إن الحمد لله نحمده ، ونستعينه ، ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا . من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله . أما بعد :
فإن أشرف العلوم على الإطلاق ، العلم بالله . لأن شرف العلم مبني على شرف المعلوم ، والله تعالى أشرف معلوم ، فالعلم به ، إذاً ، أشرف العلوم . وهو أفضل ما أدركته العقول ، وانطوت عليه القلوب . وتحصيل هذا العلم الشريف من أوجب الواجبات ، وأهم المهمات ، ولهذا أمر الله به قبل القول والعمل، فقال : ( فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ).تكمن أهمية دراسة العقيدة في وجهتين
الوجه الأول: أنها جزء من الدين , وبالتالي فكل النصوص الآمرة بأخذ الدين وتعلمه تتناول مسائل العقيدة بالأولوية.
الوجه الثاني: أنها أصل في أعمال الجوارح , بمعنى أن صلاح العقيدة يورث صلاح العمل والعكس بالعكس , وقد ضرب الله مثلا لذلك بأهل الكتاب حين قال: {ألم تر الى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب , يدعون الى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون , ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون} [آل عمران24- 23] فالله -عز وجل- جعل افتراءهم في الدين , وفساد اعتقادهم... سببا لفساد أعمالهم وأصلا لإعراضهم.
ولذا فالصحابة والتابعون ؛ أحق بالاتباع من غيرهم ، وذلك لصدقهم في إيمانهم ، وإخلاصهم في عبادتهم ، وهم حراس العقيدة ، وحماة الشريعة، العاملون بها ؛ قولاً وعملاً ، ولذلك اختارهم الله -تعالى- لنشر دينه ، وتبليغ سنة نبيه -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- .
قال النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- : « تفترقُ أمتي على ثلاثٍ وسبعين ملةً ؛ كُلهم في النار ؛ إلا ملة واحدة قالوا : من هي يا رسول الله؟ قال : ما أنا عليه وأصحابي »(1).
ويطلق على كل من اقتدى بالسلف الصالح ، وسار على نهجهم في سائر العصور : " سَلَفِيٌّ " نسبة إليهم وتمييزاً بينه وبين من يخالفون منهج السلف ويتبعون غير سبيلهم . قال -تعالى-: {وَمَنْ يُشاقِق الرَّسُولَ مِنْ بَعْد ما تَبَيَّنَ لهُ الهُدَى وَيَتَبعْ غَيْرَ سبيلِ المؤمنين نُولِّهِ ما تولى ونَصلِهِ جَهَنَّمَ وسَاءتْ مَصيراً} [النساء :115] . ولا يسع أي مسلم إلا أن يفتخر بالانتساب إليهم .
ولفظ " السَّلفيَّة " أصبح علماً على طريقة السلف الصالح في تلقي الإسلام وفهمه وتطبيقه . وبهذا فإن مفهوم السلفية يطلق على الملتزمين بكتاب الله وما ثبت من سنـة رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- ؛ التزاماً كاملاً .
تعريف أهل السنة والجماعة :
السنة في اللغة :السنـة في اللغة مشتقة من : سَنَّ يَسِنُ ، ويَسُنُّ سَّناً فهو مَسْنُون . وسَنَّ الأمرَ : بَيَّنَه . والسنةُ : الطريقة ُ والسيرة ، محمودة كانت أم مذمومة .ومنه قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم : « لتتبعُنَّ سَنَن من كان قبلكم شبراً بشبرٍ وذراعاً بذراعٍ» . رواه البخاري ومسلم(2) أي : طريقتهم في الدين والدنيا . وقوله : «من سن في الإسلام سنة حسنة ؛ فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده ؛ من غير أن يَنْقُصَ من أجورهم شيءٌ ، ومن سن في الإسلام سنة سيئة...» رواه مسلم(3)، أي سيرة .
السنة في الاصطلاح : الهدي الذي كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - وأصحابه ؛ علماً ، واعتقاداً ، وقولاً ، وعملاً ، وتقريراً.
وتطلق السنة على سنن العبادات والاعتقادات ، ويقابل السنة ؛ البدعة.
قال النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- : « فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً ؛ فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين » . رواه أبو داود(4).
الجماعة في اللغة : ( مأخـوذة من الجمع ، وهو ضم الشيء ، بتقريب بعضه من بعض ، يقال جمعته ؛ فاجتمع ) .ومشتقة من الاجتماع ، وهو ضد التفرق ، وضد الفرقة . والجماعة : العدد الكثير من الناس ، وهي أيضاً طائفة من الناس يجمعها غرض واحد .
الجماعة في الاصطلاح : جماعة المسلمين ، وهم سلف هذه الأمة ؛ من الصحابة والتابعين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ؛ الذين اجتمعوا على الكتاب والسنة ، وساروا على ما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - ظاهراً وباطناً .
وقد أمر الله -تعالى- عباده المؤمنين وحثهم على الجماعة والائتلاف والتعاون ، ونهاهم عن الفرقة والاختلاف والتناحر ، فقال : {واعتصمُوا بحبلِ الله جمعياً ولا تَفرَّقُوا}، [ آل عمران:103 ] . وقال : {ولا تكُونُوا كالذينَ تفرَّقُوا واختلفُوا مِنْ بعدِ ما جاءَهُم البيِّنات}. [ آل عمران /105 ] .
وقال النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- : « وإنَّ هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين : ثنتان وسبعون في النار ، واحدةٌ في الجنة، وهي : الجماعة » . رواه أبو داود(5).
وقال : « عليكم بالجماعة ، وإياكم والفرقة ؛ فإن الشيطان مع الواحد ، وهو من الاثنين أبعد ، ومن أراد بُحْبوحَة الجنة ؛ فليلزم بالجماعة » . رواه الإمام أحمد(6).
وقال الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: «الجماعة ما وافق الحقَّ ، وإن كنت وحدك»(7).
فأهل السنة والجماعة : هم المتمسكون بسنة النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وأصحابه ومن تبعهم وسلك سبيلهم في الاعتقاد ، والقول والعمل والذين استقاموا على الاتباع ، وجانبوا الابتداع ، وهم باقون ظاهرون منصورون إلى يوم القيامة فاتباعهم هدى ، وخلافهم ضلال .
من كتاب « الوجيز في عقيدة السلف الصالح » .
والشريعة تنقسم إلى قسمين: اعتقاديات وعمليات:
فالاعتقاديات: هي التي لا تتعلق بكيفية العمل، مثل اعتقاد ربوبية الله ووجوب عبادته، واعتقاد بقية أركان الإيمان المذكورة، وتُسمَّى أصلية.
والعمليات: هي ما يتعلق بكيفية العمل مثل الصلاة والزكاة والصوم وسائر الأحكام العملية، وتسمى فرعية؛ لأنها تبنى على تلك صحة وفسادًا . وقوله: (على تلك) أي: على الاعتقاديات(
.
فالعقيدةُ الصحيحةُ هي الأساسُ الذي يقوم عليه الدين وتَصحُّ معه الأعمال، كما قال -تعالى-: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110].
وقال -تعالى-: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر:65].
وقال -تعالى-: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ، أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر:2، 3].
فدلّت هذه الآيات الكريمة، وما جاء بمعناها، وهو كثير، على أن الأعمال لا تُقبلُ إلا إذا كانت خالصة من الشرك، ومن ثَمَّ كان اهتمام الرسل -صلواتُ الله وسلامه عليهم – بإصلاح العقيدة أولاً، فأول ما يدعون أقوامهم إلى عبادة الله وحده، وترك عبادة ما سواه، كما قال -تعالى-: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ} [النحل:36].
وكلُّ رسول يقول أول ما يخاطب قومه:
{اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59، 65، 73، 85] قالها نوح، وهود ، وصالح ، وشعيب، وسائر الأنبياء لقومهم.
وقد بقي النبي -صلى الله عليه وسلم- في مكة بعد البعثة ثلاثة عشر عامًا يدعو الناس إلى التوحيد، وإصلاح العقيدة؛ لأنها الأساسُ الذي يقوم عليه بناءُ الدين. وقد احتذى الدعاة والمصلحون في كل زمان حذو الأنبياء والمرسلين، فكانوا يبدءون بالدعوة إلى التوحيد، وإصلاح العقيدة، ثم يتجهون بعد ذلك إلى الأمر ببقية أوامر الدين.
بيان مصادر العقيدة ومنهج السلف في تلقيها :-
العقيدة توقيفية؛ فلا تثبت إلا بدليل من الشارع، ولا مسرح فيها للرأي والاجتهاد، ومن ثَمَّ فإن مصادرها مقصورة على ما جاء في الكتاب والسنة؛ لأنه لا أحد أعلمُ بالله ، وما يجب له ، وما ينزه عنه ، من الله، ولا أحد -بعد الله- أعلمُ بالله من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولهذا كان منهج السلف الصالح ومن تبعهم في تلقِّي العقيدة مقصورًا على الكتاب والسنة.
فما دلّ عليه الكتاب والسنة في حق الله -تعالى- آمنوا به، واعتقدوه وعملوا به. وما لم يدل عليه كتاب الله ولا سنة رسوله نقَوْهُ عن الله -تعالى- ورفضوه؛ ولهذا لم يحصل بينهم اختلاف في الاعتقاد، بل كانت عقيدتهم واحدة، وكانت جماعتهم واحدة؛ لأن الله تكفّل لمن تمسك بكتابه، وسنة رسوله ، باجتماع الكلمة، والصواب في المعتقد واتحاد المنهج، قال -تعالى-: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ} [آل عمران:103].
وقال -تعالى-: {فَإِمَّا يَأتِيَنَّكُم مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى} [طه:23].
ولذلك سُمُّوا بالفرقة الناجية؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- شهد لهم بالنجاة حين أخبر بافتراق الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، ولما سئل عن هذه الواحدة قال: « هي من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي » [الحديث رواه الإمام أحمد](9).
وقد وقع مصداق ما أخبر به -صلى الله عليه وسلم-، فعندما بنى بعض الناس عقيدتهم على غير الكتاب والسنة، من علم الكلام، وقواعد المنطق الموروثَيْن عن فلاسفة اليونان؛ حصل الانحرافُ والتفرق في الاعتقاد مما نتج عنه اختلافُ الكلمة، وتفرُّقُ الجماعة، وتصدع بناء المجتمع الإسلامي.