الخطبة الأولى
لقد سبق الحديث في الخطبة الماضية عن الجهاد في سبيل الله وحُكمه خاصة في هذه الأيام، وإتمامًا للفائدة وامتثالاً لأمر رسول الله بإبلاغ ما جاء عنه عليه الصلاة والسلام، ولأن مئات الأحاديث وردت عنه عليه الصلاة والسلام وعنيت بها كتب السنة؛ فوجب بيان بعض الشيء عن الترغيب في الرباط في سبيل الله والحراسة والنفقة وتجهيز الغزاة وخَلْفِهم في أهلهم واحتباس الخيل للجهاد وفضل أعمال الخير في ذلك والصيام والصلاة في الجهاد أكثر من غيره، وفضل المشي في سبيل الله وسؤال الشهادة وتعلّم الرمي وإخلاص النية في الجهاد، وغير ذلك من الأبواب المتعددة والواضحة التي ينبغي لكل مسلم أن يطّلع عليها، وأن لا يبقى جاهلاً بأمر دينه، وخاصة عندما تحلّ به مثل هذه النكبات والمصائب، ولا يعرف أين يقف، وما هو المخرج، وما هو حكم الإسلام. فإذا لم يكن لديه من العلم والحصانة والإيمان ما يثبت معه ويربط على قلبه ويشد أزره ويجلي عنه الغمّة ويبعد عنه الأوهام والوساوس فإن الريح سوف تعصف به، ويقع صريعًا لشياطين الإنس والجن.
ومما ورد في الترغيب في الرباط في سبيل الله ما رواه الإمام مسلم رحمه الله عن سلمان قال: سمعت رسول الله يقول: ((رباط يوم وليلة في سبيل الله خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات فيه جرى عليه عمله الذي كان يعمل، وأجري عليه رزقه، وأمِن من الفَتّان)) رواه مسلم واللفظ له والترمذي والنسائي والطبراني وزاد: ((وبُعِث يوم القيامة شهيدًا)). وعن فضالة بن عُبَيْد أن رسول الله قال: ((كل ميت يختم على عمله إلا المرابط في سبيل الله فإنه ينمّى له عمله إلى يوم القيامة، ويؤمن من فتنة القبر)) رواه أبو داود والترمذي والحاكم وابن حبان. وعن أبي هريرة عن النبي : ((تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخَمِيصة))، زاد في رواية: ((وعبد القَطِيفة، إن أُعطي رضي، وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش، طوبى لعبدٍ آخذٍ بعِنَان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه، مُغْبَرّة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، وإن استأذن لم يُؤذن له، وإن شَفع لم يُشفَّع)) رواه البخاري. وقال رسول الله : ((من خير معاش الناس لهم رجل يمسك بعِنان فرسه في سبيل الله يطير على متنه، كلما سمع هَيْعة ـ أو فزعة ـ طار على متنه يبتغي القتل أو الموت مظانّه، ورجل في غُنَيمة في شَعَفَة من هذه الشُّعُف وبطن وادٍ من هذه الأودية يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويعبد ربه حتى يأتيه اليقين، ليس من الناس إلا في خير)) رواه مسلم والنسائي. وعن أنس بن مالك قال: قال النبي : ((عينان لا تمسهما النار أبدًا: عين باتت تكلأ في سبيل الله، وعين بكت من خشية الله)) رواه أبو يعلى والطبراني في الأوسط إلا أنه قال: ((عينان لا تريان النار)).
وفي الترغيب في النفقة في سبيل الله وتجهيز الغزاة قال رسول الله : ((من أنفق نفقة في سبيل الله كُتبت له بسبعمائة ضعف)) رواه النسائي والترمذي وابن حبان والحاكم. وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: لما نزلت: مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:261] قال رسول الله : ((رَبِّ زد أمتي))، فنزلت: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10]. رواه ابن حبان في صحيحه والبيهقي. وعن زيد بن ثابت عن النبي قال: ((من جهّز غازيًا في سبيل الله فله مثل أجره، ومن خلَف غازيًا في أهله بخير أو أنفق على أهله فله مثل أجره)) رواه الطبراني في الأوسط، وقال رسول الله : ((من جهّز غازيًا فقد غزا، ومن خلف غازيًا في أهله بخير فقد غزا)) رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي.
وعن الترغيب في احتباس الخيل للجهاد في سبيل الله لا من أجل الرياء والسمعة قال رسول الله : ((من احتبس فرسًا في سبيل الله إيمانًا بالله وتصديقًا بوعده فإنّ شِبَعه ورِيَّه وروثه وبوله في ميزانه يوم القيامة)) يعني حسنات. رواه البخاري والنسائي وغيرهما. وعن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها أن رسول الله قال: ((الخيل في نواصيها الخير معقود أبدًا إلى يوم القيامة، فمن ارتبطها عُدَّةً في سبيل الله وأنفق عليها احتسابًا في سبيل الله فإنّ شِبَعها وجوعها ورِيَّها وظمأها وأرواثها وأبوالها فلاح في موازينه يوم القيامة، ومن ارتبطها رياء وسمعة ومرحًا وفرحًا فإن شبعها وجوعها وريّها وظمأها وأرواثها وأبوالها خسران في موازينه يوم القيامة)) رواه أحمد بإسناد حسن.
وعن ترغيب الغازي والمرابط في الإكثار من العمل الصالح روى البخاري ومسلم والترمذي والنسائي رحمهم الله تعالى من حديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله : ((ما من عبد يصوم يومًا في سبيل الله إلا باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفًا)) رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي. وقال عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الأنفال:45].
وجاء في الترغيب في الغدوة والروحة والمشي والغبار في سبيل الله عن أنس بن مالك أن رسول الله قال: ((لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها، ولقاب قوس أحدكم من الجنة أو موضع قيد ـ يعني سوطه ـ خير من الدنيا وما فيها، ولو أن امرأة من أهل الجنة اطّلعت على أهل الأرض لأضاءت ما بينهما ولملأته ريحًا، ولنَصِيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها)) رواه البخاري ومسلم وغيرهما. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((تضمّن الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا جهاد في سبيلي وإيمان بي وتصديق برسلي فهو ضامن أن أُدخله الجنة أو أرجعه إلى منزله الذي خرج منه نائلاً ما نال من أجر أو غنيمة، والذي نفس محمد بيده ما كَلْمٌ يُكلَم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة كهيئته يوم كُلِم: لونه لون دم، وريحه ريح مسك، والذي نفس محمد بيده لولا أن أشق على المسلمين ما قعدت خلاف سريّة تغزو في سبيل الله أبدًا، ولكن لا أجد سعة فأحملهم، ولا يجدون سعة، ويشق عليهم أن يتخلفوا عني، والذي نفس محمد بيده لوددت أن أغزو في سبيل الله فأُقتل، ثم أغزو فأُقتل، ثم أغزو فأُقتل)) رواه مسلم واللفظ له ومالك والبخاري والنسائي بألفاظ أخرى. وروى البخاري رحمه الله من حديث عبد الرحمن بن جبر قال: قال رسول الله : ((ما اغبرت قدما عبد في سبيل الله فتمسه النار))، وفي رواية للنسائي والترمذي: ((من اغبرت قدماه في سبيل الله فهما حرام على النار)).
ورغّب رسول الله في سؤال الشهادة في سبيل الله تعالى والرمي وتعلمه والترهيب لمن تركه بعد تعلمه رغبة عنه في أحاديث عدة، منها قوله : ((من سأل الله الشهادة بصدق بلّغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه)) رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه. وعن عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله يقول: ((وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [الأنفال:60]، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي)) رواه مسلم وغيره. وقال : ((إن الله يدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر الجنة: صانعه يحتسب في صنعته الخير، والرامي به، ومُنَبِّلَه، وارموا واركبوا، وأن ترموا أحب إليّ من أن تركبوا، ومن ترك الرمي بعدما علمه رغبة عنه فإنها نعمة تركها))، أو قال: ((كَفَرها)) رواه أبو داود واللفظ له والنسائي والحاكم. وقال : ((كل شيء ليس من ذكر الله عز وجل فهو لهو أو سهو إلا أربع خصال: مَشْي الرجل بين الغَرَضَين، وتأديبه فرسه، وملاعبته أهله، وتعليم السباحة)) رواه الطبراني في الكبير بإسناد جيد. والغَرَض: ما يقصده الرماة بالإصابة.
-------------------------
الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فعن أبي أمامة أنه سمع رسول الله يقول: ((من شاب شيبة في الإسلام كانت له نورًا يوم القيامة، ومن رمى بسهم في سبيل الله أخطأ أو أصاب كان له بمثل رقبة من ولد إسماعيل)) رواه الطبراني بإسنادين أحدهما رواته ثقات. وروى البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى من حديث أبي هريرة قال: قيل: يا رسول الله، ما يعدل الجهاد في سبيل الله؟ قال: ((لا تستطيعونه))، فأعادوا عليه مرتين أو ثلاثًا، كل ذلك يقول: ((لا تستطيعونه))، ثم قال: ((مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله لا يفتر من صلاة ولا صيام حتى يرجع المجاهد في سبيل الله)). وعن عبادة بن الصامت قال: بينما أنا عند رسول الله إذ جاءه رجل فقال: يا رسول الله، أي الأعمال أفضل؟ قال: ((إيمان بالله، وجهاد في سبيله، وحج مبرور))، فلما ولّى الرجل قال: ((وأهون عليك من ذلك: إطعام الطعام، ولين الكلام، وحسن الخلق))، فلما ولى الرجل قال: ((وأهون عليك من ذلك: لا تتّهِم الله على شيء قضاه عليك)) رواه أحمد والطبراني. وقال عليه الصلاة والسلام: ((ثلاثة حق على الله عونهم: المجاهد في سبيل الله، والمكاتب الذي يريد الأداء، والناكح الذي يريد العفاف)) رواه الترمذي وابن حبان والحاكم. وعن أبي موسى أن أعرابيًّا أتى النبي فقال: يا رسول الله، الرجل يقاتل للمَغْنَم، والرجل يقاتل ليُذكر، والرجل يقاتل ليُرى مكانه، فمن في سبيل الله؟ فقال النبي : ((من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله)) رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه قال: يا رسول الله، أخبرني عن الجهاد والغزو، فقال: ((يا عبد الله بن عمرو، إن قاتلت صابرًا محتسبًا بعثك الله صابرًا محتسبًا، وإن قاتلت مرائيًا مكاثرًا بعثك الله مرائيًا مكاثرًا، يا عبد الله بن عمرو، على أي حال قاتلت أو قُتِلت بعثك الله على تلك الحال)) رواه أبو داود. وعن أبي أمامة قال: جاء رجل إلى رسول الله فقال: أرأيت رجلاً غزا يلتمس الأجر والذكر، ما له؟ فقال رسول الله : ((لا شيء له))، فأعادها ثلاث مرات يقول رسول الله : ((لا شيء له))، ثم قال: ((إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصًا وابتُغِيَ به وجهه)) رواه أبو داود والنسائي. وقال عليه الصلاة والسلام في حديث طويل: ((إن أول الناس يُقضَى عليه يوم القيامة رجل استُشهِد، فأُتي به، فعرفه نعمته فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال: كذبت، ولكن قاتلت لأن يقال: هو جريء، فقد قيل، ثم أُمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار)) الحديث، رواه مسلم واللفظ له والنسائي والترمذي وابن خزيمة.
أيها المسلمون، لقد تبين للجميع حكم الجهاد والإنفاق في سبيل الله، وموقف المسلم من الأحداث الحالية، وذلك من خلال معرفة معتقدات أولئك القوم وموقفهم من الإسلام والمسلمين، وما فعلوا من جرائم وسفك للدماء وهتك للأعراض ونهب للأموال، وسبّ للإسلام وأهله، وتكفيرهم لأهل السنة في هذه البلاد، وادعائهم بأنهم هم المسلمون مع أنهم بعيدون كل البعد عن تعاليم الإسلام السمحة الواضحة. وسبب ادعائهم وزعمهم بأنهم المسلمون من أجل التغطية والتمويه والتستر تحت شعار الإسلام ليغترّ بهم المسلمون في جميع بقاع الأرض، ويتعاطفوا معهم حتى يحققوا ما يريدون.
لذلك فإن على المسلمين أن يكونوا على بصيرة من أمرهم في كل يوم تشرق شمسه وزيادة يقين تظهر من أخبارهم إما بسماع ما يخبر بالحقيقة عنهم أو بالقراءة أو برؤية الأشرطة التي تفضح جرائمهم، ومعلوم أن منهم الشيوعي واليهودي والنصراني والعلماني والبعثي والشيعي الرافضي والقومي العربي وغير ذلك ممن يحمل الأفكار الهدامة المعادية لدين الإسلام. فعلى كل مسلم أن يعتقد بأن الحرب مع أعداء الله ورسوله هي حرب بين الإسلام والكفر بين الإسلام والإلحاد بين الإسلام وجميع المذاهب المنحرفة عن منهج الله بين أهل السنة والزنادقة بين المتمسكين بكتاب الله وسنة رسوله وبين المنحرفين عن الكتاب والسنة بين المسلمين وبين أعداء الله ورسوله ودين الإسلام والمسلمين.
لذلك يجب أن يكون الجهاد لإعلاء كلمة الله، وحتى يكون الدين كله لله. فإذا دعا داعي الجهاد فعلى المسلم أن يعرف لماذا يقاتل ويحارب ويدافع؟ ولماذا ينفق المال قليلاً كان أو كثيرًا؟ لكي يقبل الله منه، ولا يقبل الله من العمل إلا ما كان خالصًا له سبحانه وصوابًا على سنة رسوله محمد .
(1/4843)
________________________________________