"الحوكمة".. الحكم الرشيد للشركات
2005/09/27 عبد الحافظ الصاوي*
انتقل مفهوم "الحوكمة Governance"، من السياسة وإدارة الدولة إلى الشركات، حيث عرفته الأوساط العلمية، بأنه الحكم الرشيد الذي يتم تطبيقه عبر حزمة من القوانين والقواعد التي تؤدي إلى الشفافية وإعمال القانون.
وأصبح الحديث عن "حوكمة الشركات"، من أجل كفاءة اقتصادية عليا، ومعالجة المشكلات الناتجة عن الممارسات الخاطئة من قبل الإدارة الخاصة بالشركات والمراجعين الداخليين أو الخارجيين أو من قبل تدخل مجالس الإدارة، بما يعوق انطلاق هذه الشركات.
الحاجة لهذا المفهوم -الذي استقر مجمع اللغة العربية في مصر على لفظته (حوكمة)- جاء من لجوء الشركات إلى أسواق المال من أجل التمويل، سواء في شكل إصدار أسهم أم سندات.
إرشادات للشفافية
الخبراء الاقتصاديون يرون أن الحوكمة هي مجرد إرشادات تطرح بشكل اختياري على الشركات الراغبة في تطبيقها، وليس لها صفة الإلزام، ولكن التطبيق يؤدي إلى إظهار الشركة بشكل أكثر شفافية، ويزيد من مصداقيتها في أسواق المال.
وتحدد "منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية" إطارا تفصيليا لكي تستوفي الشركات شروط الحوكمة، ومن أهمها:
* توفير الحماية للمساهمين في هذه الشركات، وأن يسهل لهم ممارسة حقوقهم.
* معاملة متساوية لكافة المساهمين، سواء كانوا وطنيين أو أجانب، كما ينبغي إتاحة الفرصة لكافة المساهمين للحصول على تعويض فعال عن انتهاك حقوقهم.
* ضمان القيام بالإفصاح السليم في الوقت المناسب عن كافة الموضوعات المهمة المتعلقة بالشركة، بما في ذلك المركز المالي، والأداء، وحقوق الملكية.
* ضمان التوجيه والإرشاد الإستراتيجي للشركة، والرقابة الفعالة لمجلس الإدارة على إدارة الشركة، ومحاسبة مجلس الإدارة عن مسئوليته أمام الشركة والمساهمين.
ولا يمكن فصل ملامح الحوكمة تلك عن المناخ العام الذي تعمل فيه الشركات. فتذكر منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية "أن حوكمة الشركات ليست سوى جزء من محيط اقتصادي أكثر ضخامة تعمل في نطاقه المنشآت، والذي يضم، على سبيل المثال، سياسات الاقتصاد الكلي ودرجة المنافسة في أسواق المنتج، والبيئة القانونية والتنظيمية".
يضاف إلى ذلك عوامل، مثل: أخلاقيات الأعمال، ومدى إدراك الشركات بالمصالح البيئية والاجتماعية للمجتمعات التي تعمل فيها الشركة، والتي يمكن أن يكون لها أثر على سمعتها، ونجاحها في الأجل الطويل (لمزيد من التفاصيل انظر موقع الحوكمة).
لماذا المفهوم؟
يمكن القول إن ثمة عوامل ارتبطت بالمناخ الاقتصادي في الدول الغربية ساهمت في خروج مفهوم حوكمة الشركات إلى العلن، منها:
1- مع انفجار الأزمة المالية الآسيوية في عام 1997، أخذ العالم ينظر نظرة جديدة إلى حوكمة الشركات. والأزمة المالية المشار إليها، قد يمكن وصفها بأنها كانت أزمة ثقة في المؤسسات والتشريعات التي تنظم نشاط الأعمال والعلاقات فيما بين منشآت الأعمال والحكومة. وقد كانت المشاكل العديدة التي برزت إلى المقدمة في أثناء الأزمة تتضمن عمليات ومعاملات الموظفين الداخليين والأقارب والأصدقاء بين منشآت الأعمال والحكومة، وحصول الشركات على مبالغ هائلة من الديون قصيرة الأجل في نفس الوقت الذي حرصت فيه على عدم معرفة المساهمين بهذه الأمور وإخفاء هذه الديون من خلال طرق ونظم محاسبية "مبتكرة"، وما إلى ذلك.
2- مع تصاعد قضايا الفساد الشهيرة في كبرى الشركات الأمريكية مثل "أنرون" وغيرها، بدأ الحديث عن حوكمة الشركات؛ حيث إن القوائم المالية لهذه الشركات كانت لا تعبر عن الواقع الفعلي لها، وذلك بالتواطؤ مع كبرى الشركات العالمية الخاصة بالمراجعة والمحاسبة؛ وهو ما جعل منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية تصدر مجموعة من الإرشادات في شأن حوكمة الشركات بشكل عام.
3- زاد من حدة الدعوة إلى حوكمة الشركات، ممارسات الشركات متعدية الجنسية في اقتصاديات العولمة، حيث تقوم بالاستحواذ والاندماج بين الشركات من أجل السيطرة على الأسواق العالمية. فرغم وجود الآلاف من الشركات متعدية الجنسية فإن هناك 100 شركة فقط هي التي تسيطر على مقدرات التجارة الخارجية على مستوى العالم، من خلال ممارستها الاحتكارية.
4- اكتسب المفهوم أهمية كبرى بالنسبة للديمقراطيات الناشئة؛ نظرا لضعف النظام القانوني الذي لا يمكن معه إجراء تنفيذ العقود وحل المنازعات بطريقة فعالة. كما أن ضعف نوعية المعلومات تؤدي إلى منع الإشراف والرقابة وتعمل على انتشار الفساد وانعدام الثقة.
ملاحظات على الحوكمة
كغيره من المفاهيم، يتم عرض "حوكمة الشركات" في منطقتنا العربية، على أنها الحل السحري لمشاكل شركاتنا، للخروج من قمقم التخلف الاقتصادي الذي تعيشه دولنا. وحقيقة الأمر أن هذا المفهوم -وبعيدا عن نظرية المؤامرة- جاء من نتاج ممارسات مجتمعات وتجارب مختلفة، وما نحتاجه هو وجود رؤية كلية تتسم بالذاتية، وتستفيد من تجارب الآخرين، وذلك حرصا على الوقت والجهد والمال من التبديد.
وتهدف الحوكمة إلى أداء أكثر شفافية للشركات، بما يجعلها قادرة على حصد ما تشاء من تمويل من أسواق المال، وفي هذا الصدد يضرب عبد الحميد إبراهيم -مستشار وزير الاستثمار المصري لشئون التمويل، رئيس الهيئة العامة لسوق المال في مصر- مثلا على إحدى الشركات المصرية التي استطاعت خلال فترة 5 سنوات أن تغير من هيكلها المالي وشكلها القانوني بشكل كبير حيث وصل رأس مالها في عام 2005 إلى نحو 30 مليار جنيه (الدولار= 5.80 جنيهات تقريبا)، بعدما كان بضعة ملايين من الجنيهات في عام 1999.
كما تغير شكل الشركة القانوني من شركة توصية بسيطة إلى مساهمة، حيث استفادت من عملية إهلاك السندات ذات الفائدة المرتفعة، بأخرى أقل فائدة من خلال الثقة التي استطاعت أن تحصل عليها بتطبيقها مبادئ الحوكمة.
إلا أن المفارقة في منطقتنا العربية هي وجود نسبة كبيرة من الشركات في تصنيف الشركات الصغيرة والمتوسطة ومعظمها شركات عائلية تعتمد في مسألة التمويل على الاقتراض من البنوك أو التمويل الذاتي، والقليل منها يلجأ لسوق المال.
كما أن اللافت هو اصطدام حوكمة الشركات بعملية خصخصة شركات القطاع العام في دول كمصر والجزائر، لا سيما أن هذا المفهوم لا يفرق بين شركة مملوكة للقطاع الخاص أو الدولة.
وإذا نجحت شركات قطاع الأعمال العام في تطبيق قواعد الحوكمة كما حدث بشكل نموذجي في بعض الشركات في مصر باعتراف الخبراء الأجانب، فإن ذلك يعني أنها قد حققت معايير الكفاءة الاقتصادية. فلماذا يتم خصخصة هذه الشركات؟.
الخبير الاقتصادي المصري الدكتور محمد عمران يرى أن شركات قطاع الأعمال العام أو المملوكة للدولة يمكنها أن تحقق معايير الكفاءة الاقتصادية، ولكن في المدى القصير.
أما في الأجل الطويل -كما يقول عمران- فلا تستطيع هذه الشركات تحقيق الأداء الكفء؛ نظرا للممارسات السلبية من قبل القيادات السياسية، بما يجعلها تنحرف عن مسارها الصحيح. ومن هنا، فإن الحوكمة تجعل مهمة الحكومة في الخروج من السوق أسهل في بيع شركاتها بالمقابل المناسب.
لكن البعض الآخر يرد على ذلك بأن المناخ العام هو الذي يجعل الفترة الزمنية لأداء جيد للشركات المملوكة للدولة تطول أو تقصر، خاصة أن هذه الشركات تعمل على خلق نوع من التوازن في الأسواق وتهذب سلوك القطاع الخاص. ولنا المثل في النموذج الصيني؛ فالشركات هناك تديرها الدولة، ومع ذلك هي صانعة النمو الاقتصادي للبلاد.
أين الخلل؟
وإذا كانت الحوكمة تستطيع تطوير أداء شركات مملوكة للدولة، وأخرى للقطاع الخاص، فلماذا لا يتم تعميم التجربة على شركات القطاع العام وكذلك الخاص مما يجعلها نواة لتحريك المياه الراكدة في بحر التنمية الآسن في منطقتنا؟.
الإجابة هي أن المشكلة في المناخ العام؛ فالحوكمة لم تضف جديدا؛ فكل مبادئها هي حقوق سواء للمساهمين أم العاملين أم المحاسبية الدقيقة الشفافة، وهي أمور تنظمها العديد من القوانين، ولكن للأسف لا تطبق، أو يتم الالتفاف عليها في كثير من الدول العربية. ويكون الاتجاه الخطأ البحث عن مصطلح جديد لبيئة مغايرة نناقشه، ونفرد له الندوات والمؤتمرات وننصرف عن الحلول الواضحة بإعمال دولة القانون، وأن "العدل أساس الملك".
* باحث اقتصادي