الغفلة والغافلون
الدكتور عصام بن هاشم الجفري
الحمد لله مُيسرِ سبل العبادة لمن سلكها،ومبين طُرق النجاة لمن طلبها،وقابل الحمد من قلوب عن الغفلة والغواية والردى أبعدها،وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له خلق النفس من العدم فأنطقها،وبث في الكون آثار وحدانيته فجلاها وأظهرها ، وأشهد أن محمد عبد الله ورسوله خير البرية أجمعها وأزكاها وأطهرها صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم .أما بعد : فاتقوا الله عباد الله ولا تغفلوا عن يوم المعاد يقول الله جل جلاله : {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}([1]) .
أمة الإسلام تحدثت في الخطبة الماضية عن حال الأمة في عام مضى وما أصابها من ذل وهوان وما يؤمله المؤمن لها في عام قادم ؛ وإن الداء الذي أضعف الأمة وأصابها في مقتل رجالها ونساءها إلا من رحم الله هو داء الغفلة،والغفلة يا عباد الله في اللغة هي السهو عن الشيء وعرفها المُنَاويُّ بقوله : الغفلة فقد الشعور فيما حقه أن يشعر به، وإذا غفل العبد عن نفسه أو عن ماله أو عن أهله كثر المعاتبون وبرز الناصحون،فقولوا لمثل هؤلاء إن المصيبة الأعظم والداهية الأطم أن يغفل العبد عن دينه أن يغفل عن الله أن يغفل عن اليوم الآخر فتلك والله المهلكة للفرد والأمة على السواء ألم تسمعوا ما أخبر الله به عن قوم فرعون وبين سبب هلاكهم حيث قال:{فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ()}(2)الغافلون موعدهم النار غداً وعدهم بذلك جبار السموات والأرض بقوله:{ إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ()أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}(3) تأمل فيمن حولك فستجد أن من غفل توافرت فيه هذه الصفات رضي بالحياة الدنيا واطمأن بها وكأنها النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول وتسبب هذا الرضى وهذا الاطمئنان في غفلته عن الموت وانه لا شك في يوم راحل، غفل أنه سيسأل غداً عما جنت يداه فأقبل على الشهوات يعب منها عباً ما عاد يفرق بين حلالها وحرامها؛يتابع نفسه في كل ما تشتهيه بغير تفكير ولا تور ولا وجل،هذا الصنف من بني البشر وصفه الله لنا في كتابه وذكر مصيره فقال:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ()أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْغَافِلُونَ()لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمْ الْخَاسِرُونَ}(4)ومن صفات أولئك الغافلين كما نصت عليها الآية أنه قد طبع على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم فتجد أحدهم لا يعقل الهدى ولا يسمعه ولا يحب سماعه ولا يراه ولو كان أمامه،لايستحب مجالس الصالحين و إن حضر مجالس الخير مكرهاً خرج منها كما دخل لا يستجيب لنصيحة ولا يتأثر بموعظة،لأن الطرق التي تدخل منها الموعظة إلى القلب معطلة والقلب في غفلته ساه لاه،الغافل مشغول بزينة الدنيا متبع لهواه مفرط في أمر دينه ومولاه وهو كالجرب يعدي كل من جالسه وآخاه ولذلك حذر الله نبيه صلى الله عليه وسلم والأمة من بعده من مجالسة هذا الصنف من الناس بقوله:{وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا}(5) ومن صفات الغافلين أنهم قليلو الذكر لله يقول سبحانه موجهاً نبيه صلى الله عليه وسلم وأمته من بعده:{ وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنْ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنْ الْغَافِلِينَ}(6)وفي سنن الترمذي عَنْ يُسَيْرَةَ وَكَانَتْ مِنْ الْمُهَاجِرَاتِ قَالَتْ قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْكُنَّ بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّهْلِيلِ وَالتَّقْدِيسِ وَاعْقِدْنَ بِالْأَنَامِلِ فَإِنَّهُنَّ مَسْئُولَاتٌ مُسْتَنْطَقَاتٌ وَلَا تَغْفُلْنَ فَتَنْسَيْنَ الرَّحْمَةَ(7)، وليست الغفلة قصراً على الجاهل وغير المتعلم بل هناك ممن يحملون أكبر الشهادات في علوم الدنيا وهم من الغافلين أخبر عن ذلك الله بقوله:{يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنْ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنْ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ}(
، معاشر الأحبة في الله إن الغافل عياذاً بالله يستهين بمحارم الله لأن حاله كما يصفه الإمام ابن القيم رحمه الله بقوله:إن حجاب الهَيْبَةِ –لله عز وجل-رقيقٌ في قلبِ الغافلِ(9) وقال أيضاً:على قدر غفلة العبد عن الذكر يكون بعده عن الله،الغافل أيها الأحبة تقعد به غفلته عن الترقي في مراتب الكمال يقول الإمام ابن القيم في ذلك:لا سبيل للغافل عن الذكر إلى مقام الإحسان،كما لا سبيل للقاعد إلى الوصول إلى البيت،وقال أيضاً : إن مجالسَ الذكرِ مجالسُ الملائكةِ ومجالسَ اللغوِ والغفلةِ مجالسُ الشياطينِ فليتخيرِ العبدُ أعجبهما إليه وأولاهما به فهو مع أهله في الدنيا والآخرة، وكم من المجالس اليوم سواء في العمل أو في الحي أو حتى في المنزل تكون مجالس غفلة لا يُذكر الله فيها إلا قليلاً أو قد لا يذكر فيها بالمرة ، كم من المجالس يود المرء أن يخرج منها كفافاً لا له ولا عليه لما يتم فيها من أكل لحوم الناس من خلال الغيبة ، أو مما يدور فيها من التشجيع على الفساد وتبادل الخبرات في ذلك ، كم من المجالس شُغلت بأخبار الكرة والملاعب واللاعبين حتى أنك تجد أحدهم قد ملأ صحيفة يومه كلها بتلك الترهات،فيأتي بها يوم القيامة نادماً يسكب خلفها العبرات ويطلق الزفرات كم من المجالس شُغلت بأخبار القنوات والمسلسلات والفاتنات،أخرج الإمام أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا جَلَسَ قَوْمٌ مَجْلِسًا فَلَمْ يَذْكُرُوا اللَّهَ فِيهِ إِلَّا كَانَ عَلَيْهِمْ تِرَةً وَمَا مِنْ رَجُلٍ مَشَى طَرِيقًا فَلَمْ يَذْكُرْ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِلَّا كَانَ عَلَيْهِ تِرَةً وَمَا مِنْ رَجُلٍ أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ فَلَمْ يَذْكُرْ اللَّهَ إِلَّا كَانَ عَلَيْهِ تِرَةً(10) ، وفي رواية أخرى:عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أيضاً قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي مَجْلِسٍ فَتَفَرَّقُوا وَلَمْ يَذْكُرُوا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَيُصَلُّوا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا كَانَ مَجْلِسُهُمْ تِرَةً عَلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ،والترة(11) أي الحسرة والندامة.
وقد لخص بعض أهل العلم مضار الغفلة في ست نقاط: (12)
أولها:أنها تجلبُ الشطانَ وتُسخطُ الرحمنَ،
ثانيها:أنها تُنزل الهم والغم في القلب وتبعد عنه الفرح وتميت السرور،
ثالثها:أنها مدعاة للوسوسة والشكوك،
رابعها:أنها تورث العداوة والبغضاء وتذهب الحياء والوقار بين الناس،
خامسها:أنها تبلد الذهن وتسد أبواب المعرفة،
سادسها:أنها تُبعد العبد عن الله وتجره إلى المعاصي،
أيها الأحبة في الله لو كان لأحدنا شجرة يتعاهدها بالسقيا ثم غفل عنها ما الذي يحدث فيها تذبل أوراقها وتموت أغصانها وهكذا أيها الأحبة في الله شجرة الإيمان في القلب تغذيها وتسقيها بذكر الله ، ومتى ما غفلت عنها فإنه لن يسقيها أو يتعهدها أحد سواك فقد تذبل و تموت والعياذ بالله وحينها تكون من الغافلين،أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنْ الْجِنِّ وَالْإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمْ الْغَافِلُونَ}(13)
الخطبة الثانية
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهدي الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً .أما بعد:فاتقوا الله عباد الله واعمروا أوقاتكم بطاعة الله وذكره لتنجوا بذلك أن تكونوا من الغافلين فإن الفرق بين الذاكر والغافل كالفرق بين الحي والميت أخبر بذلك من لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى حيث قال : ((مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِي لَا يَذْكُرُ رَبَّهُ مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ))أخرجه البخاري(14)معاشر الذاكرين كم من المجالس والأوقات تمر على العبد في يومه يشغله عدوه إبليس أن يملأها بذكر الله فمن ذلك على سبيل المثال الوقت الذي يمضيه العبد في سيارته فلو نظر أحدنا في ذلك الوقت لوجد أنه يقضي فيه يومياً ما لا يقل عن ساعة من الزمن؛فإن كان حافظاً لشيء من القرآن أمكنه مراجعته وهو من أفضل الذكر،وإلا شغل نفسه بأي ذكر لله من التهليل والتكبير والتسبيح والتحميد أو بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم أو نحو ذلك،ومنها أوقات الانتظار في العيادات الطبية أو عند مراجعة معاملة في الدوائر الحكومية أو نحوها فإنه قد يمضي عليه وقت ليس بالقليل وهو فارغ من الشغل؛وقد ذكر لي أحدهم يقول كنت يوماً في انتظار الدور في عيادة طبية وشغلت نفسي بذكر الله فلما رأى أحد الجالسين شفتاي تتحرك بذكر الله بدأ يذكر الله وكأني ذكرته ثم انتقل الأمر للثاني وللثالث فإذا بمعظم من في الانتظار شغلوا بذلك،يقول ففرحت بذلك راجياً من الله أن آتي بحسناتهم في صحيفتي يوم القيامة،فما أسهله من أمر وما أعظمها من غنيمة يستطيع كل واحد منا أن يحصلها،ويقول آخر كانت لي معاملة في دائرة من الدوائر وكان الأمر يتطلب البقاء لأكثر من أربع ساعات فأخذت أراجع في حفظي لكتاب الله ، وكان إلى جواري مراجع آخر فلما سمعني و رأى أن معاملتي تسير بيسر وسهولة أخذ يذكر الله واستمر في ذلك حتى خرجنا في نهاية الدوام سوياً وقد أُنجز لنا ما نريد، وذكر عن أحد السلف أنه ذهب يوما للحلاق فلما بدأ الحلاق عمله بدأ هو في ذكر الله فطلب منه الحلاق أن يتوقف،قال له دعك فيما أنت فيه ودعني فيما أنا فيه، ومن عجائب ما يرى المرء في هذا الزمان من الخلط العجيب لفهم الإسلام أنه رجلاً شغل بصره وسمعه وقلبه بمعية الله ثم هو يحرك شفتيه زاعماً أنه يذكر الله ؛ ومن صورذلك ترى البعض من الناس يجلس أمام مسلسلة من المسلسلات ينظر إلى صور الممثلات ، وعقله وقلبه مشغول بقصة الحب الفاجرة التي يحكيها المسلسل ، وهو إلى جوار ذلك يطقطق بحبات مسبحته سبحان الله سبحان الله ؛ فأي والله سبحان الله من حال أمثال هؤلاء أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:{وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا}(15)
--------------
([1]) الحشر :18. (2) الأعراف : 136.(3) يونس:7،8.(4)النحل : 107-109.(6)الأعراف:205.(7)سنن الترمذي،كتاب الدعوات،حديث(3507) ، الروم :7.(9)الوابل الصيب:ص62.(10)المسند، حديث(9213) (11) المرجع السابق حديث (9388) (12) نضرة النعيم ج11، ص5108. (13) الأعراف:179.(14)صحيح البخاري،كتاب الدعوات، حديث(5928) (15)الأحزاب:35.