الحج الشكلي فيه انعزال فردي حتى في تطهير النفس من أدرانها والنجاة يوم القيامة من أهوالها فلا يكاد يرى الحاج من أهداف مناسكه سوى ما جاء في الحديث: (من حج هذا البيت فلم يفسق ولم يرفث رجع كيوم ولدته أمه) متفق عليه.
أما الحج المقاصدي فيعتبر هذا الإصلاح الفردي لا يتم إلا من خلال نسيج اجتماعي تعبدي؛ وإلا كان من حق كل من لطخته الآثام أن يذهب وحده للحج في أي وقت من العام، حتى يسارع بتطهير نفسه ويعود كما ولدته أمه، لكن الحج أشهر معلومات، والحج عرفة، والطواف والسعي والرمي والمبيت بمنى ومزدلفة كل ذلك يؤتي ثماره وسط جماعات المسلمين الوافدين من كل فج عميق، فيستشعر المسلم امتداده زمانا ومكانا منذ سيدنا آدم عليه السلام، ثم إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام عندما رفعا القواعد من البيت، ودعيا لمكة بالأمن وسعة الرزق إلى يوم القيامة، ويتمدد مكانا في كل بقاع الأرض حيث يرى إخوانه الذين وفدوا إلى مكة قد أحرموا مثله، ووقفوا بعرفة معه، وجاوروهم في الطواف والسعي فيتحمل المسؤولية عن هداية وسعادة العالم كله، كما فقهها ربعي بن عامر عندما قال: "إن الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد..."، فهل من حجاج اليوم من يرى في وجوده بين أجناس الخلق وألوان البشر ما يجعله يستشعر المسؤولية عن العالم كله؟!
ولهذا الهدف المقاصدي للحج ورد لفظ "الناس" في سورة الحج 15 مرة رغم أنها سورة مدنية في القول الراجح؛ لأن للحج رسالة عالمية بدأت بالنداء إلى الناس أن يتقوا الله، وانتهت بتحدٍّ لمن كفر بالله بخلق ذباب له روح.
نحن نحتاج بحق أن ندرس خطبة الوداع على جبل الرحمة ونقارنها بخطب اليوم لنفهم الفرق بين الحج الشكلي والحج المقاصدي، وكيف كان رسول الرحمة صلى الله عليه وسلم ينادي على الناس جميعا بدون فضائيات ولا إنترنت، لكن قلوب وعقول الرجال والنساء، والشباب والفتيات حفظوا الدرس المقاصدي ونقلوه لنا، فحفظنا رسمه وضيعنا حقيقته، وخرَّجنا نصه وخَرَجنا من مضمونه، وخطبنا به في المساجد والجوامع، واختفت آثاره في الشركات والشوارع، فلا تزال الطبقية تنخر في وحدة الأمة، والربا ينذر بالخراب، والعري يطرق كل باب، وظلم النساء لا يخلو منه واد.
والعجيب أن بعض شيوخنا قد استهواهم رفع الصوت بهذه الكلمات الرنانة في خطبة الوداع دون أن يقودوا أمتهم نحو عمل تربوي دعوي إنتاجي إبداعي جاد ينقل الأمة إلى مقاصد الحج العليا، من الفقر والتسول إلى الغنى والاستغناء، من الاستهلاك إلى الإنتاج، ومن الاستضعاف إلى الاستخلاف، ومن الذلة إلى العزلة، ومن الفرقة والاختلاف إلى الوحدة والائتلاف، ومن العصبية الذميمة إلى الأخوة الحميمة،
إن واقعنا المر لا بد أن يتغير ففي أيام الحج مزقتنا كرة تجري بأرجل اللاعبين، وتناثرت الحجارة ليس على الصهاينة المعتدين وإنما على رؤوس إخواننا المسلمين، وانغمر الإعلام في إثارة الشقاق ونبذ الوفاق بين شعبين مسلمين وانساق شيوخ وأساتذة جامعات إلى هذا الانزلاق فطالبوا بمنع أبناء شعب شقيق أن يدرس في الأزهر أو جامعة عين شمس، لقد تم هذا في أشهر الحج وأيام العشر الأوائل من ذي الحجة ليعبر عن عمق المأساة واتساع الشرخ مما يوجب على العقلاء من البقية النادرة والنخبة الربانية أن تهتف بأعلى صوت يا قوم لا للكرة خُلِقنا فإن اللعب يقرب الشعوب المتحضِّرة لا "المتحظِّرة"، ونحن خلقنا لعبادة الله وتكريم الإنسان وعمارة الأرض.