غفلة المفتي
الشيخ الدكتور منصور بن حمد العيدي
قال ابن القيم رحمه الله: (ذكر أبو عبد الله بن بطة في كتابه في الخلع، عن الإمام أحمد أنه قال: لا ينبغي للرجل أن ينصب نفسه للفتيا، حتى يكون فيه خمس خصال:
أولها: أن تكون له نية، فإن لم يكن له نية لم يكن عليه نور، ولا على كلامه نور.
والثانية: أن يكون له علم، وحلم، ووقار، وسكينة.
الثالثة: أن يكون قويًا على ما هو فيه، وعلى معرفته.
الرابعة: الكفاية، وإلا مضغه الناس.
الخامسة: معرفة الناس.
وهذا مما يدل على جلالة أحمد، ومحله من العلم والمعرفة، فإن هذه الخمسة هي دعائم الفتوى، وأي شئ نقص منها ظهر الخلل في المفتي بحسبه) .
ثم أخذ رحمه الله في شرح الخامسة، فقال: (وأمَّا قوله: "الخامسة معرفة الناس"، فهذا أصل عظيم يحتاج إليه المفتي والحاكم، فإن لم يكن فقيهًا فيه، فقيهًا في الأمر والنهي، ثم يطبق أحدهما على الآخر، وإلا كان ما يفسد أكثر مما يصلح، فإنه إذا لم يكن فقيهًا في الأمر، له معرفة بالناس، تصور له الظالم بصورة المظلوم وعكسه، والمحق بصورة المبطل وعكسه، وراجَ عليه المكر، والخداع، والاحتيال، وتصور له الزنديق في صورة الصديق، والكاذب في صورة الصادق، ولبس كل مبطلٍ ثوب زور تحتها الإثم، والكذب، والفجور، وهو لجهله بالناس وأحوالهم، وعوائدهم، وعرفياتهم، لا يميز هذا من هذا، بل ينبغي له أن يكون فقيهًا في معرفة مكر الناس، وخداعهم، واحتيالهم، وعوائدهم، وعرفياتهم، فإنَّ الفتوى تتغير بتغير الزمان، والمكان، والعوائد، والأحوال، وذلك كله من دين الله، كما تقدم بيانه وبالله التوفيق) .
يا الله! ما أشد حاجة المفتين اليوم لتأمل هذا الأصل العظيم، في هذا العصر الذي اختلط فيه الحق بالباطل، وكثر الكلام فيه من المؤهل وغير المؤهل، وظهر جليًا إعجاب كل ذي رأي برأيه، وعمد فيه أهل الباطل إلى تزويق باطلهم بكل طريق ووسيلة؛ حتى تمكنوا من خداع بعض المنتسبين للعلم الشرعي، فمرروا من خلالهم ما يريدون تحقيقه، ويؤمِّلون حصوله، ممَّا يناقض الشرع المطهر على الحقيقة.
كان العلماء والمفتون يحذرون من غفلة الصالحين من الوعاظ والقصاص، فأصبحنا نشتكي من غفلة المفتين.
إنَّ كثيرًا من المسائل العصرية هي ممَّا تخفى مآخذها، ولا يعلم المتصدر للفتوى مقاصد السائل في عرضها، فيتعامل معها غافلًا عن غرض السائل، جاهلًا بحقيقة حاله، غير مدرك لمآلات فتواه.
نعم، قد يكون عالـمًا بالأمر والنهي – كما قال ابن القيم – لكنه للأسف! جاهل بحقيقة الصراع بين من يريد ضياء الدين، وبين من يريد ضياع الدين.
يُستغفل بعض المفتين فيُسأل عن حكم رياضة النساء – مثلاً – فيجيب بكل بساطة أنه لا يوجد في الشرع ما يمنع ذلك. وقد يتطوع فيستدل بمسابقة النبي عليه الصلاة والسلام لعائشة رضي الله عنها، ولا يعلم فضيلته أن المستفتي يريد انتزاع فتوى منه؛ يتكأ عليها في مشاركة النساء في الألعاب الاولمبية!
وبعض المفتين يظن أنه سيكون حصيفًا محتاطًا؛ إذا أردف حكمه بجملة من الشروط والضوابط، ولم يتفطن أن كل هذه الشروط والضوابط مصيرها الإهمال، وسيُصدَّر اسمه في كل محفل على أنه من جملة المـُبيحين.
لا يُعذر المفتي؛ وهو يرى الواقع لا يحفل بضابط ولا شرط.
إن القوم الآن يكذبون على أهل الفتوى جهارًا نهارًا، أتراهم سيتورعون فيُحافظون على بنيان الفتوى بقيودها ومحترزاتها؟!
ليس مطلوبًا من المفتي أن يمنع ويُحرِّم كل شيء؛ حتى لا تُستغلَّ فتواه، كلا كلا.
لكن عليه أن يتأمل مليًّا في هذا الشرط الذي ذكره الإمام أحمد، وشرحه ابن القيم، فإن عجز عن مضامينه فليسعه السكوت، وإلا فقد يجني على نفسه، بل على الأمة جناية عظيمة وهو لا يشعر، وما الفتوى المؤدية لإلغاء الخلافة عنا ببعيد .
وقد يستشكل بعض الناس؛ فيظن أن وضع الضوابط لا محل له في الشرع.
وهذا الظن في غير محله، فالشروط لها اعتبارها، غير أن المفتي ينبغي له أن يستحضر أن بعض الشروط لا يمكن تطبيقه، وبعضها يُهمل عادة ويُتناسى، بل بعض الضوابط ليس لها في الشرع أصلٌ.
خذ مثالًا على ما سبق: المشاركة النسوية في الأولمبياد. حيث وُضع لذلك شرط الحجاب، واللباس المحتشم، وشرط موافقة ولي الأمر!!
فشرط الحجاب لا يمكن تطبيقه؛ ذلك أن للزي في هذه الألعاب شروطه الدولية التي لا يستطيع أحد أن يتجاوزها، وهل يُتصور أن المرأة ستدخل حوض السباحة، أو مسابقة الجري بعباءتها؟!
وأما موافقة ولي الأمر فالواقع أنه لا اعتبار له، فليس هو من يُحلل الحرام، فلو وافق الولي مثلاً على خلع ابنته لحجابها، أو سفرها بلا محرم فلن يُغيِّر ذلك من حكم الشارع شيئًا، فما حرَّمه الله على المرأة لا يبيحه أولياؤها؛ ولو اجتمعوا، فهذا الضابط إما جهل أو خداع من صاحبه، لا ينبغي أن ينطلي على أحد، فضلًا أن ينطلي على المفتي.
وتعجب من بعض الناس حين يغفل ويفرح بهذه الشروط، بل قد يُسوِّق لها – ونحن نفترض سلامة نيته – كيف يجهل طبيعة مشاركة النساء في هذه الألعاب؟! وما وصلت إليه؟! وكيف غاب عنه المقصد الأصلي من الإلحاح على مشاركة النساء؟! وإلى أي حدٍّ نسي قطعي النصوص المـُحذِّرة من طاعة المشركين، وإرادتهم السوء بنا؟!
وأذكر هنا ما عمد إليه بعض المنتسبين للشرع، حين وضع لجواز الاختلاط جملة من الضوابط، وسرعان ما تخلى عنها هو عمليًا فصار يُذكر من جملة مجوزي الاختلاط، ثم انتقلنا بعد ذلك لمرحلة تجويز الاختلاط، ووصف مانعه بالتشدد.
ولهذا كله صارت عبارة (وفق الضوابط الشرعية) عبارة مستهلكة، لا قيمة لها يُتندَّر من صاحبها.
إن المفتي – وهو يدلي بفتواه – عليه أن يتنبه لمقام فتواه أهو في مجلس علمي، أو حديث صحفي، وهل هو في أمر عام أو خاص؟ وهل السائل خلي الذهن مريد للحق أو متصيد.
وإذا كان ابن عمر رضي الله عنه يمتنع عن الإجابة حتى لا يكون جسرًا لجهنم في فتوى خاصة لا يتعدَّى ضررها، فماذا نقول عن فتاوى تهمُّ العامة، تطير في الآفاق، يحصل بها من الشر ما قد يفوق التصور؟! لا شك أن الأمر والحالة هذه أشد وأفظع.
فيا أيها المفتي لا يؤتى الإسلام من قبلك.