محمد بن صالح الدحيم
الحديث عن القرآن حديثٌ عن العظمة، وهو حديثٌ لا ينتهي؛ فقد أُشبعت ولم تُشبع موضوعات أخرى حول القرآن؛ فالقرآن سرُّ الوجود وسرُّ الخلود، ولذلك فإن حديثي عنه سيكون عن العلاقة التي تنشأ بينه وبين قارئه، بيد أن ما أركّز عليه هنا وبكلمات مفتاحية نحو آفاق أوسع للتفكير ما يلي:
أولاً: ما الذي نقرؤه؟ إننا نقرأ الكلمات التامّة، كلمات الله، الكلام الذي الله تكلّم به، وهنا يتضح السرّ، وتتجلّى العظمة. وكيف لبشري متناهٍ أن يقرأ كلام العظمة غير المتناهية! حتى النبي صلى الله عليه وسلم! ليأتي الجواب والحل من العظمة نفسها (فإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ)، (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ)، والمعاجلة ليست معالجة (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ. إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ. فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ. ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ). ومن هنا فلست أفهم القراءة وبالذات قراءة القرآن الكريم على أنها تركيب حروف الهجاء بهذا المعنى التبسيطي، ولكن القراءة بمفهومي هي «العلاقة التي تنشأ بين القارئ والنص»، ومن هنا نذهب إلى:
ثانيًا: القرآن يصنع قارئه: يقول عبد الغني باره في كتابه المبدع "الهرمينوطيقيا والفلسفة": «القرآن نصٌّ بالمعنى التداولي على مثال مرسله، وهو من يصنع قارئه والثقافة التي تستقبله؛ إذ إنّ جماليّته مهما تبدّت من خلال بنيته ونسقه فهي أول الأمر وآخره، مرتبطة بمرسله (...) فكماله من كماله، ووجوده من وجوده، وأبديّته من أبديّته، (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء)، (وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى).
ثالثًا: كيف نفهمه؟ إن نسبة القرآن إلى الله -كما يقول: وجيه قانصوه، في كتابه "النص الديني في الإسلام"- «لا يعني أنه نزل بشفرة خاصة به، أو بهيئة نظم وتركيب غامضة أو سرِّية، تربك متلقّيه، ومستمعه وقارئه، وتحجب معانيه عن الفهم بل نزل قرآنًا عربيًّا مبينًا».
والقرآن الذي نزل (بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ)، (قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ) قد تشكل داخل نظام اللغة العربية وتجاوزها في آن، فله من الفرادة والتميّز ما يجعله يؤسس نظامه الخاص. والقارئ وهو منوط به عملية الفهم بعد استيعابه للفرادة والتميّز سيجد نفسه أمام مسلكين للفهم. أولهما: الفهم عن المتكلم وهنا يحتاج إلى تكشّف الشعور والإحساس الباطني، والوجدان والتجلّي، والقارئ هنا يستخدم اللغة الرمزية والإشارية. وهي قراءة لها حمولة النفسية، وتتجاوز اللفظ إلى المعنى وظلال المعنى، أو معنى المعنى كما يقول الجرجاني. والمسلك الثاني: هو الفهم عن الكلام، وهو هنا يحتاج إلى أدواته الفهميّة من اللغة وقواعدها وأعرافها، وعادة النص وسياقاته، وما إلى ذلك من الأدوات.
رابعًا: ماذا نحفظ؟ جاء ذكر حفظ القرآن في القرآن، ولكنه فعل منزله (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)، وأما متلقيه -قراءة وسماعًا وإنصاتًا- فقد جاء الأمر له بتدبره (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ)، فانشغل المكلف -عفا الله عنه- بما تكفّل الله بحفظه عما أمر هو به من التدبّر، الأمر الذي لا يُفهم منه عني موقفًا ضدّ حفظ القرآن، بل إنني أعي قول الله: (بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ). ولكن الحفظ وسيلة لا غاية! وحين تقلب الأمور فالنتائج شاهدة.
خامسًا: القرآن بين زمانين «زمن النزول، وزمن التلقي»، وقد اتّحدا في وقت التنزيل، إلاّ أن الوحي انقطع كنزول، وبقي كتلقٍّ ما بقي الوجود، وباعتبار القرآن نصًّا يتجدّد ولا يخلق على كثرة الردّ، ففي كل زمان وظرف يتمّ تلقيه تتدفّق معانيه، الأمر الذي يحمّل فقهاء القرآن مسؤولية «التقدم نحو القرآن» وليس الاحتباس في مدوَّنات التراث والدعوة للرجوع للقرآن! وإنّ وعينا في هذه المسألة هو الذي يدعونا إلى تشكيل مشروع وجدانيٍّ عقليٍّ تأويليٍّ للقرآن الكريم يتناغم فيه، وتنسجم فيه أدوات اللغة، واجتهادات الفقه، وتجلّيات الوجدان، مع متغيّرات الزمان. وبهذا نفعل كما كنّا نقول: «الإسلامُ صالحٌ لكلِّ زمانٍ ومكانٍ».