لا يزعجنا أن تتابع الزوابع على مصر خلال الأسبوع الأخير، لكن المزعج حقا أنها جميعا لا علاقة لها بالآمال المعلقة على الثورة وإنها بمثابة استدراج لنا لخوض معارك عدة على الجبهة الغلط.
(1)
خذ مثلا تداعيات جريمة قتل 16 ضابطا وجنديا مصريا فى رفح، التى أصابتنا من حيث لا نحتسب. فسمَّمت العلاقة بين مصر وقطاع غزة. وأفسدت المناخ الإيجابى الذى لاح فى الأفق بعد الثورة، الأمر الذى هيأ فرصة تصويب آثار التوتر الذى فرضه النظام السابق. إذ ما أن وقعت الواقعة حتى أشاعت بعض الأبواق فى مصر أن غزة لها صلة بالجريمة، رغم أن من الإسرائيليين ــ رونى دانئيل معلق الشئون العسكرية فى القناة الإسرائيلية الثانية وألون بن دافيد معلق الشئون العسكرية فى القناة العاشرة مثلا ـ من أكد أنه لا يوجد لدى إسرائيل أى دليل يربط بين غزة وبين ما جرى فى رفح.
شغلت الجريمة الرأى العام فى مصر، وأسهم الشحن الإعلامى المضاد فى تأليب الشعب المصرى على الفلسطينيين، وكانت هيئات التقدير الاستراتيجى فى إسرائيل والأجهزة الأمنية المعنية قد اعتبرت أن بروز تعاطف المصريين مع الفلسطينيين بعد الثورة من شأنه يقيد حرية إسرائيل فى القيام بأى عمليات عسكرية ضد قطاع غزة. وهو هاجس تراجع نسبيا بعد وقوع الجريمة وحملات التعبئة المضادة للفلسطينيين التى ترتبت عليها. ولا يقل أهمية عن ذلك أن وقوع الجريمة أربك السياسة الخارجية المصرية ووضعها فى موقف حرج. ذلك أنه وفر ظرفا قلص من قدرة القيادة الجديدة فى مصر على إعادة تقييم السياسة الخارجية وإعادة بلورتها على شكل مغاير لما كانت عليه فى ظل النظام السابق. وهو ما عبر عنه بشكل فج ودون مواربة وزير الخارجية الإسرائيلى أفيجدور ليبرمان حين قال إن مصر مطالبة بتعلم الدرس مما جرى فى رفح لمواجهة أعدائها الحقيقيين. وكان يقصد بإشارته المقاومة الفلسطينية فى غزة.
لقد سارعت إسرائيل إلى توظيف الجريمة من خلال ابتزاز الرئيس الأمريكى باراك أوباما. إذ شرع ديوان نتنياهو فى الاتصال بالقيادات الجمهورية والديمقراطية فى الكونجرس، لمطالبة الرئيس الأمريكى بالضغط على القيادة المصرية ومطالبتها بعدم إحداث أى تغيير على السياسة التى كانت متبعة فى ظل النظام السابق. خصوصا فيما تعلق بظروف الحصار والعلاقة مع حركة حماس أو حتى مع إيران. وكانت الرسالة واضحة فى أن المطلوب أن تظل السياسة الخارجية لنظام مبارك مستمرة بعد الثورة، بحيث تبقى أسيرة مربع «الاعتدال» المطلوب أمريكيا وإسرائيليا، ولا تتقدم بأى خطوة إلى الأمام.
(2)
خذ مثلا الضجة المثارة حول ما سُمى «بأخونة» الإعلام وتقييد حرية التعبير. والمشكلة الأولى أثيرت بمناسبة قرار مجلس الشورى تعيين 50 رئيس تحرير جديدا للصحف القومية، والثانية برزت بعد وقف بث إحدى القنوات الفضائية. وهما القضيتان اللتان احتلتا حيزا واسعا من التغطية والتعليق والضجيج فى مختلف وسائل الإعلام، فى حين أن الأولى فرقعة أخطأت الهدف، والثانية مجرد زوبعة فى فنجان.
بطبيعة الحال فإن المنطق المهنى لا يقبل أن يتولى مجلس الشورى تعيين رؤساء تحرير الصحف القومية أو غير القومية، كما أن أى عقل سياسى أو وطنى لا يقبل فكرة أخونة الإعلام. ولكن المشكلة الحقيقية لم تكن فى القرار الذى اتخذته اللجنة المختصة بمجلس الشورى بخصوص التعيينات، لكنها تكمن فى مبدأ اختصاص المجلس بهذه المهمة. وهو اختصاص نص عليه القانون، الذى اعتبر الصحف القومية مملوكة لذلك المجلس. الأمر الذى كان غطاء لسيطرة الحكومة والأجهزة الأمنية على الصحف القومية. لذلك فإنه حين طعن فى ممارسة مجلس الشورى لذلك الاختصاص، فإن المحكمة الإدارية العليا وتقرير هيئة المفوضين رفضا الطعن، لأن ممارسته تمت فى حدود التفويض القانونى. لذلك فإن الإعلاميين حين وجهوا سهامهم إلى مجلس الشورى فإنهم أخطأوا الهدف، لأن المشكلة فى القانون الذى خوله ذلك الاختصاص، وليست فى المجلس الذى باشره. وهو ما يسوغ لنا أن نقول إن الضجيج الذى أثير شغل الناس بمعركة نخبوية مغلوطة.
مسألة الأخونة أيضا تبين أنها جزء من الكيد السياسى ولا أصل لها فى الواقع. فرؤساء التحرير الذين تم تغييرهم ينتمى أغلبهم إلى النظام السابق، بمعنى أنهم كانوا جزءا منه، وأن اختيارهم تم بتزكية من جهاز أمن الدولة، وقد ظل وجودهم محل قبول ورضا من جانب الذين أثاروا الضجيج وأطلقوا عاصفة النقد. صحيح أننى أستغرب الأسلوب الذى اتبع فى محاولة تغييرهم، حين وضعت معايير لاختيار بدائلهم وفتح الباب لترشح من توسم فى نفسه جدارة بشغل المنصب، وهو أمر غير مسبوق فى المهنة، إلا أن ذلك كان اجتهادا فى ممارسة الاختصاص بدا أقل سوءا من أن يتولى جهاز أمن الدولة ترشيح رؤساء التحرير. إلا أن ما يهمنى فى الشق المتعلق بالأخونة أن المرشحين جميعا ــ 241 صحفيا ــ لم يكن بينهم عضو فى جماعة الإخوان. وكانت النتيجة أن الخمسين الذين وقع عليهم الاختيار لم يكن أحد منهم عضوا فى الجماعة، بل إن منهم من نعرف أن لهم خصومة معها، ومنهم من كان زبونا فى القناة التى تم إغلاقها.
كما أن الثورة على مجلس الشورى كانت نموذجا للمعركة الغلط، فإن إلغاء تصريح القناة بدا نموذجا للإجراء الغلط، الذى لا علاقة له بحرية التعبير التى هى الآن أوسع منها فى أى عهد عرفته مصر فى تاريخها الحديث. ذلك أننى تمنيت أن تحاسب القناة أو غيرها من منابر الانفلات والتحريض الإعلاميين أمام القضاء وليس من خلال الأساليب البيروقراطية الملتوية (هيئة الاستثمار مثلا).
فى هذا الصدد ينبغى أن نعترف بتداخل الخطوط بين حرية التعبير وبين سب رموز الحكم الراهن والحط من هيبة الدولة، الأمر الذى وضعنا بإزاء حالة من الانفلات الإعلامى الفج، الذى سمح مثلا بوصف رئيس الجمهورية بأنه جبان وعميل للأمريكان، كما سمح لمحرر القناة المذكورة بالإعلان عن إهدار دم رئيس الجمهورية، إلى غير ذلك من المواقف والعناوين التى يستحى المرء من ذكرها وحفلت بها صحف الإثارة التى أدارت ظهرها للثورة وتفرغت للكيد السياسى وإشغال الناس بالمعارك الوهمية والمغشوشة.
(3)
خذ أيضا مشكلة انقطاع التيار الكهربائى التى عانى منها ملايين المصريين فى الأسبوع الماضى حتى أثارت غضبهم ونقمتهم، خصوصا حين تزامن ذلك مع موجة الحر وشهر الصيام. ليس لدينا ما يدل على أن ذلك كان متعمدا، وأغلب الظن أنه تم لأسباب أخرى اجتمعت مع بعضها البعض فى الآونة الأخيرة. منها ما تعلق بالتحميل الزائد وارتفاع معدلات الاستهلاك. ومنها ما تعلق بحوادث سرقة الكابلات التى قرأت أنها هددت بإشاعة الإظلام فى صعيد مصر كله. وربما منها أيضا ما تعلق بالنقص فى المازوت المستورد المطلوب لتشغيل بعض المحطات، أو بالحاجة إلى الصيانة والإحلال والتجديد... إلخ.
أيا كان السبب فالشاهد أننا فوجئنا أخيرا بمشكلة فُرضت علينا ولم تكن فى الحسبان. وقد قيل إن المشكلة كانت قائمة فى بعض المحافظات الأخرى التى لم يكن صوتها مسموعا، لكنها حين ضربت القاهرة الكبرى علا صوت الاحتجاج مدويا فى الفضاء المصرى، حيث تجاوز أثرها نكد البيوت والتسبب فى انقطاع المياه عن الطوابق العليا، وشمل تعطيل مترو الأنفاق وإيقاف تعاملات البورصة والبنوك.
ما يلفت النظر فى هذا الصدد أن السلطات المعنية التزمت الصمت إزاء ما يجرى، وباستثناء تصريحات مبتسرة صدرت عن بعض المسئولين ردا على أسئلة الإعلاميين، فإننا لم نجد مسئولا كبيرا يخرج على الناس ويشرح لهم الحقيقة بصراحة وشفافية، ويعطيهم أملا فى حل المشكلة فى أجل يحدده. أو على الأقل يحدد لهم ما يستطيع أن يفعله وما يتجاوز قدراته (النقص فى موارد العملة الصعبة مثلا الذى يعطل الاستيراد من الخارج).
قل مثل ذلك فى حوادث قطع الطرق، التى تفشت فى الآونة الأخيرة. بحيث أصبح بمقدور أى جماعة من الغاضبين لأى سبب أن يجتمعوا فيما بينهم ويقرروا قطع الطريق العام لإيصال صوتهم إلى الذين لا يسمعونه. ذلك غير الخارجين على القانون الذين باتوا يستسهلون قطع الطرق للاستيلاء على السيارات الفارهة أو على ما بحوزة العابرين. وهو ما أصبح يقلق كثيرين، خصوصا حيث يلاحظون أن الأمر لا يعالج بالجدية والحزم اللازمين. ومن الجدية أن يشعر الناس بأن لديهم وسائل أخرى لإيصال أصواتهم والاستماع إلى مشاكلهم. ومن الحزم أن تشدد عقوبة قطع الطرق إذا ما لزم الأمر، وأن تشترك القوات المسلحة فى تأمينها.
(4)
لا أريد أن أقلل من شأن هذه المشكلات، لكننى أرجو ألا نختلف على اعتبارها مشكلات صغرى وفرعية إذا قورنت بالتحديات الكبرى التى انطلقت الثورة لمواجهتها والنهوض بها. سواء تعلقت بالتنمية أو الحرية أو العدالة الاجتماعية. لذلك فأخشى ما أخشاه أن تستهلك المعارك الصغرى طاقتنا وتصرفنا عن خوض المعارك الكبرى. لا يقل عن ذلك سوءا أن يغرق الوطن فى الاستقطاب بين القوى السياسية، الأمر الذى يقوض الإجماع الوطنى ويشل القدرة على أى تقدم باتجاه تحقيق شىء من أهداف الثورة.
وإذ يتوجب علينا أن نتحلى بشجاعة ممارسة النقد الذاتى لتحديد مسئولية كل طرف عن الارتباك والخلل الماثلين، فإننا أيضا لا نستطيع أن نعفى النظام السابق من المسئولية عن تخريب وتدمير مؤسسات المجتمع وقواه الحية عبر ممارساته التى استمرت ثلاثين عاما. وهو ما أصابها بدرجات مختلفة من التشوّه والإعاقة. ولست أشك فى أن تلك الإعاقة تعد مصدرا أساسيا للحروب الأهلية الباردة المستعرة فى مصر منذ قامت الثورة، الأمر الذى غذى شهوة الاقتتال وكاد يبدد الأمل فى التوافق حول تحقيق حلم البناء والتقدم.
لقد بات الإنذار والتحذير واجبين، من أن الاقتتال الراهن لن يكون فيه منتصر ومهزوم، ولكن المحصلة التى قد تفاجئ الجميع أن الكل سيهزم فى نهاية المطاف، والوطن أولهم. وفى هذه الحالة لن نكون بحاجة إلى مؤامرة لإجهاض الثورة، لأن حروبنا الأهلية ستوفر للمتآمرين جهدهم وتحقق لهم مرادهم.