إياك والكذب - من فوائد ابن القيم رحمه الله
إياك وَالْكذب فَإِنَّهُ يفْسد عَلَيْك تصور المعلومات على مَا هِيَ عَلَيْهِ، وَيفْسد عَلَيْك تصورها وَتَعْلِيمهَا للنَّاس. فَإِن الْكَاذِب يصور الْمَعْدُوم مَوْجُودا وَالْمَوْجُود مَعْدُوما وَالْحق بَاطِلا وَالْبَاطِل حَقًا وَالْخَيْر شرا وَالشَّر خيرا، فَيفْسد عَلَيْهِ تصَوره وَعلمه عُقُوبَة لَهُ، ثمَّ يصور ذَلِك فِي نفس الْمُخَاطب المغتر بِهِ الراكن إِلَيْهِ فَيفْسد عَلَيْهِ تصَوره وَعلمه. وَنَفس الْكَاذِب معرضة عَن الْحَقِيقَة الْمَوْجُودَة نزاعة إِلَى الْعَدَم مُؤثرَة للباطل، وَإِذا فَسدتْ عَلَيْهِ قُوَّة تصَوره وَعلمه الَّتِي هِيَ مبدأ كل فعل إرادي فَسدتْ عَلَيْهِ تِلْكَ الْأَفْعَال وسرى حكم الْكَذِب إِلَيْهَا فَصَارَ صدورها عَنهُ كصدور الْكَذِب عَن اللِّسَان فَلَا ينْتَفع بِلِسَانِهِ وَلَا بِأَعْمَالِهِ وَلِهَذَا كَانَ الْكَذِب أساس الْفُجُور كَمَا قَالَ النَّبِي إِن الْكَذِب يهدي إِلَى الْفُجُور وَإِن الْفُجُور يهدي إِلَى النَّار. وَأول مَا يسري الْكَذِب من النَّفس إِلَى اللِّسَان فيفسده ثمَّ يسري إِلَى الْجَوَارِح فَيفْسد عَلَيْهَا أَعمالهَا كَمَا أفسد على اللِّسَان أَقْوَاله فَيعم الْكَذِب أَقْوَاله وأعماله وأحواله فيستحكم عَلَيْهِ الْفساد ويترامى داؤه إِلَى الهلكة إِن لم يدْرِكهُ الله بدواء الصدْق يقْلع تِلْكَ من أَصْلهَا. وَلِهَذَا كَانَ أصل أَعمال الْقُلُوب كلهَا الصدْق وأضدادها من الرِّيَاء وَالْعجب وَالْكبر وَالْفَخْر وَالْخُيَلَاء والبطر والأشر وَالْعجز والكسل والجبن والمهانة وَغَيرهَا أَصْلهَا الْكَذِب. فَكل عمل صَالح ظَاهر أَو بَاطِن فمنشؤه الصدْق وكل عمل فَاسد ظَاهر أَو بَاطِن فمنشؤه الْكَذِب وَالله تَعَالَى يُعَاقب الْكذَّاب بِأَن ويقعده ويثبطه عَن مَصَالِحه ومنافعه ويثيب الصَّادِق بِأَن يوفقه للْقِيَام بمصالح دُنْيَاهُ وآخرته فَمَا استجلبت مصَالح الدُّنْيَا وَالْآخِرَة بِمثل الصدْق وَلَا مفاسدها ومضارهما بِمثل الْكَذِب قَالَ تَعَالَى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقين) وَقَالَ تَعَالَى(هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقين صدقهم) وَقَالَ(فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَهُم) وَقَال (وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ).
الفوائد