فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ [الأنعام : 125] .
* قوله :
سورة الأنعام الآية 125
فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ : المراد بالإرادة هنا الإرادة الكونية ، والمراد بالهداية هداية التوفيق ، فتجده منشرح الصدر في شرائع الإسلام وشعائره ، يفعلها بفرح وسرور وانطلاق .
فإذا عرفت من نفسك هذا ، فاعلم أن الله أراد بك خيرًا وأراد لك هداية ، أما من ضاق به ذرعًا والعياذ بالله فإن هذا علامة على أن الله لم يرد له هداية ، وإلا لانشرح صدره .
ولهذا تجدون الصلاة التي هي أثقل ما يكون على المنافقين قرة عيون المخلصين ، قال النبي صلى الله عليه وسلم:
سنن النسائي عِشْرَةِ النِّسَاءِ (3939) ، مسند أحمد (3/128) ، باقي مسند المكثرين (3/285). حبب إلي من دنياكم النساء والطيب ، وجعلت قرة عيني في الصلاة ، ولا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم أكمل الناس إيمانًا ، فانشرح صدره بالصلاة وصارت قرة عينه .
فإذا قيل للشخص : إنه يجب عليك أن تصلي مع الجماعة في المسجد ،
( الجزء رقم : 8)- -ص 180- فانشرح صدره ، وقال الحمد لله الذي شرع لي ذلك ، ولولا أن الله شرعه ، لكان بدعة ، وأقبل إليه ، ورضي به ، فهذا علامة على أن الله أراد أن يهديه وأراد به خيرًا .
* قال :
سورة الأنعام الآية 125
يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ :
سورة الأنعام الآية 125
يَشْرَحْ صَدْرَهُ : بمعنى يوسع ، ومنه قول موسى عليه الصلاة والسلام لما أرسله الله إلى فرعون :
سورة طه الآية 25
رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي [طه : 25] ، يعني : وسع لي صدري في مناجاة هذا الرجل ودعوته ، لأن فرعون كان جبارًا عنيدًا .
وقوله :
سورة الأنعام الآية 125
لِلْإِسْلَامِ : هذا عام لأصل الإسلام وفروعه وواجباته ، وكلما كان الإنسان بالإسلام وشرائعه أشرح صدرًا ، كان أدل على إرادة الله به الهداية .
* وقوله :
سورة الأنعام الآية 125
وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ : من يرد أن يضله ، يجعل صدره ضيقا حرجا ، أي شديد الضيق ، ثم مثل ذلك بقوله :
سورة الأنعام الآية 125
كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ ، يعني : كأنه حين يعرض عليه الإسلام يتكلف الصعود إلى السماء ، ولهذا جاءت الآية :
سورة الأنعام الآية 125
يَصَّعَّدُ ، بالتشديد ، ولم يقل : يصعد ، كأنه يتكلف الصعود بمشقة شديدة ، وهذا الذي يتكلف الصعود لا شك أنه يتعب ويسأم .
ولنفرض أن هذا رجل طلب منه أن يصعد جبلا رفيعًا صعبًا ، فإذا قام يصعد هذا الجبل ، سوف يتكلف ، وسوف يضيق نفسه ويرتفع وينتهب ، لأنه يجد من هذا ضيقًا .
وعلى ما وصل إليه المتأخرون الآن ، يقولون : إن الذي يصعد في
( الجزء رقم : 8)- -ص 181- السماء كلما ارتفع وازداد ارتفاعه ، كثر عليه الضغط ، وصار أشد حرجًا وضيقًا ، وسواء كان المعنى الأول أو المعنى الثاني ، فإن هذا الرجل الذي يعرض عليه الإسلام وقد أراد الله أن يضله يجد الحرج والضيق كأنما يصعد في السماء .
ونأخذ من هذه الآية الكريمة إثبات إرادة الله عز وجل .
والإرادة المذكورة هنا إرادة كونية لا غير ، لأنه قال :
سورة الأنعام الآية 125
فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ سورة الأنعام الآية 125
وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ ، وهذا التقسيم لا يكون إلا في الأمور الكونيات ، أما الشرعية ، فالله يريد من كل أحد أن يستسلم لشرع الله .
وفيها من السلوك والعبادة أنه يجب على الإنسان أن يتقبل الإسلام كله ، أصله وفرعه ، وما يتعلق بحق الله وما يتعلق بحق العباد ، وأنه يجب عليه أن يشرح صدره لذلك ، فإن لم يكن كذلك ، فإنه من القسم الثاني الذين أراد الله إضلالهم .
قال النبي صلى الله عليه وسلم :
صحيح البخاري الْعِلْمِ (71) ، صحيح مسلم الزَّكَاةِ (1037) ، سنن ابن ماجه المقدمة (221) ، موطأ مالك الْجَامِعِ (1667) ، سنن الدارمي الْمُقَدِّمَةُ (224). من يرد الله به خيرًا ، يفقهه في الدين ، والفقه في الدين يقتضي قبول الدين ، لأن كل من فقه في دين الله وعرفه ، قبله وأحبه .
قال تعالى :
سورة النساء الآية 65
فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء : 65] ، فهذا إقسام مؤكد بـ (لا) ، وإقسام بأخص ربوبية من الله عز وجل لعباده -
( الجزء رقم : 8)- -ص 182- وهي ربوبية الله للرسول - على نفي الإيمان عمن لم يقم بهذه الأمور :
الأول : تحكيم الرسول صلى الله عليه وسلم لقوله :
سورة النساء الآية 65
حَتَّى يُحَكِّمُوكَ ، يعني : الرسول ، فمن طلب التحاكم إلى غير الله ورسوله ، فإنه ليس بمؤمن ، فإما كافر كفرًا مخرجًا عن الملة ، وإما كافر كفرًا دون ذلك .
الثاني : انشراح الصدر بحكمه ، بحيث لا يجدون في أنفسهم حرجًا مما قضى ، بل يجدون القبول والانشراح لما قضاه النبي صلى الله عليه وسلم.
الثالث : أن يسلموا تسليمًا ، وأكد التسليم بمصدر ، يعني : تسليمًا كاملا .
فاحذر أيها المسلم أن ينتفي عنك الإيمان .
ولنضرب لهذا مثلا : تجادل رجلان في حكم مسألة شرعية ، فاستدل أحدهما بالسنة ، فوجد الثاني في ذلك حرجًا وضيقًا ، كيف يريد أن يخرج عن متبوعه إلى اتباع هذه السنة ؟! فهذا الرجل ناقص بلا شك في إيمانه ، لأن المؤمن حقًا هو الذي إذا ظفر بالنص من كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام ، فكأنما ظفر بأكبر غنيمة يفرح بها ، ويقول : الحمد لله الذي هداني لهذا . وفلان الذي يتعصب لرأيه ويحاول أن يلوي أعناق النصوص حتى تتجه إلى ما يريده هو لا ما يريده الله ورسوله ، فإن هذا على خطر عظيم .
أقسام الإرادة : الإرادة تنقسم إلى قسمين :
( الجزء رقم : 8)- -ص 183- القسم الأول : إرادة كونية : وهذه الإرادة مرادفة تمامًا للمشيئة ، فـ (أراد) فيها بمعنى (شاء) ، وهذه الإرادة :
أولا : تتعلق فيما يحبه الله وفيما لا يحبه .
وعلى هذا فإذا قال قائل : هل أراد الله الكفر؟ فقل : بالإرادة الكونية نعم أراده ، ولو لم يرده الله عز وجل ، ما وقع .
ثانيًا : يلزم فيها وقوع المراد ، يعني : أن ما أراده الله فلا بد أن يقع ، ولا يمكن أن يتخلف .
القسم الثاني : إرادة شرعية : وهي مرادفة للمحبة ، فـ (أراد) فيها بمعنى (أحب) ، فهي :
أولا : تختص بما يحبه الله ، فلا يريد الله الكفر بالإرادة الشرعية ولا الفسق .
ثانيًا : أنه لا يلزم فيها وقوع المراد ، بمعنى : أن الله يريد شيئًا ولا يقع ، فهو سبحانه يريد من الخلق أن يعبدوه ، ولا يلزم وقوع هذا المراد ، قد يعبدونه وقد لا يعبدونه ، بخلاف الإرادة الكونية .
فصار الفرق بين الإرادتين من وجهين :
1 - الإرادة الكونية يلزم فيها وقوع المراد ، والشرعية لا يلزم .
2 - الإرادة الشرعية تختص فيما يحبه الله ، والكونية عامة فيما يحبه وما لا يحبه .
فإذا قال قائل : كيف يريد الله تعالى كونًا ما لا يحبه ، بمعنى : كيف
( الجزء رقم : 8)- -ص 184- يريد الكفر أو الفسق أو العصيان وهو لا يحبه؟!
فالجواب : أن هذا محبوب إلى الله من وجه مكروه إليه من وجه آخر ، فهو محبوب إليه لما يتضمنه من المصالح العظيمة ، مكروه إليه لأنه معصية .
ولا مانع من أن يكون الشيء محبوبًا مكروها باعتبارين ، فها هو الرجل يقدم طفله الذي هو فلذة كبده وثمرة فؤاده ، يقدمه إلى الطبيب ليشق جلده ويخرج المادة المؤذية فيه ولو أتى أحد من الناس يريد أن يشقه بظفره وليس بالمشرط ، لقاتله ، لكن هو يذهب إلى الطبيب ليشقه ، وهو ينظر إليه ، وهو فرح مسرور ، يذهب به إلى الطبيب ليحمي الحديد على النار حتى تلتهب حمراء ، ثم يأخذها ويكوي بها ابنه ، وهو راضٍ بذلك ، لماذا يرضى بذلك وهو ألم للابن؟ لأنه مراد لغيره للمصلحة العظيمة التي تترتب على ذلك .
ونستفيد بمعرفتنا للإرادة من الناحية المسلكية أمرين :
الأمر الأول : أن نعلق رجاءنا وخوفنا وجميع أحوالنا وأعمالنا بالله ، لأن كل شيء بإرادته وهذا يحقق لنا التوكل .
الأمر الثاني : أن نفعل ما يريده الله شرعًا ، فإذا علمت أنه مراد لله شرعًا ومحبوب إليه ، فإن ذلك يقوي عزمنا على فعله .
هذا من فوائد معرفتنا بالإرادة من الناحية المسلكية ، فالأول باعتبار الإرادة الكونية ، والثاني : باعتبار الإرادة الشرعية .