إنها والله الدار التي يعجز عن وصفها الواصفون، مهما أوتوا من جمال الصياغة، وروعة التعبير، وكيف يفلح في وصفها واصف؟! وقد قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: (قال الله تعالى: أعددت لعبادي الصالحين: ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
واقرؤوا إن شئتم:
{فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة : 17][رواه البخاري].
فهل عرفتِ الجنة؟!
إنها دار خلود وبقاء، لا فيها بأس ولا شقاء، ولا أحزان ولا بكاء، لا تنقضي لذاتها، ولا تنتهي مسراتها، كل ما فيها يذهل العقل، ويسحر الفكر، ويسكر الرشد، ويصرع اللب.
هي جنة طابت وطاب نعيمها فنعيمها باق وليس بفان
هي نور يتلألأ، وريحانة تهتز، وقصر مشيد، ونهر مطرد، وفاكهة نضيجة، وزوجة حسناء جميلة، وحلل كثيرة في مقام أبدًا، في حبرة ونضرة, في دور عالية سليمة بهية، تتراءى لأهلها، كما يتراءى الكوكب الدري الغائر في الأفق.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله, مم خلق الخلق؟ قال: (من الماء)، قلت: ما بناء الجنة؟ قال: (لبنة من فضة، ولبنة من ذهب, ملاطهاالمسك الأذفر، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت، وتربتها الزعفران, من دخلها ينعم فلا يبأس، ويخلد فلا يموت، لا تبلى ثيابهم، ولا يفنى شبابهم) [صححه الألباني].
فيا لها من لذة، وياله من نعيم:
{لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران : 15].
وجنات عدن زُخرفت ثم أُزلفت لقوم على التقوى دوامًا تبتلوا
بها كل ما تهوى النفوس وتشتهي وقرة عين ليس عنها تَحُولُ
أختي, هل يعقل أن يدرك عقل المرء هذا النعيم، ثم يزهد فيه؟ هذا داعي الخير يناديك، ومنادي الفلاح يناجيك:
{وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران : 133]
فسارعي إلى المغفرة والملك العظيم، فقد دعاكِ البشير.
على أبواب الجنان
تعالي بنا يا حبيبتي في الله, ندخل معا إلى الجنة، تعال نطل عليها في الدنيا, عبر نوافذ ربانية من كتاب الله تعالى، وأخرى نبوية من سنة حبيبه صلى الله عليه وسلم؛ علَّ قلوبنا تتحرك؛ فتنقاد نفوسنا لربها؛ لتستقيم على سلوك طريقه حتى الممات؛ فنكون من أهلها يوم نلقاه، وذلك هو الفوز العظيم.
أخيتي، ها هم عباد الرحمن قد عبروا الصراط بسلام، وازدحموا أمام أبواب الجنة الثمانية، ينتظرون الدخول إلى جنات عدن؛ لينعموا نعيمًا لا شقاء بعده.
على خطى الحبيب:
فأول ما ترى عيناكِ ، مرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يطرق باب الجنة، نعم فحبيبك صلى الله عليه وسلم هو أول البشر دخولًا إلى الجنان، فلا تطأ قدما بشر دار النعيم قبل قدميه الشريفتين صلى الله عليه وسلم؛ كما أخبرنا هو بذلك فقال صلى الله عليه وسلم:
(آتي باب الجنة فأستفتح؛ فيقول الخازن: من أنت؟ فأقول: محمد فيقول: بك أمرت؛ لا أفتح لأحد قبلك) [رواه مسلم].
فإذا أردتِ دخولًا وراءه، إذا أردت أن تكون بقربه في الآخرة، بحيث تدخل الجنة في زمرته؛ فسري على خطاه في الدنيا؛ تسري على خطاه إلى دار النعيم في الآخرة، مثلًا بمثل، وجزاءً بجزاء، ولا يظلم ربك أحدًا.
اختر من الآن بابك:
ها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دخل الجنة، ويليه أول زمرة يدخلونها بعده أولئك أفذاذ المؤمنين وعمالقة الإيمان, الذين بلغوا المنازل العالية في الاستقامة والهدى؛ فاستحقوا أن يكونوا أول الناس دخولًا إلى دار النعيم.
واسمع إلى حبيبكِ صلى الله عليه وسلم وهو يصفهم فيقول: (إن أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر، والذين يلونهم على أشد كوكب دري في السماء إضاءة) [رواه البخاري].
فهذه الزمرة المباركة تتقدم ركب المؤمنين إلى دخول دار النعيم من أبوابها الثمانية، نعم يا حبيبي في الله، فإن جنة وصفها الله تعالى بقوله:
{سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ} [الحديد : 21].
جنة عرضها السموات والأرض، فما بالك بطولها؟ جنة بمثل تلك السعة الهائلة, لا يليق أن يكون لها باب واحد.
فقد جعل الله تعالى لها ثمانية أبواب، وجعل لكل باب أهلًا وأصحابًا, تميزوا من بين عباد الله بتفردهم في طاعة من الطاعات؛ فبلغوا فيها ذرى العبودية لرب العالمين؛ فاستحقوا أن يخصص لهم باب، وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم سعته فقال: (ما بين مصراعين من مصاريع الجنة مسيرة أربعين سنة وليأتين عليها يوم وهو كظيظ من الزحام) [رواه مسلم].
ثم وصف أهل الأبواب، فقال صلى الله عليه وسلم: (من أنفق زوجين في سبيل الله نودي في الجنة: يا عبد الله هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة؛ دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد؛ دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصدقة؛ دعي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الصيام؛ دعي من باب الريان.
فقال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله، ما على أحد من هذه الأبواب من ضرورة، فهل يدعى أحد من هذه الأبواب جميعها؟ قال: نعم، وأرجو أن تكون منهم) [رواه مسلم].
حفلة الاستقبال:
وما أن تطأ قدمكِ الجنة مع أفواج المؤمنين؛ وإذا بلجنة الاستقبال الملائكية قد أعدت لك حفلة رائعة؛ ترحيبًا بك, وفرحًا بمقدمك من سفر الدنيا إلى دارك الأولى التي خرج منها أبوك آدم أول مرة، فتستقبلك الملائكة, يهنئونك بسلامة الوصول، وفي مقدمتهم رضوان خازن الجنان.
قال الله تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [الزمر:73 - 74].
ثم تقدم لهم الملائكة بعد السلام وجبة خفيفة من دار النعيم، يصفها رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سئل:
(فما تحفتهم حين يدخلون الجنة؟ قال: زيادة كبد الحوت، قيل: فما غذاؤهم على أثرها؟ قال: ينحر لهم ثور الجنة الذي يأكل من أطرافها قيل: فما شرابهم عليه؟ قال: من عين تسمي سلسبيلا) [رواه مسلم].
درجات الجنة:
أخيتي .... لقد خلق الله الجنة وأورثها عباده الصالحين، وجعلهم فيها متفاضلين متغلوتين، كان ولذلك كانت الجنة درجات، يفضل بعضها بعضاً، وكل ذلك كان فضلاً من ربك وعدلاً، ليشمر من اشتاقت نفسه إلى الجنة، وعلت همته لأعلى درجاتها، في ذلك النعيم المقيم.
واسمعي إلى هذا الحديث، الذي رواه المغيرة بن شعبة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
(سأل موسى ربه: ما أدنى أهل الجنة منزلة، قال: هو رجل يجيء بعدما أدخل أهل الجنة الجنة، فيقال له: ادخل الجنة فيقول: أي رب، كيف وقد نزل الناس منازلهم وأخذوا أخذاتهم؟
قيقال له: أترضى أن يكون لك ذلك ومثله، ومثله، ومثله، فقال في الخامسة، رضيت رب، فيقول: هذا لك وعشرة أمثاله، ولك ما اشتهت نفسك، ولذت عينك، فيقول: رضيت رب.
قال موسى: رب أعلاهم منزلة، قال: أولئك الذين أردت غرست كرامتهم بيدي، وختمت عليها، فلم تر عين، ولم تسمع أذن، ولم يخطر على قلب بشر) [رواه مسلم].
نداء السعادة الأبدية:
ولئن خاف الناس في الدنيا من الفقر والمرض، ومن الشيخوخة والموت، ومن البؤس والشقاء؛ فإن أهل الجنة يأمنون من هذا كله, مع أول لحظة تطأ أقدامهم فيها أرض دار النعيم.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه، عنالنبي صلى الله عليه وسلم، قال: (إذا دخل أهل الجنة الجنة، ينادي مناد: إن لكم أنتصحوا فلا تسقموا أبدا، وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدًا، وإن لكم أن تشبوا فلاتهرموا أبدًا، وإن لكم أن تنعموا فلا تبئسوا أبدًا.
فذاك قول الله تعالى: {وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف : 43][رواه مسلم].
فعلام إذن أخيتي نبيع هذا النعيم المقيم، بنعيم منغص مكدر, سرعان ما يزول.
فيا بائعًا هذا ببخس معجل كأنك لا تدري بلى سوف تعلم
فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم
المصادر:
1- هزة الإيمان، فريد مناع
2- نعيم الجنة وعذب النار، محمد صالح المنجد.