أما بعد: فقد قال الله تعالى: قل أتعلمون الله بدينكم والله يعلم ما في السموات وما في الأرض والله بكل شيء عليم يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا عليّ إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين إن الله يعلم غيب السموات والأرض والله بصير بما تعملون [الحجرات:16-18].
إن نعمة الإيمان والهداية إلى الإسلام أعظم نعم الله علينا نحن معاشر المؤمنين وعلينا أن نعرف قدر هذه النعمة ونؤدي حق شكرها علينا، فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، لقد جاءت رسل ربنا بالحق، لقد امتن الله تعالى على عباده المؤمنين بهدايتهم إلى الإيمان فقال جل من قائل: بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين.
وامتن الله تعالى على صفوة خلقه وخاتم أنبيائه ورسله سيدنا محمد امتن عليه أيضًا بالهداية إلى الإيمان وامتن عليه بأن جعله أعظم سبب للهداية إلى الإيمان، فقال جل من قائل مخاطبًا نبيه ومصطفاه: ما كنت تدرى ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورًا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم [الشورى:52]، أي: وإنك ـ يا محمد ـ لتهدي إلى صراط مستقيم هداية إرشاد وبيان، وأما هداية الإعانة والتوفيق فهي بيده سبحانه وتعالى.
وقال أيضًا لنبيه ومصطفاه: ألم يجدك يتيمًا فآوى ووجدك ضالاً فهدى ووجدك عائلاً فأغنى [الضحى:6-8]، فامتن الله تعالى على نبيه ومصطفاه بالهداية إلى الإيمان وله المنة سبحانه على كل ذلك.
فالهداية إلى الإيمان مصدرها رب العالمين، هو الذي يوفق ويهدي من يشاء، بيّن صراطه المستقيم وفسر معاني دينه القويم وهدي من شاء من عباده إلى اتباع صراطه المستقيم، والتمسك بدينه القويم فمصدر الهداية هو رب العالمين سبحانه وتعالى؛ ولذلك شرع لنا أن نطلب منه ذلك كل يوم: إياك نعبد وإياك نستعين [الفاتحة:5]، نستعين بك على الهداية والعبادة، الهداية إلى أي شيء؟ اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين [الفاتحة:5-7], ولن تعرف قدر هذه النعمة عليك ـ أيها المسلم ـ نعمة الإيمان حتى تتأمل حال المحرومين منها، كيف يعيشون في ضلال فكري وخواء نفسي وانحراف في التصورات وما يترتب على ذلك من اضطراب في الحياة ومن ضنك وشقاء وكبد في هذه الحياة، فإنهم يعيشون في شقاء داخلي شقاء في داخل النفس وكبد وتعب ونصب في داخل النفس والروح، فماذا يفيدهم حينئذ تنعم الجسد؟! إنهم محرومون يعيشون في شقاء وفي نصب وفي كبد.
لن تعرف قدر نعمة الله عليك نعمة الإيمان حتى تتأمل حال هؤلاء، ومن عجائب القرآن أنه في سياق الأمر بطلب الهداية من رب العالمين إلى صراطه المستقيم حذر من أهل السبل الأخرى وخص منهم بالذكر اليهود والنصارى، اليهود الذين سماهم القرآن المغضوب عليهم، والنصارى الذين سماهم القرآن الضالين، فحذر من أهل السبل الأخرى وخص منهم اليهود والنصارى، وما ذاك إلا لأن اليهود والنصارى هم أبرز من خالف صراط الله المستقيم، اليهود سماهم الله المغضوب عليهم انحرفوا عن عبادة الله الواحد الأحد عن علم وبصيرة وهذا شأنهم دائمًا يحرفون الكلم عن مواضعه ويزيفون العقائد ويقتلون الأنبياء وأتباع الأنبياء وينشرون الفساد في الأرض ويشعلون الحروب والفتن، كلما أوقدوا نارًا للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فسادًا والله لا يحب المفسدين [المائدة:64]. ولذلك استحقوا الغضب الإلهي وسموا في القرآن المغضوب عليهم.
والنصارى أيضًا ضلوا عن عبادة الله الواحد الأحد وانصرفوا عنه إلى عبادة ثلاثة أقانيم وما من إله إلا إله واحد، فضلوا عن عبادة الله الواحد الأحد سبحانه وتعالى، وماذا يفيد العبد تطور الحياة الدنيا كلها إذا هو لم يعرف ربه وخالقه ولم يهتد إلى عبادته؟!
من تأمل حال اليهود والنصارى فإنه يدرك قدر نعمة الله عليه نعمة الإيمان، ولا أعني حال اليهود والنصارى من جهة التطور المدني ووسائل الحياة فقد بلغوا في ذلك شأنًا كبيرًا لكن كل ما بلغوه من تطور في وسائل الحياة الدنيا فإنه إنما يخدم الجسد وليس الروح وإنما يتعلق بظاهر الحياة الدنيا، أما الحقائق حقائق الحياة الدنيا فلا يعلمون عنها شيئًا ولذلك هم في تطورهم وفي علومهم التي بلغوها التي هي مبلغ علمهم كما وصف ربنا وخالقنا حين قال سبحانه: أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلاً [الفرقان:44]. كل تطورهم هذا الكبير الهائل المذهل لخدمة الجسد، فأين ذهب نصيب النفس والروح؟! أين ذهب نصيب القلب؟! هل علموا من حقائق الدنيا شيئًا؟! إنهم لا يسمعون ولا يعقلون، نعم بعض ضعفاء الإيمان قد يظنون أنهم يسمعون ويعقلون، أنهم يفكرون، أنهم يعلمون، يقول هؤلاء ضعفاء الإيمان: ما بلغ أولئك ما بلغوا من تطور كبير في الحياة الدنيا إلا بعد أن طوروا علومهم وتفكيرهم، ولكن أي علوم؟ وأي تفكير؟ يجيب ربنا عز وجل بقوله: يعلمون ظاهرًا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون [الروم:7]. يا لدقة عبارات القرآن الكريم ودقة مصطلحاته ومدلولاتها! ظاهرًا من الحياة الدنيا، إذا تأملت بعين البصيرة كل تلك الإنجازات الهائلة الضخمة الكبيرة التي بلغها الغرب من علوم وفكر وصناعات ووسائل مدنية تجدها كلها تدور حول قشرة الحياة التي سماها القرآن ظاهرًا من الحياة الدنيا، أما اللب فلم يصلوا إليه، أعماق النفس لا يعرفون عنها شيئًا، علوم القلب هم من أجهل الناس بها، علوم العقائد والأديان هم أضل الناس عنها، بل النفس محرومة عندهم والقلب خراب والعقائد يباب على رغم كل ذلك التطور الكبير في وسائل الحياة المدنية، أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلاً.
فاعرفوا ـ يا معاشر المسلمين ـ قدر هذه النعمة التي تتفيؤون ظلالها وتحظون بها بينما حُرم منها أكثر الخلق على وجه البسيطة، وأدوا حق شكر هذه النعمة لرب العالمين الذي هداكم للإيمان.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
-------------------------
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: فقد قال سيدنا رسول الله : ((ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود إلى الكفر كما يكره أن يقذف في النار)) متفق عليه(1)[1].
وصدق رسول الله ؛ إن العبد إذا صح إيمانه فإن حب الله ورسوله يتملك قلبه وجوارحه كلها وتنشأ من ذلك ظاهرتان من ظواهر الإيمان:
الظاهرة الأولى: أن يحب في الله فإن كل محبوبات المحبوب محبوبة للمحب، من أحب الله أحب كل ما يحبه الله وأحب كل من يحبه الله، وأحب الخلق إلى الله نبيه ومصطفاه سيدنا محمد ؛ ولذلك فإن كل من أحب الله أحب نبيه ومصطفاه محمد وأحب كل من يحبهما، إنما يحبه لأنه يحب الله ورسوله، هذا هو معنى الحب في الله.
والظاهرة الإيمانية الأخرى: كره الكفر وأهله فإن العبد إذا صح إيمانه بالله ورسوله تجده يمقت الكفر ويمقت أهل الكفر، فإن الإيمان يرفعه إلى مرتبة أعلى وأسمى فيشعر المؤمن الصحيح الإيمان بعلو إيمانه على الكفر وبعلوه هو بإيمانه على أهل الكفر، والمؤمن إذا بلغ هذا القدر من قوة الإيمان ووضوح التصورات فإنه يجد للإيمان لذة وحلاوة كما أخبر بذلك النبي المصطفى ، أما إذا لم يكن بهذه المثابة فإنه يفقد تلك اللذة وتلك الحلاوة لإيمانه بل قد لا يجد طعمًا لإيمانه بل قد يتردى فريسة للارتياب وحينئذ ففي إيمانه نظر, فإن الله يقول إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا [الحجرات:15].
فالارتياب يقضي على الإيمان إما دفعة واحدة وإما رويدًا رويدًا حسب درجة ذلك الارتياب، ومن أسوء مظاهر هذا الارتياب في عصرنا الانبهار بالكفر وأهله خاصة وأننا نعيش في زمان لهم القوة والسلطة فيه والتطور الصناعي والمدني لهم، ولذلك فقد ينبهر بهم ضعفاء الإيمان وقد يكون من هؤلاء المنبهرين من يلبس ثوب الفكر وثوب الأدب وربما ثوب الدعوة والإصلاح زورًا ودجلاً وكذبًا وبهتانًا، منبهرون بالكفر وأهله لما يرون من تطور هائل كبير لكنه حقير في حقيقته لأنه لم يتعد قشرة الحياة الدنيا ولم يتعد الجسد إلى الروح، ومن أمثلة هذا الانبهار هؤلاء المنبهرون بالكفر وأهله تجدهم يبذلون المحاولات اليائسة البائسة المستميتة لتلفيق إسلام عصري إفرنجي يمكن أن يلتقي بأحكامه ومبادئه بتصورات أهل الكفر والغرب، ونضرب مثلاً لذلك: قبل فترة قريبة من الزمن نشر كاتب في جريدة الشرق الأوسط بحثًا عن حكم الردة، فأنكر ذلك الكاتب المرتاب أن يكون إسلامنا قد أمر بقتل المرتد بينما سيدنا رسول الله يأمرنا بقوله: ((من بدل دينه فاقتلوه)) رواه البخاري وأصحاب السنن(2)[2], والعلماء المحققون يقولون: "ما اتفق على روايته الشيخان البخاري ومسلم فمقطوع بصحته ونجزم بأن رسول الله قاله، وما انفرد به أحدهما إذا شاركه في روايته غيره من أصحاب السنن والمسانيد المشهورة المعتبرة لدى العلماء فكذلك مقطوع بصحته ونجزم بأن سيدنا المصطفي تلفظ به". فهذا الحديث كذلك نجزم بأن سيدنا رسول الله قد قال: ((من بدل دينه فاقتلوه))، ولكن ذلك المرتاب وجد المجتمع الغربي يعيش في فوضى دينية قد يسميها هو ويسمونها هم حرية دينية، فاستنكر أن يكون في إسلامنا ما يخالف تلك الفوضى الدينية، ولم يفرق هذا المرتاب الخبيث بين حالنا وحالهم ومجتمعنا ومجتمعهم، المجتمع الغربي إذا أخذ بالحرية الدينية والفوضى الدينية فإننا نتفهم أسباب ذلك لأنه لم يجد من الدين إلا مجموعة من الخرافات والخزعبلات الكنسية التي قدمتها لها الكنيسة النصرانية على أنها دين الله وهي خرافات وخزعبلات من اختراع القسس والرهبان، فلم يقتنعوا بتلك الخرافات في قرارة نفوسهم وفي قلوبهم، فكانت ردة الفعل لدى المجتمع الغربي الأخذ بالحرية الدينية، فوقعوا في فوضى دينية وعقائدية وفكرية لا نظير لها لأنهم لم يجدوا البديل الصحيح لتلك الخرافات والخزعبلات الكنسية. أما نحن وقد أنعم الله علينا بالهداية إلى الدين الحق بالهداية إلى الإسلام الذي نزل علينا بحقائق الأشياء بالعقيدة الحقة الصحيحة القوية الواضحة البرهان وبهذه الشريعة المتماسكة، فكيف نسوي بين حالنا وحالهم؟! هذا المرتاب المسكين يريد أن يعيد للكفر وأهله اعتبارهم ومكانتهم فيسوي بين أهل الحق وأهل الباطل، وربما أراد هدفًا أبعد من ذلك، يريد أن تفتح الأبواب على مصاريعها للعلمانيين والبعثيين وأمثالهم من الزنادقة والملحدين حتى يؤدوا وظيفتهم ويفعلوا فعلهم في مجتمعات المسلمين من تخريبها وتدميرها من الداخل، من تخريب العقائد وتدمير الإيمان ونقائه وصفائه في نفوس المؤمنين، من التشويش على عقائد المسلمين بحرية تامة، ربما كان هذا الذي يرمي إليه هذا المرتاب وأمثاله من المندسين بين صفوفنا من الذين فتحنا لهم صدورنا فاستحققنا بذلك عقوبة الله عز وجل لأننا عصيناه حينما أمرنا أن لا نتخذ أمثال هؤلاء بطانة من دوننا نأتمنهم على مجتمعاتنا وعلى مصالحنا.
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هديه وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
وعليكم ـ أيها المسلمون ـ بالجماعة فإن يد الله علي الجماعة ومن شذ شذ في النار، واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.
يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك ملاقيه، وكن كما شئت فكما تدين تدان.
ثم صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال عز من قائل: إن الله وملائكته يصلون علي النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما [الأحزاب:56].، وقال ((من صلى علي واحدة صلى الله بها عليه عشرا))(3)[3].
اللهم صل وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وارضَ اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر الصديق وعمر الفاروق و ذي النورين عثمان وأبي السبطين علي وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، وأهلك الزنادقة والكافرين...
__________
(1) صحيح البخاري (16)، صحيح مسلم (43).
(2) صحيح البخاري (6922)، سنن أبي داود (4351)، سنن الترمذي (1458) وقال: "صحيح حسن"، سنن النسائي (4059)، سنن ابن ماجه (2535) كلهم عن ابن عباس رضي الله عنهما.
(3) صحيح مسلم (408) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(1/4817)