وبينما هي النفس تضيق بكل ما حولها ، وتستغرب الناس ، وتستنكر حتى ما يصدر منها , وبينما يتعثر القلم في التعبير عن الألم ، ويتردد اللسان في اختيار أنواع الكلمات ، وتتلون الجدران بلون كئيب ..
وبينما ترى الجميع يبحثون عن ذات مصالحهم الشخصية ، ويتصارعون على كل متاع ، وبينما يضيق الصدر، وتختنق العبرة، ويموج البحر الهائج في الصدر المغلق ..
عندها تفيض جميع معاني التجرد والافتقار، وتتلون الأجواء بلون الدمعة التي تغرورق فتكسو حدقة العين ، فلا يبدو في الآفاق أمل إلا في الله ، ولا يبدو في الأحداق منجى إلا إلى الله ، ولا يبدو في الطرقات رجاء إلا من الله .
إنها لحظات غالية ، وأوقات صادقة تلك التي يتجرد فيها المرء من كل قيد ، ويتعالى عن الدنيا بكل ما فيها ، فتصعد نفسه شفافة متعالية فوق كل أنواع الصراع .
وبينما تلامس الجبهة تراب الأرض ساجدة ملتجئة فقيرة مستذلة ضعيفة منكسرة فهي تعلو على كل دنيء ، وتتسامى فوق كل وضيع، إنها تقترب من الملأ الأعلى ، وتسبح وتستغفر وتندم على تقصيرها ؛ لذا فقد أجمل النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى الرائع في كلمات قليلات إذ يقول: ( أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد ) أخرجه مسلم , إنه لمعنى لو تعلمون عظيم .
لكم نحن بحاجة إلى معاني الروحانية ، ولمحات الإيمانية التي تمس القلب الجاف الصديء ، فلا تتركه إلا وقد أزالت جفافه وصدأه ، فعاد رطبا لامعا .
ولكم نحن بحاجة إلى دورات روحانية ممنهجة تبعا للسنة النبوية الصحيحة ، تهدف إلى ترقيق القلوب ، وإدماع العيون ، والدفع نحو التوبة ، والتذكير بالآخرة ، وتقييم ما فات ، وتجديد العهود والمواثيق على سبل الاستقامة .
إن الداعية الذي يظل بعيدا عن تلك المعاني الروحانية الإيمانية ، لحقيق عليه أن يخشى من تقلب قلبه ومرضه بأمراض مختلفة .
إن أحب القلوب إلى الله سبحانه قلب تمكنت منه ذلة وخوف فهو ناكس الرأس بين يدي ربه حياء وخجلا فإذا به يسجد سجدة المخلصين التائبين الخاضعين يجمع فيها معاني تقصيره وينيب فيها ويناجي ربه أن : أطمع في مغفرتك , وأتكل على عفوك , وأحسن الظن بك , وأرجو كرمك , وأطمع في سعة حلمك , ولا طريق لي إلا الاعتصام بك .
والداعية يفر من ضيق صدره بالهموم والغموم والمخاوف التي تحدث له في كل يوم , يفر من ضيق صدره إلى سعه فضاء بالثقة بالله , ويهرب من همومه وأحزانه إلى حسن الرجاء لجميل صنع الله ..
وأبواب الفرار إلى الله مفتوحة فلا ينبغي على المرء أن يكسل فليقم وليطرق الباب فمن أدام الطرق يوشك أن يفتح له .
والداعية الصالح يستشعر بالإشفاق طوال حياته , فهو يشفق على نفسه من الهوى ويشفق على عمله من الضياع , ويشفق على علمه من التفريط .
والمؤمن إذا استشعر الإشفاق عظم إليه ذنبه , وحببت إليه طاعته , واستفاد من كل دقيقة في عمره , وحرص على الإخلاص في كل عمله , قال تعالى : " وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين فمنّ الله علينا ووقانا عذاب السّموم إنا كنا من قبل ندعوه إنه هو البر الرحيم " .
والداعية إلى الله مخبت بين يدي ربه , متواضع ساكن , قد غلبت عصمته شهوته وغلبت نيته غفلته , وغلبت محبته لربه وحشته , فقهر شهوته باعتصامه بالله , وأيقظ نفسه بنيته الصالحة , وأنس بربه , وأكثر من ذكره , فلم يستوحش من قلة السائرين من حوله .
وهو مازال لائما لنفسه يهذبها وينقيها , ويروضها ويمد قلبه بمدد التوحيد الخالص فإذا ذكر الله اضطرب قلبه خوفا ورجاء , وإذا أصابه من أمر الدنيا شيء يضره رضي وصبر وحمد واسترجع , قال تعالى : " وبشر المخبتين الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم والصابرين على ما أصابهم والمقيمي الصلاة ومما رزقناهم ينفقون".
وهو في كل ذلك متبتل لربه مجتهد في العبادة يجعل نفسه وقفا لله , حتى إن عمل أعمال الدنيا فهو يعملها بنية صالحة لله سبحانه وتعالى, فقطع رغبة النفس في المدح , ورغبتها في الشهرة , ورغبتها في الإمارة والرئاسة , ورغبتها في العلو في الأرض .