويدان وعبدالله المالكي ، الذي توالت الردود عليه من بعض الغيورين من أهل العلم ، وفندوا ما أورده في بحثه من شبهات ، فانتصر له ونافح عنه حاتم العوني (كعادته) في حشر أنفه في كل خلاف شاذ ، ولله في خلقه شئون.
ومن شبه أولئك المتعالمين نصوص من القرآن ، منها :
* قوله تعالى {لا إكراه في الدين}.
* وقوله {أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين}.
* وقوله {فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظا إن عليك إلا البلاغ}.
* وقوله {فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر}.
* وقوله {لست عليهم بمسيطر}.
وأشباهها من الآيات التي فهم منها هؤلاء أن تحكيم شريعة القرآن خاضع لرضا الناس ، وأنه رهن صناديق الاقتراع ولجان الانتخابات !!
قال سمير : لم يأت هؤلاء بجديد ، وليسوا بدعا ممن سبقهم من فرق الضلال ، فكلها تجادل بالمتشابه من نصوص القرآن والسنة.
{فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة..}.
* وأول فرقة مرقت من هذا الدين كانت قد اتخذت القرآن شعارا لها ، فكانت تجادل به الصحابة.
وكل الفرق بعدها من الشيعة والقدرية والمرجئة والمعتزلة كانوا يحتجون بما فهموه من الوحي.
فليست العبرة بكثرة الأدلة ولا حشد النصوص ، بل بصحة الاستدلال ، وهذا لا يتأتى إلا لمن وفقه الله وهداه إلى طريقة السلف في فهم الأدلة الفهم الصحيح.
والآيات التي شبه بها هؤلاء أكثرها منسوخ بآيات التحكيم وآيات القتال.
وقد ذكر القرطبي في تفسير قوله تعالى{لا إكراه في الدين} ستة أقوال ،
منها : أنها منسوخة ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أكره العرب على دين الإسلام وقاتلهم ولم يرض منهم إلا بالإسلام.
وساق بقية الأقوال ، وخلاصتها : أن من الكفار من لايكره على اعتناق الإسلام ، لكنهم محكومون بحكم الإسلام في العموم ، وتفرض عليهم الجزية.
وأما قوله تعالى {أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين} ، فهذه وأمثالها من الآيات إنما سيقت لتعزية النبي صلى الله عليه وسلم والتخفيف عنه فإنه كان شديد الحرص على هداية الأمة ، فأعلمه الله أن الهداية موكلة إلى مشيئته وحده سبحانه.
وقد حرمها أقرب الأقربين للخليلين إبراهيم و محمد عليهما صلوات الله وسلامه.
فليس في الآية دليل على التخيير في التحكيم.
قال الإمام ابن العربي في تفسير قوله {لا إكراه في الدين}:
" إن الله سبحانه بعث رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم يدعو الخلق إليه ويوضح لهم السبيل ويبصرهم الدليل، ويحتمل الإذاية والهوان في طريق الدعوة والتبيين ، حتى قامت حجة الله واصطفى الله أولياءه ، وشرح صدورهم لقبول الحق .. ثم نقله من حال الإذاية إلى العصمة .. وجعل له أنصارا بالقوة ، وأمره بالدعاء بالسيف .. " .
* وقال في تفسير {لست عليهم بمسيطر} : " كان النبي صلى الله عليه وسلم في أول أمره معرفا برسالته ، مذكرا بنبوته ، يدعو الخلق إلى الله ، ويذكرهم عهده .. حتى وضحت المحجة ، وقامت لله سبحانه الحجة ، فلما استمر الخلق على فساد رأيهم ، ولجوا في طغيانهم ..
أمره الله بالقتال ، وسوق الخلق إلى الإيمان قسرا ، ونسخ هذه الآية وأمثالها ، حسب ما بيناه " .
وقال القرطبي في تفسير آية النساء { فما أرسلناك عليهم حفيظا }
"نسخ الله هذا بآية السيف وأمره بقتال من خالف الله ورسوله".
وقال في آية الأنعام { وما جعلناك عليهم حفيظا وما أنت عليهم بوكيل }
"وهذا قبل أن يؤمر بالقتال ".
وذكر الشنقيطي في أضواء البيان في تفسير { فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر } أن هذا معناه التهديد لا التخيير ، بدلالة ما بعده من الوعيد بالعذاب.
قال سمير : ولا ريب أن النصوص المحكمة من الكتاب والسنة قد تواترت على فرض التحاكم إلى الشريعة ، ونفت الإيمان عمن يرفض التحاكم إليها ، ولو في الشيئ اليسير ، وتوعدت من يخالفها بالعذاب في الدنيا والآخرة ، وأمرت بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ، ويلتزموا بشعائر الإسلام وأحكامه .
وجرت سنة الخلفاء الراشدين ومن بعدهم على هذا الأمر ، لم يختلفوا فيه ، ومن أجله فتحت الممالك ومصرت الأمصار ، ولم يجترئ أحد ممن يدعي الإسلام _ مهما بلغ به الجهل _ أن يقول : ما شأن المسلمين بفارس والروم ، ولماذا فتحوا الشام والعراق ومصر وتركيا و المشرق والمغرب ، ولماذا حكموها كلها بالإسلام دون أن يخيروا أهلها ، وكيف ضربوا على من لم يسلم الجزية والخراج ؟
* ولا يتصور أن يصرح مسلم برفضه لحكم الإسلام وتحكيمه ، وإن كان منغمسا في الفواحش والمنكرات ، وقد يجتهد في إخفاء أمره ، والنجاة من إقامة العقوبة عليه ، وربما تمنى لو سمح له أن يفعل ما يشاء ، وهذا مجبول في طباع كثير من العصاة ، لكن هذا يختلف اختلافا بينا عن ترك تحكيم الإسلام في الأمة ، بحجة أن أكثر الناس لا يريدون تحكيمه !
ومعلوم أنه لو وجدت طائفة من الأمة امتنعت عن أداء فريضة أو شعيرة ظاهرة من شعائر الإسلام ، فإنه يجب استتابتها ، فإن تابت ، وإلا وجب قتالها حتى ترجع.
فكيف بمن تركت تحكيم شريعة الإسلام بالكلية ؟
وتفصيل هذا يطول ، والله أعلم ، وصلى الله على نبينا محمد وسلم .