الخطبة الأولى
أما بعد: فإن أعمال المسلم وأقواله ومعتقده الصحيح من العبادة الحقّة المأمور بها في القرآن الكريم وفي حديث رسول الله ، ومن العبادة الإصلاح بمعناه الواسع الذي له سُبُل وطرق كثيرة، وليس محصورًا فيما تعارف عليه الناس بأنه الإصلاح بين متخاصمَيْن أو متخاصِمِين قلّوا أو كثروا، فالإصلاح له سبل كثيرة، ومطلوب من كل مسلم ومسلمة المساهمة بما يستطيعون من ذلك، فالدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإماطة الأذى عن الطريق والكلمة الطيبة والعمل الصالح أيًا كان نوعه فيما يعود بالنفع على أفراد المجتمع أو الحيوانات أو الطيور أو غيرها وتعليم العلم النافع والإصلاح بين الناس كل ذلك وغيره من الأعمال التي يتقرب بها العبد إلى الله، وينال عليها الأجر من المولى عز وجل إذا صاحبها الإخلاص والصواب، وهي من الإصلاح حقيقة، ومن عمل المصلحين المخلصين الذين يهمهم شأن أمتهم ومجتمعهم ومن يعيشون معهم على هذه الأرض، سواء كانوا في عصرهم أو يأتون ويلحقون بهم فيما بعد، ذلك شأن المصلحين الساعين بالخير الذين يسعد بهم مجتمعهم مع سعادتهم هم أنفسهم بإذن الله عز وجل.
إن الهلاك لا ينزل بقوم فيهم المصلحون، والمصلحون غير الصالحين، فشتّان بين الصالح في نفسه الذي لا يتعدّى نفعه إلى غيره، وبين المصلح الذي هو صالح في نفسه ساعٍ للإصلاح في المجتمع، فهو مصلح كما ذكر الله عز وجل عن المجرمين المفسدين في الأرض وعن المصلحين أيضًا، وبأن الله لا يهلك قرية كان أهلها مصلحين، قال تعالى: فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ [هود:116، 117]، فلنتنبّه لقول الله تعالى: مُصْلِحُونَ، ولم يقل: وأهلها صالحون، فالمصلح أعم وأشمل وأنفع من الصالح في نفسه؛ لأن المصلح يسعى ويعمل جاهدًا لإصلاح الناس وصلاحهم حتى تستقيم الأمور كما أمر الله عز وجل بأن يدعو إلى الله عز وجل، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويهمه أمر المسلمين بعامة.
وذكر الله عز وجل من أوصاف المنافقين وأهل الزيغ والفساد بأنهم مفسدون في الأرض مع ادعائهم الإصلاح وهم على النقيض من ذلك، قال تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ [البقرة:11، 12]، وقال عز شأنه: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ [البقرة:204-206].
وعلى العكس من هذا الصنف ذكر الله عز وجل بعد هذه الآيات المتعددة عن هذا النوع بعدها مباشرة ذكر في آية واحدة المصلحين الذين يبيعون أنفسهم يبتغون ما عند الله عز وجل، قال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ [البقرة:207]. فمن الناس من يكون مفتاحًا للخير مغلاقًا للشر، ومنهم من يكون مفتاحًا للشر مغلاقًا للخير، وشتّان بين الفريقين، وسيجازي الله كلاًّ بعمله، ويوفّيه حسابه، وهو يعلم سبحانه المفسدين من المصلحين، قال تعالى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ [البقرة:220]، والذي يتمسك بالكتاب والسنة ويؤدي ما أوجب الله عليه ويقوم به قولاً وعملاً واعتقادًا يُسمّى مصلحًا، ولن يضيع أجره عند الله، وسوف يجزيه الله أحسن الجزاء، قال تعالى: وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ [الأعراف:170].
وموضوع الخطبة جزء من الإصلاح بمفهومه الشامل لمعنى الإصلاح الذي سبق الإيجاز عنه، فالموضوع هو الإصلاح بين الناس عمومًا، وأخص المسلمين المتعادين المتقاطعين سواء كانوا أفرادًا أو أسرًا أو جماعات أو قبائل أو دولاً وحكومات صغرت أم كبرت، وذلك هو المأمور به في الكتاب والسنة في آيات وأحاديث كثيرة، قال تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ [الأنفال:1]، وقال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الحجرات:10].
وفي الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى من رواية أبي هريرة أن رسول الله قال: ((كل سُلامَى من الناس عليه صدقة، كل يوم تطلع فيه الشمس تعدل بين الاثنين صدقة، وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها أو ترفع له عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وبكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة، ودَلُّ الطريق صدقة، وتميط الأذى عن الطريق صدقة)). فالشاهد من الحديث قوله : ((تعدل بين الاثنين صدقة))، حينما قال بأن على كل مفصل في الجسم صدقة في كل يوم تطلع فيه الشمس، وذلك شكرًا لله عز وجل على نعمه التي لا تعدّ ولا تحصى، فجعل الله طرق الخير متعددة وكثيرة من أجل كسب الحسنات بالأعمال الصالحة التي تُنال بها الدرجات الرفيعة. فتلك من الأشياء التي ذكرها الرسول من الصدقات التي يُزكّي بها الإنسان عن مفاصله وعظامه وجسمه كله، ويحمد بها ربّه لأداء كل عضو من أعضائه وظيفته، ذلك هو الإصلاح بين الاثنين والحكم بالعدل لا بالجور والظلم، وكان البدء به في أول الصدقات والحسنات وعمل الخيرات لأهميته.
عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله : ((ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟)) قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ((إصلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هو الحالقة))، وفي رواية: ((إن فساد ذات البين هي الحالقة، لا أقول: تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين)). نعم، إنها تحلق الدين وتذهب به؛ لأن العناد والخصومة قد تؤدي إلى الكفر، وهذا أمر مشاهد وواقع في مجتمعات المسلمين عندما يذهب لبّ الخصم ولا يردعه إيمانه فهو يُجانب الحق والعدل والإنصاف، ولا يقول كلمة الحق في الغضب والرضا، بل يتكلم في خصمه بما يسوغ له من إلحاق التّهم به والكذب والبهتان وقول الزور والفحش والبذاءة وسلاطة اللسان ونشر قالة السوء بين الناس كذبًا وزورًا، وتحريض العامة والتحرش بالمسلم لتدعيم باطله، ليخرج ذلك الباطل أمام الناس لابسًا ثوب الحق.
ومِن جهل أو تجاهل الظالم لنفسه وغيره استطالته في عرض أخيه المسلم، وتدبير المكائد، ونصب شباك الباطل في الخفاء، وما يبيّته ويضمره هو وأهل الباطل الذين يدفعونه إلى الشر دفعًا ليكون هو المنتصر، وليظهر أمام الناس بأنه صاحب الحق، ولو أدى ذلك إلى ارتكاب ما حرم الله، كل ذلك جعله يقدم على هذه الأفعال المشينة لما غاب عنه الخوف من الله ومن أليم عقابه، وما علم أنه وأعوانه الخاسرون في الدنيا والآخرة، وأن الله لهم بالمرصاد، هذا شأن من يبيّت سوءًا، ويضمر عداوة، ويحمل بين جنبيه قلبًا أسود مِرْبادًا لاختلال إيمانه وضعف عقيدته وقلة حظه من الفقه في دينه، وهذه العلاقة والصفة عدها رسول الله من علامات النفاق حين عدّد صفات المنافق وقال: ((وإذا خاصم فجر))، مع أنه ارتكب كل صفات النفاق التي عدها رسول الله في الحديث وهي: ((إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان، وإذا خاصم فجر)).
أما المؤمن الحق فهو على العكس من ذلك؛ لا يحمل الغل والحقد والبغضاء لسلامة صدره من ذلك، قلبه أبيض ناصع، لا يبيت وفي قلبه على مسلم شيء مما يجده الأعداء محترقًا متغلغلاً في سويداء قلوبهم، لا يطيش به عقله، ولا يخرج عن العدل وقول الحق قدر أنملة، منصف فيما يقول ويدلي به، سواء كان الخصم غائبًا أو حاضرًا، يخشى الله في سره وعلنه، لا يهمه أمر البشر؛ لأن إيمانه وخوفه من الله يردعه عن الوقوع فيما حرم الله، فهو ينتصب للدفاع عن نفسه ودفع الظلم عنه بالكلمة الصادقة والقول الحق العدل السديد.
وقد يرتكب ذلك الطرفان، بحيث يصف كل منهم الطرف الآخر، وذلك هو واقع كثير من المسلمين اليوم عندما ابتعدوا عن الكتاب والسنة وتحكيمهما في حياتهم في كل صغيرة وكبيرة، فلعدم الإنصاف بين المتخاصمين وظلمهم لبعضهم ولعدم تدخل المصلحين بينهم امتلأت المحاكم والإدارات ذات العلاقة بالخصومات والدعاوى الكيدية، وفشا الظلم وانتشر، وساعدهم على ذلك المماطلة وعدم معرفة الحق ودراسته ومعرفة الحق من الباطل، أو الوقوف بجانب الباطل من قبل ضعاف النفوس، وتدخل جهات للفصل في الخصومات ليس لها علاقة شرعية، حيث تعددت الاختصاصات وتباينت، والمعروف في الإسلام والواجب الذي يجب أن يكون التحاكم إليه هو الكتاب والسنة.
ولنتدبر هذه الآية الكريمة التي تُنال بها الدرجات الرفيعة بالحصول على الأجر العظيم الذي وعد الله به في نهاية الآية، ولنتأمل فيها وفي غيرها، ونعمل بالإصلاح بين الناس متى بلغتنا الخصومة والاختلاف، ومن لم يكن كذلك فالواجب عليه أن لا يوسّع الخرق على الراقع، ولا يسعى بالوشاية والإفساد بين الناس، بل يقول خيرًا أو يصمت، ويكفي الناس شره وإفساده، وهذا أقل الواجب في حقه في هذه الحالات، مع أن بعض المفسدين يسعون بالوشاية والوقيعة بين الناس والتحريش بينهم، ولا يستريحون ولا يهدأ لهم بال إلا على هذا الحال وأمثاله، فهم مثل الطُّفَيْلِيّات والميكروبات والجراثيم والصراصير التي لا تعيش ولا تتكاثر إلا في محلات وأماكن العفن والقذارة والأوساخ والفساد، فكيف حالهم إذا وقعت الخصومة؟ إنها حال مخزية يندى لها جبين كل مسلم غيور على دينه وأمته من الاشتغال بالفتن والإِحَنِ بعضهم مع بعض، قال تعالى: لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:114]، أي: لا خير في كثير مما يُسرّه القوم ويتناجون به في الخفاء إلا إذا تناجوا في صدقة يعطونها سرًا، أو أمرٍ بطاعة الله عمومًا، أو إصلاح بين المتخاصمين في الدماء والأموال والأعراض وكل ما يقع فيه التداعي بين الناس، وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:114]، أي: من فعل هذه الخصال الطيبة بعدما أمر بها الناس فجمع بين الأمر بالخير وفعله مخلصًا لله في ذلك فله الأجر العظيم عند الله تعالى، وفي هذه الآية ترغيب عظيم في الإصلاح بين الناس.
وكذلك في حديث رسول الله المتفق عليه حين ذم الكذب والكذابين، وعدّ ذلك من صفات المنافقين، ولكنه رخّص فيه إذا كان لا يمكن التوصل إلى الإصلاح بين المتخاصمين إلا عن طريقه أو أنه سوف تفسد العلاقة الزوجية إذا لم يكن إلا الكذب وسيلة لذلك والذي ينمي به الخير بين المتخاصمين، قال رسول الله : ((ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيرًا أو يقول خيرًا)) متفق عليه، وينمي خيرًا أي: يبلّغ وينقل خبرًا فيه خير وإصلاح بين الناس.
ومن أنواع الإصلاح الإصلاح بين الزوجين المختلفين؛ لأن الإصلاح بين الزوجين تبنى عليه البيوت، وتترابط به الأسر التي هي أسس المجتمعات البشرية، وفساد ما بين الزوجين يترتب عليه فساد البيوت وتفكك الأسر وتشتتها، قال تعالى: وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ [النساء:128]، وقال تعالى: وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء:129]، ففي أي خصومة بين الزوجين ينبغي أن لا تخرج المرأة من بيت زوجها لئلا يدخل شياطين الإنس والجن ويفسدون العلاقة بين الزوجين بإلقاء العداوة بينهما بما يزينونه من الباطل من القول لكل منهما لكي يفرقوا بينهما، والإفساد بين الزوجين أو المتخاصمين هو شأن شياطين الإنس والجن في كل زمان ومكان، وذلك بالإيحاء بزخرف القول غرورًا.
ولا يجوز للمرأة أن تخرج من بيت الزوجية، ولا أن يُخرجها زوجها عندما يطلقها الطلقة الأولى أو الثانية؛ لئلا تتسع الشُّقّة والخلاف بينهما، ولئلا يجد المغرضون والمفسدون مدخلاً لإفساد العلاقة الزوجية بينهما، ولعل الله يحدث بعد ذلك أمرًا يحبانه ويرتاحان له بدخولهما وخروجهما ولقائهما ببعض خلال العدة، فيرجع إليها ويراجعها، هذا إذا كان في الطلاق فما بالنا في غيره من الأمور الأخرى التي لا يخلو منها بيت من البيوت؟! وهذا أمر يغفل عنه كثير من المسلمين، فيقع الشقاق والخلافات والخصومات، وهذا ما يسعى إليه الشيطان وجنوده كل ليلة وهو على عرشه في البحر، حيث ينتشرون للفتنة بين الناس، ويكون أقربهم وأحبهم إليه من سعى بالتحريش بين المرء وزوجه حتى يقع الطلاق والفراق بين الزوجين، والشيطان أيس أن يعبده المسلمون في جزيرة العرب التي تبقى على التوحيد بإذن الله إلى قيام الساعة، ولكنه رضي بالتحريش فيما بينهم وبما يحقرون من الأمور المنكرة، قال رسول الله : ((إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم)) أورده في الصحيحة (1608)، وفي رواية أخرى صحيحة: ((إن الشيطان قد أيس أن يُعبد بأرضكم هذه، ولكن رضي بما تحقرون)) أورده في الصحيحة (472).
-------------------------
الخطبة الثانية
الحمد لله يؤتي المصلحين أجرًا عظيمًا نعمة منه وفضلاً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله.
أما بعد: فمن أنواع الإصلاح بين الناس الإصلاح بين الطوائف المقتتلة من المسلمين صغرت أم كبرت في داخل الدولة الواحدة أو على مستوى الدول، واجب المسلمين السعي للإصلاح بين المتقاتلين من أجل القضاء على أسباب الفتنة بالعدل الذي يعطي كل ذي حق حقه؛ لكي يستتبّ الأمن، وتُحقن الدماء، ويؤخذ على يد المعتدي، ويكف عن الظلم والتعدي على غيره فيما بعد، ويتم إنصاف المُعْتَدَى عليه، ولئلا تضعف شوكة المسلمين أمام أعدائهم، وعندها يتربصون بهم الدوائر.
قال تعالى: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الحجرات:9، 10]، ووردت أحاديث عدة حول الأخذ على يد الظالم ونصرة المظلوم والإصلاح بين المتخاصمين، ومنها قوله في آخر الحديث المعروف: ((ولتأخُذُنّ على يد الظالم، ولتأطُرُنّه على الحق أَطْرًا، ولتقْصُرُنّه على الحق قَصْرًا، أو ليضْرِبَنّ الله بقلوب بعضكم على بعض، ثم ليلعننّكم كما لعنهم)) رواه أبو داود والترمذي.
إن مجتمعات المسلمين اليوم بحاجة ماسة إلى رجال مصلحين في شتى المجالات، وللإصلاح في الخصومات خاصة يحتسبون أجرهم على الله، رغم أنهم مأمورون بذلك في القرآن الكريم والسنة المطهرة حين تبلغهم الخصومات والمنازعات والمشاجرات والخلافات التي ملئت بها المحاكم الداخلية والدولية، سواءٌ كانت تلك المحاكم شرعية أو غير شرعية، يدخلون في ذلك لاحتوائها منذ البداية والقضاء عليها، وليعيش أفراد المجتمع الواحد أو المجتمعات المتعددة في حالة من السعادة والطمأنينة التي يُغبطون عليها بين الأمم. وكان هذا فعل السلف الصالح إلى عهد قريب ونحن جميعًا نعرفه، وبوادر العودة إلى ذلك وتبنّي فكرة الإصلاح وإنشاء اللجان الخاصة بذلك بدأت ولله الحمد والمنة، عسى أن تعمّ وتنتشر في مجتمعات المسلمين، ويجني ثمارها القريب والبعيد بإذن الله تعالى.
ومع سرورنا بوجود لجان الإصلاح ولكن واقعها إلى الآن في بعض المدن والمحافظات لا يتعدى المظاهر وحب البروز والظهور في الصحف ووسائل الإعلام، ولذلك كانت الدعاية للمظهر أكثر من المخبر، ففي صحيفة ظَهَرَ اسم ذلك المسؤول عن مكتب إصلاح ذات البين في مدينة من المدن بأنه أحد الأعضاء في تلك اللجنة، ثم جاء الاعتذار له بعد أيام بأنه هو الرئيس، علمًا بأنه يعلم عن مشاكل في حيّه الذي يسكن فيه ولا يحرّك ساكنًا، ولا يعرف أصلاً طرق الإصلاح ووسائله؛ لأن اختياره لم يكن مبنيًا على الشرع المطهر، بل على العلاقات الشخصية لإظهار المسؤولين في الصحافة المحلية، لأنه مسؤول عن مكتب لصحيفة معينة، وإذا كان هذا يُعذر لعدم علمه وفقهه فإن الأسوأ منه ذلك الذي يلقي محاضرة يجتمع لها الناس بعنوان: "الإصلاح وأثره في المجتمع"، ثم يبلغه خلاف ومشاكل بين متخاصمين من جيرانه ولا يأبه بذلك ولا يكترث بما حصل، مع علمه بوصولها للجهات المختصة وإشغال الإدارات ذات العلاقة بالدعاوى والشكاوى الكيدية، فذلك ينطبق عليه قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ [الصف:2، 3].
وهناك صنف آخر يظهر على أحدهم الصلاح، ويظن المسلم بأنه يحب الإصلاح، ولكنه يبقى في دائرة الصالحين وليس المصلحين بشموليتها، فعندما يعرض عليهم شخصٌ الإصلاح بين متخاصمين لا يزيد أحدهم على قوله: الله يصلح الشأن، الله يهديهم، ليش ما يصطلحون؟ باللهجة العامية، أي: لماذا لا يصطلحون؟ باللغة العربية، مع علمه بأنهم لو كانوا سيصطلحون من عند أنفسهم لما وصلت مشكلتهم إلى ذلك الحد الذي ربما أشغل الإدارات الحكومية، وقد يُخفي هذا الصنف في قرارة أنفسهم وسويداء قلوبهم تشفّيهم للطرفين أو لأحدهما وحبّهم لاستعار النار واشتعالها بينهما، هذا إذا وقفوا عند هذا الحد، بل قد يسعون لإيقاد نار الفتنة ولو من بعيد بكلمات قليلة جدًا، ولكنها تعمل عملاً مفسدًا عظيمًا، فهذه الأصناف محرومة من الأجر الموعود به، بل تتحمل الإثم حيث لم تسلك سبيل المصلحين، بل تزيد عليه أيضًا إثم ما يتغلغل في قلوبها مما تمت الإشارة إليه.
وواقع المسلمين إلى الآن محزن ومخجل ويؤسف له، ولو عرف من يريد الدخول في الإسلام واقع التعامل بين المسلمين في هذا الزمان في كثير من البلاد لما دخل في الإسلام، ولابتعد عنه نتيجة العداوة والبغضاء والمكر والخداع والمراوغة والنفاق والإفساد المنتشر بين المسلمين.
إن واجب المسلمين عدم التخاذل والتكاسل والتخلي عن الإصلاح مع قدرتهم على ذلك، وقد ضُمنت حقوقهم حتى لو بلغ الأمر بالمصلحين أن تحملوا مبالغ من المال قلّت أو كثرت في سبيل الإصلاح بين المتخاصمين ولو أنهم أغنياء، فأموالهم وحقوقهم محفوظة ولا يغرمون فلسًا واحدًا منها، بل جعل الله عز وجل الغارمين المتحملين لتلك الحمالات من ضمن الأصناف الثمانية الذين تحلّ لهم الزكاة، ويجب دفعها لهم ولو كانوا أغنياء، قال تعالى: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [التوبة:60]، فمكان الشاهد قوله تعالى: وَالْغَارِمِينَ.
فما على المصلحين بين الناس على مستوى الأفراد أو الجماعات أو الدول إلا أن يحسنوا النية والقصد للإصلاح واحتساب الثواب والأجر من عند الله جل جلاله، ويحكموا بالعدل، ولا يحيفوا كما أمرهم الله عز وجل بقوله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرً [النساء:58]، وكما ورد في نهاية الآية المرغبة في الإصلاح قال تعالى: وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:114].
وعلى المصلحين أن يحتسبوا أجرهم على الله، لا يريدون بذلك رياء ولا سمعة ولا ثناء ومدحًا من الناس، ويسعوا بين المتخاصمين قلوا أو كثروا بالأخبار السارة ينقلونها ويحملونها إليهم للجمع بين الأطراف المتخاصمة، حتى لو استدعى الأمرُ الكذب الذي ورد السماح والترخيص فيه في الحديث عن رسول الله لجمع الشمل والتفاف المسلمين حول بعضهم بعضًا.
وقبل ذلك كله يعرف المصلحون أسباب أي مشكلة أو فتنة أو قطيعة ليقتلعوها من جذورها، ويتعرفون أيضًا على الأسباب والدواعي والدوافع من كل طرف على حدة، ويناقشون فيما أشكل عليهم فهمه أو تناقضه وكأنهم محققون رسميون، ويدرسون نفسيات الطرفين ومرادهم، ويجتهدون في ذلك، ويفرّغون أنفسهم ساعات وأيامًا وليالي، بل قد تصل إلى الشهور، ويصلحون بينهم صلح العقلاء وكبار السن، وليس كالصلح بين الأطفال وصغار السن والمراهقين.
إن أي مصلح كائنًا من كان ينبغي له أن يعرف طرق الإصلاح، ويسعى بكل رَوِيّة وإخلاص، يقول الحق ويصدع به، ويحذر من العواقب الوخيمة عند الاستمرار على الباطل وما ينتج عنها، لا يحابي ولا يجامل ولا يداهن، إخلاص النية ديدنه، وهدفه ابتغاء مرضاة الله، ولن يحوز على الأجر العظيم الموعود به من رب العالمين إلا بالإتيان بالشروط السابقة، مع التفرغ الصادق في الوقت، وليس كما يفعله بعض المصلحين من وقوفه في أي قضية خمس دقائق، ويقول: أنا ورائي أعمال وأشغال، إن اصطلحوا وإن رفضوا فما خسرتُ شيئًا، بل عليه أن يفرّغ عقله وقلبه وفكره للاستماع والإنصات والمناقشة والتعرف على القضية بكاملها ومعرفة الحق من الباطل وعدم التشاغل بما يصرف ذهن المصلح، خاصة عند سماع كلام أحد الطرفين أو كليهما، ثم الحكم الموافق للكتاب والسنة، وليس الموافق للهوى والعصبيات والعادات الجاهلية؛ لأن حكم المصلح قد يكون مُلزِمًا خاصة فيما بين الزوجين إذا ندبه القاضي للإصلاح بينهما. ورد عن عمر بن الخطاب إذا بعث حكمين للإصلاح بين الزوجين ولم يصطلحا أنه يعلو الحكمين بالدرة لفهمه من إرجاع الضمير في إرادة الإصلاح إلى المصلحيْن والحكمين وليس للزوجين، وهذا مفهوم واضح للفرق بين إصلاحًا واصطلاحًا وتصالحًا مع احتمال المعنيين، ولكنه الحرص منه في الإصلاح بين الناس كما قال عز وجل: إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا [النساء:35].
ومما يندى له الجبينُ حال بعض المصلحين أمام الناس المفسدين في الخفاء وهو الفرح بتلك الخصومات والمنازعات، يوقد نار الفتنة، ويسعى للتحريش بين المتنازعين، ويحرّض على النزاع والشقاق، ويلقّن كل طرف ما يتخذه من الباطل والحيل الشيطانية ضد الطرف الآخر، زاعمًا الإشفاق والمحبة والإخلاص، فذلك من حزب الشيطان وجنده الخاسرين، وقد يكون ذلك طبعه وخلقه عند عدم وجود النية الصالحة، وقد يكون قصده حسنًا وقلبه صافيًا، ولكنه لا يعرف ما يقرب، فهو يسعى بما يباعد، فلا يَصْلُح للإصلاح كل أحد، ولا يُوفّق له كل من سعى وتظاهر بالإصلاح، فقد يسيء ويباعد من يريد الإحسان والتوفيق بين المتخاصمين بأسلوبه البعيد عن الطرق الشرعية والحكمة المرعية والحالة النفسية.
والأسوأ من ذلك الذين يسعون للتحريش والإفساد لإيجاد المشاكل بين الناس أو التحريض وإيقاد نار الفتنة وصب الزيت على النار كما يقال قديمًا، وحديثًا صبّ البنزين على النار، والتمتع بمناظر الصراع والفتن في المجتمع، وقد يفعل أحدهم فعلته الخبيثة بقول أو فعل ويلصقها بفلان من الناس، أي أنه يقتل القتيل ويمشي في جنازته، وهذا أمر ملموس وواقع في المجتمعات المعاصرة، ولكن الواجب التنبه لأولئك المفسدين، ثم على من نُقل إليه عن أخيه المسلم أو ألصق به تهمة للإيقاع بينهما أن يتثبت، ويصل إلى حقيقة الأمر بدلاً من الظنون والشكوك التي سعى بها بل عملها المفسد بنفسه للإيقاع بين الجارين أو المتحابيْن المتوادين وإن كانا بعيدين في السكن، فهذه الأعمال الشنيعة الشيطانية منتشرة في المجتمعات، فيجب أخذ الحيطة والحذر من هذه الجراثيم القاتلة في المجتمع، ويكون الخلاص منها صعبًا إذا تركت؛ فسوف يستفحل أمرها ويعظم شرها.
قال تعالى: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [فاطر:6]، وقال عز وجل: وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا [الإسراء:53].
ولو أن كل قرية أو محلة أو حي من الأحياء في مجتمعات المسلمين نصّبوا مجموعة من أهل الصلاح والخير يقومون بحل الخلافات لانتهت كثير من القضايا والمشاكل التي ملأت كل إدارة ذات علاقة، أو بقيت في صدور أصحابها تغلي بها نفوسهم وقلوبهم. وذلك بعد توفيق الله عز وجل للمجتمع، مع أن هذه الدعوة التي دعا إليها أهل الخير منذ عشرات السنين بدت بوادرها في بعض المدن والأحياء ولله الحمد، وعسى أن تعم مجتمعات المسلمين بإذن الله عز وجل وتوفيقه.