علمتني الحياة في ظل العقيدة أن لكل بداية في الدنيا نهاية:
ولكل شمل مجتمع فرقة، ولكل نعيم انقطاع:
إذا تم شيء بدأ نقصه............ ترقب زوالا إذا قيل تم
بينما المولود يولد ويفرح به ويؤذن في أذنه، إذ به بعد وقت ليس بالطويل يحمل ليصلى عليه ما كأنه ضحك مع من ضحك، ولا كأنه فرح مع من فرح، ولا كأنه استبشر مع من استبشر، فكأن حياته ما بين آذان وصلاة، ولا إله إلا الله ما أقصرها من حياة.
آذان المرء حين الطفل يأتي......... وتأخير الصلاة إلى الممات
دليل أن محياه يسير ............... كما بين الآذان إلى الصلاة
بينما الإنسان في أهله في ليلة آمنا مطمأنا فرحا يخبر عن غيره، إذ به في ليلة أخرى وحيدا فريدا لا مال ولا ولد ولا أنيس ولا صاحب سوى العمل، وإذا به خبر يخبر به.
بينا يرى الإنسان فيها مخبرا........فإذا به خير من الأخبار
بينما الطبيب يعالج من مرض إ به يصاب بنفس المرض، فلا طبه ينفعه، ولا دواءه يرفعه، وإذ به يلقى ما لقي غيره على يديه وحال الناس:
مال الطبيب يموت في الداء الذي..........قد كان يبرأ مثله في ما مضى
مات المداوي والمداوى والذي............جلب الدواء وباعه ومن اشترى
ما أنت والله إلا كقطعة ثلج تذوب ثم تذوب حتى تتلاشى وكأن لم تكن:
سيصير المرء يوما.....جسدا ما فيه روح
نح على نفسك يا.....مسكين إن كنت تنوح
لست بالباقي ولو.....عمرت ما عمر نوح
فأنتبه من رقدت..........الغفلة فالعمر قصير
واطّرح سوف وحتى.....فهما داء دخيل
واتقي الله وقصر أملا...ليس في الدنيا خلود للملأ
الموت لنا بالمرض ...... إن لم يفاجئ اليوم فاجئ في غد
الموت باب وكل الناس سيدخلون من هذا الباب، ومن باب إلا وبعده دار.
لا دار للمرء بعد الموت يسكنها....... إلا الذي كان قبل الموت يبنيها
فإن بناها بخير طاب مسكنه.......... وإن بناها بشر خاب بانيها
كتب الموت على الخلق فكم......... فل من جيش وأفنى من دول
أين نمرود وكنعان ومن ............. ملك الأرض وولى وعزل
أين من سادوا وشادوا وبنوا......... هلك الكل ولم تغني الحيل
أين أرباب الحجى أهل التقى......... أين أهل العلم والقوم الأول
سيعيد الله كل منهم................. وسيجزي فاعلا ما قد فعل
هل شاهدت محتضرا في شدة سكراته ونزعاته ؟، هل تأملت صورته بعد مماته ؟، هل تذكرت أنك صائر إلى ما صار إليه، وذائق ما ذاقه من آلام الموت وكرباته ؟
هل تذكرت ذلك فاستعديت لتلك اللحظات العصيبة فزدت في عملك وزدت في اجهاد نفسك واجتهادك.
هاهو الحسن عليه رحمة الله يدخل على يعوده فيجده في سكرات الموت، فينظر إلى كربه وإلى شدة ما نزل به فيرجع إلى أهله حزينا كئيبا بغير اللون الذي خرج به من عندهم، فقالوا له:
يا إمام الطعام يحرمك الله، قال يا أهلاه عليكم بطعامكم وشرابكم فو الذي نفسي بيده لقد لقيت مصرعا لا أزال أعمل له حتى ألقاه.
فمثل لنفسك يا عبد الله وقد حلت بك السكرات، ونزلت بك الغمرات، وابنتك تبكيك الأسيرة وتتضرع وتقول من ليتمي بعدك ؟
وابنك ينظر ما يتعجل من اليتم بعدك ويقول من لحاجتي أبتاه ؟، وأنت تسمع فلا ترد الجواب.
هل رأيت جنازة محمولة على الأكتاف لتوارى في التراب، ثم تسألت عن حالها ما حالها.
في صحيح البخاري من حديث أبي سعيد قالَ قال (صلى الله عليه وسلم):
(إذا وضعت الجنازة واحتملها الرجال على أعناقها، إن كانت صالحت قالت قدموني قدموني، وإن كانت غير ذلك قالت يا ويلها أين تذهبون بها، يا ويلها أين تذهبون بها، يسمع صوتها كل شيء إلا الإنسان، ولو سمعه لصعق).
تصرخ صرخات تقض المضاجع، فهل مثلت لنفسك أنك المحمول، ما حالنا لو احتملنا جنازة ثم صرخت تلك الصرخات، يا ويلها أين تذهبون بها، والله لصعقنا ولما حملنا جنازة أبدا، وهذا ما خشيه علينا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يوم قال كما في صحيح مسلم:
(لولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر ما أسمع).
فخيل لنفسك يا ابن آدم إذا أخذت من فراشك إلى لوح مغتسلك فغسلك الغاسل
وألبست الأكفان وأوحش منك الأهل والجيران، وبكى عليك الأصحاب والأخوان، فما ينفع البكاء وما ينفع العويل وما ينفع إلا ما قدمت من صالح الأعمال.
هاهو يزيد الرقاشي عليه رحمة الله يحضر عابدا قد حضرته الوفاة وحوله أهله يبكون فقال لوالده أيها الشيخ ما الذي يبكيك ؟
قال أبكي فقدك وما أرى من جهدك.
فبكت أمه فقال أيتها الوالدة الشفيقة الرفيقة ما الذي يبكيك؟
قالت فراقك وما أتعجل من الوحشة بعدك.
فبكى صبيانه وأهله وزوجه قال يا معشر اليتامى ما الذي يبكيكم؟
قالوا نبكي ما نتعجله من اليتم بعدك.
فما كان منه إلا أن صرخ وقال كلكم يبكي لدنياي، أما فيكم من يبكي لآ لا ةخرتي، أما فيكم من يبكي لملاقاة التراب وجهي، أما فيكم من يبكي لسؤال منكر ونكير إياي، أما فيكم من يبكي لوقوفي بين يدي الله ربي، ثم صرخ صرخة عظيمة شهد بعدها أن لا إله إلا الله ليلحق بالله عز وجل.
أيها المسلم هل نظرت إلى القبور؟
ما نظر عبد لها إلا انكسر قلبه، وكان أبرأ ما يكون من القسوة والغرور، ما حافظ عبد على زيارة المقابر مع التفكر والتدبر إلا رق قلبه وذرفت عيناه إذ يرى فيها الأباء والأمهات والأصحاب والأخوان والأخوات، يرى منازلهم ويتذكر أنه قريبا سيكون بينهم، وأنهم جيران لبعضهم قد انقطع التزاور بينهم مع الجيرة وحيل بينهم وبين ما يشتهون.
قد يتدانى القبران وبينهما ما بين السماء والأرض نعيما وجحيما.
ما تذكر عبد هذه المنازل إلا رق قلبه من خشية الله، ولا وقف على شفير قبر فرآه محفورا فهيأ نفسه أن لو كان صاحبه إلا رق قلبه، ولا وقف على شفير قبر فرأى صاحبه يدلى فيه فسأل نفسه على ماذا أغلق؟
على نعيم أم على جحيم، على مطيع أم على عاص إلا رق قلبه.
فلا إله إلا الله، هو العالم بأحوالهم، هو الحكم العدل الذي يفصل بينهم، ألا فتذكر هادم اللذات، وتذكر القبر والعظام النخرات ليهتز قلبك خشية من الله فتنيب إليه إنابة الصادق الخاشع الذليل.
هاهو أبن عوف رضي الله عنه يقول: خرجت مع عمر رضي الله عنه فلما وقفنا على مقبرة البقيع وكنت قابضا على يده فأختلس يده من يدي، ثم وضع نفسه على قبر فبكى بكاء طويل.
فقلت ما لك يا أمير المؤمنين ؟
قال يا ليت أم عمر لم تلد عمر، يا ليتني كنت شجرة، أنسيت يا ابن عوف هذه الحفرة، قال فأبكاني والله.
فالله المستعان على تلك اللحود الضيقات، والله المستعان على تلك اللحظات الحرجات.
هاهو (صلى الله عليه وسلم) كما في المسند من حديث البراء، أنه رأى أناسا مجتمعين فسأل عن سبب اجتماعهم، فقيل على قبر يحفرونه ففزع (صلى الله عليه وسلم) وذهب مسرعا حتى انتهى إلى القبر، ثم جثا على ركبته وبكى طويلا ثم أقبل على الناس وهو يقول:
يا إخواني لمثل هذا فأعدوا، يا إخواني لمثل هذا فأعدوا.
فهلا أعددنا أنفسنا لتلك اللحود الضيقات، إنه القائل (صلى الله عليه وسلم) كما في حديث أبي ذر:
(إني أرى ما لا ترون، وأسمع ما لا تسمعون، أطت السماء وحق لها أن تأط ما فيها موضع أربع أصابع إلا ومالك واضع جبهته ساجد أو راكع، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا، ولما تلذذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله، (وفي رواية المنذر)، ولحثوتم على رؤوسكم التراب).
والله لو علمن حق العلم لقام أحدنا حتى ينكسر صلبه، ولصاح حتى ينقطع صوته،الأمر خطير جد خطير:
يا نفس قد أزف الرحيل وأظلك الخطب الجليل..... فتأهبي يا نفس لا يلعب بك الأمل الطويل
فلتنزلن بموضع ينسى الخليل به الخليل.............. وليركبن عليك من الثرى حمل ثقيل
قرن الفناء بنا فلا يبقى العزيز ولا الذليل
خالف هواك إذا دعاك لريبة.......... فلرب خير في مخالفة الهوى
حتى متى لا ترعوي يا صاحبي........ حتى متى ولا ترعوي و إلى متى