أقبل شهر القرآن والمسلمون في شوق إليه، ليمسح عن قلوبهم همومَها وأحزانَها، ويروحها في ساعاته الندية، وأوقاته المباركة، في شوق إليه ليغسل عنهم عناء عام كامل مضَى، لنسموَ بالروح ونتطهر من ثقلة اللحم والدم، ولنضبط أوقاتَنا من جديد على أوقات الصلاة، فالإمساك مرتبط بالفجر، والإفطار مرتبط بالمغرب، حياةٌ تبدأ بالصلاة وتنتهي بالصلاة.
المسلمون في شوق إليك لتؤكد لهم أن النصر قرين الجهاد، ولا جهادَ إلا بصبر، ولا صبرَ إلا بثبات وتضحية، وعلى الرغم من أن المسلمين الأوائل كانوا يبذلون غاية جهدهم في العبادات خلال شهر رمضان، إلا أن هذا لم يمنعهم من أن يجاهدوا في سبيل الله، ويخوضوا أخطر المعارك الفاصلة، ويكون النصر حليفهم، على مدار التاريخ، فكم نحن في شوق إليك؟!
عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا جاء رمضانُ فُتحت أبواب الجنة، وغُلقت أبواب جهنم، وصُفدت الشياطين، ونادَى مناد من قبَل الحق سبحانه: يا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار وذلك في كل ليلة" (متفق عليه).
أعداء هذا الدين يصرون على ربط الإنسان بالأرض، وقطعه عن السماء، ويعملون على تعليق قلبه بمآرب الدنيا، وإبعاده عن طلب الآخرة، ويأبَى الإسلام إلا أن يسوق البشرية إلى الله، قال تعالى: (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ) (الذاريات: 50).
وأركان الإسلام عمل حقيقي في إيجاد اليقظة في النفوس، والصحوة في المجتمعات، والعبادات التي تكون هذه الأركان تدريبٌ جليل الأثر في تربية الأخلاق، وتقويم الطباع، وتهذيب النفوس.
وقول الله عز وجل (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ) (العنكبوت: من الآية45) خبر حق، فإذا رأيت مصليًا لا يعلو فوق تفاهات هذه الدنيا، ولا ينتهي عن منكراتها، فصلاته مجرد تمثيل وحركات لا حقيقة فيها.
وقول رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبه" (رواه البخاري)، وهذا خبر حق أيضًا، ومعناه أن الصيام الحقيقي يمسح آثار الماضي السيئ، ويمسح أكداره عن مرآة القلوب، فتعود مجلوةً نقيةً، ثم يستأنف الصائم حياةً تكاد ترفعُه وتلحقُه بالملأ الأعلى.
إن الأساس الأول لهذه العبادات هو أداء حق الله، والقيام بوظيفة العبودية، واعترافُ البشر بأن الله الذي خلقَهم ورزقهم يجب أن يعبدوه ويشكروه، إن جعل القلب يتعلق بربه يجعل المسلم إذا ملك الدنيا يسخرها لخدمة دينه، ويجمع المال والبنين ليكونا درعًا للحق، وعونًا للرسالة التي يؤمن بها، ويتحول إلى ذاكر لله بالغدو والآصال، ويضع نفسَه ومواهبَه وكل ما يملك مع رهبان الليل فرسان النهار، وصدق الله العظيم إذ يقول: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ* رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ ولا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ) (النور: 37).
وها هي الأيام تمضي ويقبل علينا شهر رمضان بخيراته وبركاته، وها هو النور يشرق من جديد، وينساب إلى القلوب، وها هي مشاعر الخير والبر والرحمة تتجدد، وها هي الآمال في غد مشرق، ومستقبل كريم، وفي ثقة في نصر الله لنا على أنفسنا أولاً، ثم على أعداء الإنسانية ثانيًا.
إن شهر رمضان يذكرنا برسالتنا الخالدة، والواقع يؤكد حاجة البشرية إليها، إن حاجة العالم إلى هذا الدين أهم من حاجته إلى الماء والدواء والهواء، لقد شغلتنا الدنيا الفانية عن الآخرة الباقية، وأحاطت بنا زخارفها ومباهجها، والرجل المؤمن في سورة غافر ينادي بأعلى صوته (وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ* يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ) (غافر: 38، 39).
إن من رحمات الله- عز وجل- أن جعل لنا في هذا الشهر العظيم محطةً نقف فيها طوال 30 يومًا، نقف مع أنفسنا، نحاسبها على تقصيرها، ونفتش عن منابع الإيمان في قلوبنا، فنجلوا الصدأ عنها، ورمضان مصحة للعلاج الروحي، ففي الحديث: "رغم أنف رجل دخل عليه رمضان ثم انسلخ فلم يغفر له" فمن لم يحصل المغفرة في رمضان فمتى يحصل عليها؟!
إن الإسلام يريد منا أن نعيش في هذا الشهر في جو خاص، نحصن فيه بيوتَنا وأنفسَنا، ونحسن الصلةَ فيه بخالقنا سبحانه وتعالى، روى ابن خزيمة والبيهقي أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: "واستكثروا فيه من أربع خصال: خصلتين ترضون بها ربكم، وخصلتين لا غنى بكم عنهما، فأما الخصلتان اللتان ترضون بهما ربكم، فشهادة أن لا إله إلا الله وتستغفرونه، وأما الخصلتان اللتان لا غناء بكم عنهما، فتسألون الله الجنة، وتعوذون به من النار، ومن سقى صائمًا سقاه الله من حوضه شربة لا يظمأ بعدها أبدًا".