. قال ابن كثير في تفسيره:
اعتقد المنافقون أن الله لا يكشف أمرهم لعباده المؤمنين؟ بل سيوضح أمرهم
ويجليه حتى يفهمهم ذوو البصائر، وقد أنزل تعالى في ذلك سورة “براءة”،
فبيّن فيها فضائحهم وما يعتمدونه من الأفعال الدالة على نفاقهم؛ ولهذا إنما
كانت تسمى الفاضحة. والأضغان: جمع ضغن، وهو ما في النفوس من الحسد والحقد
للإسلام وأهله والقائمين بنصره. وقوله: {وَلَوْ نَشَاءُ لأرَيْنَاكَهُمْ
فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ}، يقول تعالى: ولو نشاء يا محمد لأريناك
أشخاصهم، فعرفتهم عياناً، ولكن لم يفعل تعالى ذلك في جميع المنافقين ستراً
منه على خلقه، وحملاً للأمور على ظاهر السلامة، ورد السرائر إلى عالمها، {
وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ }، أي: فيما يبدو من كلامهم
الدال على مقاصدهم، يفهم المتكلم من أي الحزبين هو بمعاني كلامه وفحواه،
وهو المراد من لحن القول، كما قال أمير المؤمنين عثمان بن عفان، رضي الله
عنه: ما أسَرّ أحد سريرة إلا أبداها الله على صفحات وجهه، وفلتات لسانه.
لا يذكرون الله إلا قليلاً:
ذِكْرُ
الله تعالى من أجل العبادات وأعظمها، فهو يدل على كمال العبودية والمحبة
والتأليه. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ
ذِكْراً كَثِيراً} [الأحزاب/41] قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: (قال
علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: إن الله لم يفرض على عباده فريضة إلا جعل
لها حداً معلوماً، ثم عذر أهلها في حال عذر، غير الذكر، فإن الله لم يجعل
له حدًّا ينتهي إليه، ولم يعذر أحدًا في تركه، إلا مغلوباً على تركه، فقال:
{فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ }
[النساء/103]، بالليل والنهار، في البر والبحر، وفي السفر والحضر، والغنى
والفقر، والصحة والسقم، والسر والعلانية، وعلى كل حال، وقال: {وَسَبِّحُوهُ
بُكْرَةً وَأَصِيلا} [الأحزاب/42] فإذا فعلتم ذلك صلى عليكم هو
وملائكته).
وإذا أراد العبد أن يذكره الله فعليه
بالذكر. قال تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا
تَكْفُرُونِ} [البقرة/152]. وهذا نبي الله زكريا عليه السلام، آيته ألا
يكلم الناس ثلاث ليال، ولكن لا يمنعه ذلك من ذكر الله وأمر الناس بذلك. قال
تعالى: {قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ
النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيّاً. فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ
الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيّاً}
[مريم/10-11] ، وقال تعالى: {قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ
أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً وَاذْكُرْ
رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} [آل عمران/41].
وهذا نبي الله موسى يكلفه الله بدعوة طاغية الزمان فرعون، فيطلب من الله أن
يجعل له وزيراً يعينه على طاعة الله وذكره، قال تعالى على لسان موسى:
{وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي. هَارُونَ أَخِي. اشْدُدْ بِهِ
أَزْرِي. وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي. كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً.
وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً. إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيراً} [طه/28-35] . وقال
تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ
وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ
وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ
وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ
وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ
مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} [الأحزاب/35] . والمؤمنون يذكرون الله على
كل أحوالهم، قال تعالى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً
وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا
عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران/191] . وحتى لو كان المؤمنون في جهاد وطلب
للعدو ويصلون صلاة الخوف، فعليهم بذكر الله على كل أحوالهم، قال تعالى:
{فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً
وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ
الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} [النساء/103]
. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الله
على كل أحواله (رواه مسلم). وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ شَرَائِعَ
الْإِسْلَامِ قَدْ كَثُرَتْ عَلَيَّ فَأَخْبِرْنِي بِشَيْءٍ أَتَشَبَّثُ
بِهِ قَالَ لَا يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ. (رواه
الإمام أحمد وابن ماجه والترمذي) وقال: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا
الْوَجْهِ. قال في تحفة الأحوذي: قَالَ الطِّيبِيُّ: وَمَعْنَاهُ
أَخْبِرْنِي بِشَيْءٍ يَسِيرٍ مُسْتَجْلِبٍ لِثَوَابٍ كَثِيرٍ. (
أَتَشَبَّثُ بِهِ )أَيْ أَتَعَلَّقُ بِهِ وَأَسْتَمْسِكُ وَلَمْ يُرِدْ
أَنَّهُ يَتْرُكُ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ رَأْسًا بَلْ طَلَبَ مَا
يَتَشَبَّثُ بِهِ بَعْدَ الْفَرَائِضِ عَنْ سَائِرِ مَا لَمْ يُفْتَرَضْ
عَلَيْهِ قَالَهُ الطِّيبِيُّ: “ قَالَ لَا يَزَالُ” أَيْ هُوَ أَنَّهُ لَا
يَزَالُ ( لِسَانُك رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ) أَيْ طَرِيًّا
مُشْتَغِلًا قَرِيبَ الْعَهْدِ مِنْهُ وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ
الْمُدَاوَمَةِ عَلَى الذِّكْرِ . وعن أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه، أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إذا أيقظ الرجل امرأته من الليل، فصليا
ركعتين، كُتبا تلك الليلة من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات”. رواه أبو
داود، والنسائي، وابن ماجه. وقد مدح الله عباده الذاكرين، قال تعالى:{فِي
بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ
لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ. رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ
وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ
الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ
وَالْأَبْصَارُ} [النور/36-37] . قال ابن كثير في تفسيره: فقوله: (رِجَالٌ )
فيه إشعار بهممهم السامية، ونياتهم وعزائمهم العالية، التي بها صاروا
عُمَّاراً للمساجد، التي هي بيوت الله في أرضه، ومواطن عبادته وشكره،
وتوحيده وتنزيهه، كما قال تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا
مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب/23]. فأما النساء فَصَلاتهن في
بيوتهن أفضل لهن، وقوله: { رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ
عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ}، كقوله { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ
يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } [المنافقون/9]، وقال
تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ
يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ
ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الجمعة/9]. يقول
تعالى: لا تشغلهم الدنيا وزخرفها وزينتها ومَلاذ بَيعها وريحها، عن ذكر
ربهم الذي هو خالقهم ورازقهم، والذين يعلمون أن الذي عنده هو خير لهم وأنفع
مما بأيديهم؛ لأن ما عندهم ينفد وما عند الله باق؛ ولهذا قال: { لا
تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ
الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ}، أي: يقدمون طاعته ومُرَاده ومحبته على
مرادهم ومحبتهم. وقال هُشَيْم: عن سَيَّار: قال حُدِّثت عن ابن مسعود أنه
رأى قومًا من أهل السوق، حيث نودي بالصلاة، تركوا بياعاتهم ونهضوا إلى
الصلاة، فقال عبد الله: هؤلاء من الذين ذكر الله في كتابه: {رِجَالٌ لا
تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ}. وقال مطر
الوَرَّاق: كانوا يبيعون ويشترون، ولكن كان أحدهم إذا سمع النداء وميزانُه
في يده خفضه، وأقبل إلى الصلاة.
وقال الطاهر بن عاشور في التحرير والتنوير في تفسير الآية 35 من سورة الأحزاب: (وذكرُ اللَّه كما علمت له محملان:
أحدهما:
ذكرهُ اللساني فيدخل فيه قراءة القرآن وطلب العلم ودراسته. قال النبي صلى
الله عليه وسلم: “ ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله
ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيَتهم الرحمة وذكرهم الله فيمن
عنده” ففي قوله : «وذكرهم اللَّه» إيماء إلى أن الجزاء من جنس عملهم فدل
على أنهم كانوا في شيء من ذِكر الله وقد قال تعالى: {فَاذْكُرُونِي
أَذْكُرْكُمْ } [البقرة/152] وقال فيما أخبر عنه رسولُه صلى الله عليه
وسلم “ وإن ذكرني في مَلأَ ذكرته في ملأ خير منهم”. وشمل ما يذكر عقب
الصلوات ونحو ذلك من الأذكار.
والمحمل الثاني :
الذكر القلبي وهو ذكر الله عند أمره ونهيه كما قال عمر بن الخطاب: أفضل من
ذكر الله باللسان ذكر الله عند أمره ونهيه، وهو الذي في قوله تعالى: {
وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا
اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ } [آل عمران/135] فدخل فيه التوبة
ودخل فيها الارتداع عن المظالم كلها من القتل وأخذ أموال الناس والحِرابة
والإِضرار بالناس في المعاملات. ومما يوضح شموله لهذه الشرائع كلها تقييده
بـ (كثيراً) لأن المرء إذا ذَكَر الله كثيراً فقد استغرق ذكره على المحملين
جميعَ ما يُذكر الله عنده).
لقد امتلأت قلوب
المؤمنين بحب الله وتعظيمه فشغلهم ذكره عن كل شيء. فلهم ذكر إذا آووا إلى
فرشهم ولهم ذكر إذا استيقظوا من النوم، وإذا دخلوا الخلاء وإذا خرجوا منه،
وإذا توضؤوا وإذا صلوا وإذا خرجوا من منازلهم وإذا عادوا إليها، وإذا بدؤوا
طعامهم وإذا انتهوا منه، لهم ذكر إذا فرحوا ولهم ذكر إذا حزنوا. وما ترك
رسول الله صلى الله عليه وسلم من شيء إلا وسنّ لنا ذكراً لله فيه. يذكر
المؤمن ربه حباً وتعظيماً، خوفاً ورجاءً.
وفي
المقابل فقد وصف الله تعالى المنافقين بأنهم لا يذكرون الله إلا قليلاً.
قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ
خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ
النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً} [النساء/142].
قال
الطبري في تفسيره: (إنّ المنافقين يخادعون الله، بإحرازهم بنفاقهم دماءهم
وأموالهم، والله خادعهم بما حكَم فيهم من منع دِمائهم بما أظهروا بألسنتهم
من الإيمان، مع علمه بباطن ضمائرهم واعتقادهم الكفرَ، استدراجًا منه لهم في
الدنيا، حتى يلقوه في الآخرة، فيوردهم بما استبطنوا من الكفر نارَ جهنم.
وكان الحسن إذا قرأ (إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم)، قال: يُلقَى
على كل مؤمن ومنافق نورٌ يمشونَ به، حتى إذا انتهوا إلى الصراط طَفِئ نورُ
المنافقين، ومضى المؤمنون بنورهم، فينادونهم:{انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ
نُورِكُمْ } إلى قوله:{ وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ }
[الحديد/13-14] . قال الحسن: فذلك خديعة الله إياهم. وأما قوله:{ولا يذكرون
الله إلا قليلاً}، فلعل قائلاً أن يقول: وهل من ذكر الله شيء قليل؟ قيل
له: إن معنى ذلك بخلاف ما ذهبت: ولا يذكرون الله إلا ذكر رياء، ليدفعوا به
عن أنفسهم القتل والسباء وسلبَ الأموال، لا ذكر موقن مصدّق بتوحيد الله،
مخلص له الربوبية. فلذلك سماه الله”قليلا”، لأنه غير مقصود به الله، ولا
مبتغًي به التقرّب إلى الله، ولا مرادٌ به ثواب الله وما عنده. فهو، وإن
كثر، من وجه نَصَب عامله وذاكره، في معنى السراب الذي له ظاهرٌ بغير حقيقة
ماء. وقرأ الحسن: (ولا يذكرون الله إلا قليلاً)، قال: إنما قلَّ لأنه كان
لغير الله).
وقال ابن كثير في تفسيره: (وقوله:
{وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلا قَلِيلاً} أي: في صلاتهم لا يخشعُون فيها
ولا يدرون ما يقولون، بل هم في صلاتهم ساهون لاهون، وعما يراد بهم من الخير
معرضون. وقد روى الإمام مالك، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أنس بن مالك
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “تلك صلاة المنافق، تلك صلاة
المنافق، تلك صلاة المنافق: يجلس يَرْقُب الشمس، حتى إذا كانت بين قَرْنَي
الشيطان، قام فَنَقَر أربعا لا يذكر الله فيها إلا قليلا”. وكذا رواه مسلم،
والترمذي، والنسائي، من حديث إسماعيل بن جعفر المدني، عن العلاء بن عبد
الرحمن. وقال الترمذي: حسن صحيح).
وقال سيد قطب في
ظلاله: (وإذا لم تتجرد النفس لله، لم تتحرر أبداً من ضغط القيم والأوضاع،
والضرورات والمصالح، والحرص والشح ولم ترتفع أبداً على المصالح والمغانم
والمطامع والمطامح ولم تستشعر أبداً تلك الطلاقة والكرامة والاستعلاء
التي يحسها القلب المملوء بالله أمام القيم والأوضاع وأمام الأشخاص
والأحداث وأمام القوى الأرضية والسلطان وأصحاب السلطان. . ومن هنا تبذر
بذرة النفاق. وما النفاق في حقيقته إلا الضعف عن الإصرار على الحق في
مواجهة الباطل. وهذا الضعف هو ثمرة الخوف والطمع، وتعليقهما بغير الله؛
وثمرة التقيد بملابسات الأرض ومواضعات الناس، في عزلة عن منهج الله للحياة
... { وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ
النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلا قَلِيلاً }, فهم لا يقومون إلى
الصلاة بحرارة الشوق إلى لقاء الله والوقوف بين يديه والاتصال به
والاستمداد منه,. إنما هم يقومون يراءون الناس. ومن ثم يقومون كسالى، كالذي
يؤدي aعملاً ثقيلاً؛ أو يسخر سخرة شاقة! وكذلك هم لا يذكرون الله إلا
قليلاً. فهم لا يتذكرون الله إنما يتذكرون الناس! وهم لا يتوجهون إلى الله
إنما هم يراءون الناس. وهي صورة كريهة - ولا شك - في حس المؤمنين. تثير في
نفوسهم الاحتقار والاشمئزاز، ومن شأن هذا الشعور أن يباعد بينهم وبين
المنافقين؛ وأن يوهن العلائق الشخصية والمصلحية.. وهي مراحل في المنهج
التربوي الحكيم؛ للبت بين المؤمنين والمنافقين!)
وقال
تعالى واصفاً المنافقين:{ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ
فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ
حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المجادلة/19] . وقال تعالى:
{الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ
بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ
نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}
[التوبة/67] ، وقال تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ
فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر/19] .
وقال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً
وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى. قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي
أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً. قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا
فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} [طه/124-126] . فالمنافقون
انشغلوا بدنياهم عن آخرتهم، ولم تعمر قلوبهم بحب الله وخشيته، فنسوا الله
وتشاغلوا عن ذكره، وإذا ذكروه فلا يذكرونه إلا قليلاً بألسنتهم وقد غفلت
عنه قلوبهم.
قد يندس المنافق في الصف المسلم، إما
خوفاً منهم، أو للإيقاع بينهم ونقل أخبارهم لعدوهم. وهو أثناء ذلك يتظاهر
بصفات المؤمنين، تلبيساً عليهم. ولكن لا يقو قلبه على ذكر الله والمداومة
عليه. فكم رأينا من أولئك المنافقين الذين يتثاقلون عن الصلاة فيضيعونها،
وإذا حضروها تأففوا من تطويل الإمام في الصلاة، فإذا انتهت الصلاة كانوا
أسرع الناس مغادرة للمسجد، فلا يذكرون الله بعد الصلاة ولا يصلون السنن
الرواتب. وبالمقابل تراهم يضيعون الأوقات الطوال في شؤون الدنيا بلا توقف
ولا تأفف. يكرهون دروس العلم والذكر فيضيعونها، وإذا حضروها لم يفقهوا منها
شيئاً، ويحرصون على مجالس الغيبة والنميمة والإيقاع بين المسلمين. إذا
تُلي عليه القرآن تثاءب ونعس، وإذا ذكرت الدنيا نشط، قال تعالى: {وَإِذَا
ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ
بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ
يَسْتَبْشِرُونَ} [الزمر/45]. لقد رأينا بعضهم لا يقيمه ولا يقعده إلا
الأناشيد والأغاني والموسيقى، وبالمقابل لا يكاد يحسن سورة من القرآن. وإذا
جالست الواحد منهم، يحدثك لساعات، فلا يذكر الله فيها.
قد
يذكر المنافق الله في الملأ، وقد يحسّن صوته بالقرآن، ولكن لا يكون هذا
دأبه وعادته. فعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ “مَثَلُ الْمُؤْمِنِ
الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَثَلُ الْأُتْرُجَّةِ رِيحُهَا طَيِّبٌ
وَطَعْمُهَا طَيِّبٌ وَمَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ
مَثَلُ التَّمْرَةِ لَا رِيحَ لَهَا وَطَعْمُهَا حُلْوٌ وَمَثَلُ
الْمُنَافِقِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَثَلُ الرَّيْحَانَةِ رِيحُهَا
طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ
الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الْحَنْظَلَةِ لَيْسَ لَهَا رِيحٌ وَطَعْمُهَا مُرّ”ٌ.
(رواه البخاري ومسلم). وإن خفيت علينا هذه الصفة فيه، فلا بد من أن ينكشف
منه صفة أخرى من صفات المنافقين.
وقد فهم هذا الأمر
وطبقه الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه، عندما سُئل عن الخوارج _
وكانوا من أكثر الناس عبادة وطاعة مع جهل وغلو فيهم، أكفارٌ هم؟ قال: من
الكفر فروا. فقيل منافقون؟ قال: المنافقون لا يذكرون الله إلا قليلاً. قيل
فمن هم؟ قال: قوم بغوا علينا فقاتلناهم. وفي رواية: قوم بَغوا علينا
فنُصرنا عليهم. وفي رواية: قوم أصابتهم فتنة فعمّوا فيها وأصمّوا. (رواه
ابن أبي شيبة في المصنف باسناد صحيح ورواه عبد الرزاق والبيهقي).