لماذا اكتسح الإسلاميون الانتخابات؟
إبراهيم السكران
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وبعد،،
المعطى الذي أمامنا اليوم هو أن الإسلاميين يزحفون إلى عروش السلطة في الدول المجاورة والقريبة التي فتحت فيها صناديق الاقتراع الشعبي: في مصر، وتونس، والمغرب، وتركيا.
السؤال الذي استوقف الجميع: لماذا انتصر الإسلاميون في الانتخابات؟
هذا السؤال وجوابه لا ينتمي لدائرة (الحقائق الشرعية) الثابتة التي يجب تقريرها بلغة الحق والباطل، بل هو سؤال ينتمي لدائرة (التفسير السياسي) وهي دائرة اجتهادية بشرية، ولذلك سأطرح محاولة اجتهادية لتفسير النجاح الانتخابي للإسلاميين، وهي قابلة للنقض بشواهد واقعية أكثر دلالةً، والأمر في هذا واسع.
بيدي الآن سلة إجابات، سمعتها وقرأتها، دعونا نفرشها على طاولة البحث ونفرزها إجابةً إجابة.
البعض يقول: انتصر الإسلاميون في الانتخابات لأنهم قدموا (تنازلات دينية) ولذلك اختارهم الشعب. يا ترى ما دقة هذا التفسير؟
حسناً .. لو كان هذا التفسير دقيقاً فالمفترض أن تنجح في الانتخابات التيارات العلمانية، لأنها أكثر تنازلاً عن الدين وأكثر بعداً عنه.
لو كانت الإرادة الشعبية مرتبطة بالبعد عن الدين لكان العلمانيون أحظى الناس بهذا الانتصار، ولكان العلمانيون يرقصون اليوم على أنغام الانتخابات.
لا بأس.. دعنا ننتقل لتفسير آخر: البعض يقول: انتصر الإسلاميون في الانتخابات لأنهم تبنوا (شعار الحرية) والناس في توق شديد للحرية، ولذلك اختاروهم.
هل هذا التفسير دقيق؟ لو كان هذا هو الدافع الشعبي لانتصرت التيارات الليبرالية لأن الجميع يعلم أن الليبراليين هم أكثر الناس حفاوة بمفهوم الحرية، بل ترجمة الليبرالية كما نعلم هي الحرية.
بما يعني أنه لو كانت الشعوب دافعها الحقيقي هو الحرية لكان الليبراليون اليوم يتأنقون بكرافتاتهم بجانب صناديق الاقتراع.
آخرون يقولون: لأن الشعوب أدركت أنه لا حل إلا بالديمقراطية، وهي لغة المرحلة، فلما قبل الإسلاميون بالديمقراطية اختارهم الناس.
إلى أي حد يا ترى يمكن اعتبار هذا التفسير ناجع؟
الحقيقة أنه لو كان الدافع الشعبي هو البحث عن الديمقراطية لكانت التيارات العربية التي كتبت عن الديمقراطية كثيراً، ودافعت عنها مبكراً، ودعت إليها؛ أحق الناس بالنجاح، وليس الإسلاميون الذين قبلوا بالديمقراطية مؤخراً، وهم دوماً محل اتهام بأنهم لن يحترموا الديمقراطية لو وصلوا للسلطة.
ثم هل من المنطقي أن نعتبر الشعوب تفكر بالديمقراطية إلى هذا الحد؟ لا أعتقد أن هذا التفسير دقيق.
هذه هي التفسيرات المطروحة بحسب ما قرأت، وكل هذه التفسيرات –في نظري- لا تستطيع أن تجيب على معطيات الواقع. إذن ما هو التفسير الأدق؟
من وجهة نظري الشخصية أن هناك في الدول المسلمة المجاورة تركيبة سياسية تحتوي على قوتين حاسمتين: (قوة شعبية) تهفوا إلى الإسلام والشريعة، و(قوة خارجية) تسعى منذ أمد بعيد بكل كيدها ومكرها لعرقلة وصول الأصوليين إلى السلطة.
طوال العقود السابقة كانت القوة الخارجية الغربية تدعم النظم السياسية الفاسدة في العالم العربي، وكانت الشعوب لا حيلة بيدها، ولذلك نشأت لدينا دول علمانية فاسدة تحكم بالقوانين الوضعية الغربية وتطحن كرامة الشعوب وتمتص أموالها، وتحميها القوة الخارجية الغربية مقابل حيلولتها دون وصول الأصوليين الإسلاميين إلى السلطة، وحماية المصالح الغربية في المنطقة.
ما الذي حصل في الربيع العربي؟ الذي حصل هو أن أسود الشعوب العربية تسلقت القفص، وأصبحت الشعوب الثائرة قوة موازية، ولها ثقلها، وقادر على قلب الواقع السياسي رأساً على عقب، وفي هذه اللحظة فالمؤسسة السياسية الغربية شديدة التفاعل مع المتغيرات، فإنها مباشرة سحبت يدها عن دعم النظم السياسية الفاسدة وبدأت تتعامل مع خيارات القوة الشعبية المتعاظمة بالحد الذي لا يتصادم مع مصالحها.
في هذا المشهد قفزت الحركات الإسلامية السياسية إلى الواجهة باعتبارها في هذه اللحظة هي "نقطة توازن القوى" بالضبط، أعني أنها استطاعت تحقيق التوازن بين قوتين، القوة الشعبية والقوة الخارجية، فالحركات الإسلامية ترفع شعار الحل الإسلامي وبذلك تلبي المطلب الشعبي، كما أنها تستعمل لغة مداراة وواقعية وطمأنة فيها شيء من التنازلات الدينية لكي تتحاشى الصائل الغربي.
ولذلك نجح الإسلاميون في الانتخابات.
أكثر مشهد لفت انتباهي اجتمع فيه حضور هاتين القوتين، أعني: قوة الشعوب، وقوة المؤسسة السياسية الغربية هو مشهد إعلان عبد الجليل لتطبيق الشريعة وتغيير القوانين الوضعية، وذكره لتفاصيل التعدد والربا ونحوها، فكبّر الثوار فرحاً بهذا الإعلان.
ثم من الغد تفاجأ عبد الجليل بالمؤسسة السياسية الغربية التي تتابع المشهد بدقة وهي تستفسر عن هذا الإعلان فعقد مباشرة مؤتمراً صحفياً قال أننا لن نغير القوانين!
لاحظ كيف تصوغ هاتان القوتان السياسيتان المشهد العربي: القوة الشعبية التي تريد الإسلام، والمؤسسة السياسية الغربية التي تفرض قدراً من التنازلات الدينية كتأشيرة دخول للنادي السياسي.
هذه المعادلة لم تفهمها كل القوى السياسية: العلمانية والليبرالية والقومية والاشتراكية والديمقراطية .. وفهمها الإسلاميون.
لننتقل الآن إلى قراءة توظيفات واستثمارات سعودية داخلية حاولت استغلال الحدث لتعبئة رصيدها الفكري المتناقص.
البعض يقول: دام أن هذه الحركات الإسلامية انتصرت فهذا يعني أننا يجب أن نسلك في السعودية ذات مسلكها فنقدم تنازلات دينية لكي ننجح.
هذه أطروحة تتكرر في صيغ مختلفة، ولا يخفى طبعاً أنها محاولة لاستثمار حدث النجاح الإسلامي الانتخابي العربي لترويج توجهات فكرية داخلية معينة تعاني من التهميش في الداخل الإسلامي السعودي، وتحاول التعويض بالاقتراض من نجاحات الآخرين في العالم العربي.
جيّد .. دعنا نناقش هذه الأطروحة بغض النظر عن دوافعها التسويقية.
أين تقع الثغرة المنهجية في هذا الطرح؟
الثغرة المنهجية الجوهرية والخطيرة هي أن هذا الطرح ينقل بطريقة لا واعية مفهوم (الخطاب الشرعي) من الارتكاز على (مصادر التلقي) إلى الارتكاز فوق (صناديق الاقتراع)، بمعنى أن هذا الطرح يتضمن تحولاً في بنية الاستدلال والبرهنة في بناء نمط الخطاب الشرعي.
ولكن هب أن هذا التحول في مصادر التلقي والاستدلال صحيح، أعني أنه لنسلم جدلاً أن الرهان في بناء التصورات الشرعية على الاختيار الشعبي وليس على الأدلة الشرعية، فهل هذا الطرح أنجح سياسياً؟
بكل قناعة أقول: حتى بالموازين السياسية فهذا الطرح فاشل، لماذا؟ لأنه وبكل بساطة يتجاهل الشروط والالتباسات والامتناعات والظروف الخاصة بكل حالة سياسية في هذه الدول العربية والمسلمة التي يزحف فيها الإسلاميون إلى السلطة.
تخيل –مثلاً- أن الإسلاميين في ليبيا واليمن والسعودية تبنوا ذات الخطاب الإسلامي الذي يرفعه الإسلاميون في تركيا والتونس. هل سينجح هذا الخطاب سياسياً؟ من يقول نعم، فأظنه لا يعرف التركيبة الدينية/السياسية في هذه البلدان.
خذ نموذجاً عملياً ودعنا نفحصه سوياً .. نحن نعلم أن رفع الأردوغانية لشعار العلمانية في تركيا كان بمثابة جواز مرور في الجمارك السياسية التركية، لكن لو رفع الإسلاميون في ليبيا واليمن والسعودية شعار العلمانية لكان هذا بطاقة مغادرة، لا تذكرة دخول!
فلاحظ كيف أن شعار العلمانية في تركيا يمثل (شرط نجاح) بينما في ليبيا واليمن والسعودية يمثل (مفتاح فشل).
وهذا مجرد مثال يكشف التناقض الصارخ في شروط النجاح السياسي بين البلدان العربية والمسلمة.
خذ مثالاً آخر تخيل معي أن الإسلاميين في السعودية رفعوا شعاراً مفاده أنهم لن يمنعوا السيّاح الأجانب من شرب الخمور والتعري على شواطئ الهافمون والكورنيش.
بالله عليك ماذا تتوقع أن يفعل السعوديون بهم؟ تذكر فقط الحملة التي واجهت أخاً قارئاً أفتى بجواز المعازف!
ونحن نعلم أن حزباً إسلامياً في تونس مثلاً لو رفع هذا الشعار تجاه السياح الأجانب لاختلف الناس في تقدير الاضطرار لهكذا عبارة، لكن الشعب قطعاً يفهم بالضبط الظروف السياسية التي قادت لمثل هذا التصريح.
وخذ مثالاً إضافياً آخر يكشف المزيد من الفروق السياسية الدينية بين البلدان العربية، لو أن خطاباً دينياً في تركيا تهجم على الوهابية لكان هذا يمر بسلام، لكن لو أن خطاباً دينياً سعودياً تهجم على دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب لتم تفسيره بشكل آخر يعرفه السعوديون جيداً.
وبالمقابل لو أن خطاباً دينياً في السعودية انتقد الأشاعرة، لاستقبل بطريقة تختلف عن هذا النقد لو تم إطلاقه في مصر.
هذه الأمثلة السابقة مجرد نماذج لتوضيح اختلاف الشروط السياسية والمجتمعية بين البلدان لرواج الخطاب الديني، مع التأكيد طبعاً على أن المعيار هو الدليل وليس أهواء الواقع، ولكنني أردت فقط المناقشة من باب التنزل مع المخالف.
هذا يعني أن بعض المتابعين الذين دعوا لاستنساخ التجارب الإسلامية بين أجواء دينية/سياسية متفاوتة أنهم يعانون من عمى ألوان سياسي، ولا يدركون الفروق والتمايزات بشكل كافٍ، وليس هذا هو المؤلم، المؤلم حينما يتوهم هؤلاء أنهم أصحاب "وعي سياسي"، يا لسخرية الأوهام!
على أية حال .. خلاصة ما أردت الوصول إليه في هذه الخاطرة السانحة هو أن انتصار الإسلاميين في الانتخابات ليس راجعاً إلى تنازلات دينية معينة، بل راجع إلى تشوف رجل الشارع إلى الإسلام والشريعة، وحب الشعوب العربية وانتماؤها لمن يرفع شعار الإسلام والشريعة، وأما التنازلات الدينية فهي لدفع الصائل الغربي المتربص الذي يتابع بدقة ويخشى وصول من يسميهم الأصوليين المتشددين إلى السلطة.
ومن الأمور المدهشة في المسرح السياسي والتي يجب تسجيلها هو أن الذي اكتسح الساحة المصرية في المرحلة الأولى هم الإخوان أصحاب الشعار التاريخي المعروف (الإسلام هو الحل) ومع كل التهجم الذي وجهه العلمانيون والليبراليون والليبروإسلاميين لهذا الشعار، إلا أن الإخوان المسلمين لم يتخلوا عنه لأنه روحهم النابض.
والقوة الثانية التي قفزت إلى الساحة السياسية هم السلفيون الذين تتفوق عليهم كل التكتلات السياسية الأخرى في (الخبرة السياسية الحزبية) ومع ذلك نجحوا لسبب بسيط هو حب الناس لمن يرفع شعار الإسلام والشريعة ويعظّم السلف الصالح.
والحقيقة أن هذا التفريق الشائع (الإخوان والسلفيون) تفريق اصطلاحي يزعجني كثيراً، لأن له إيحاءات سلبية، فالإخوان ليسوا جماعة ضد منهج السلف، بل هي جماعة سلفية، وقد نص الشيخ حسن البنا –تغمده الله برحماته- على التقيد بمنهج السلف في مواضع كثيرة، ومنها قول البنّا: (و أن نفهم الإسلام كما كان يفهمه الصحابة والتابعون من السلف الصالح)[الرسائل:م5].
ومنها قول البنا أيضاً (وأنت في فهمك هذا مقيد بكتاب الله، وسنة رسوله، وسيرة السلف، فأما كتاب الله فهو أساس الإسلام، وأما سنة نبيه فهي مبينة الكتاب، وأما سيرة السلف الصالح فهم منفذو أوامره، وهم المثل العملية والصورة الماثلة لهذه الأوامر)[الرسائل:7].
وليس هذا التقيد بمنهج السلف عند البنّا خاصاً بالمسائل العلمية، بل حتى مفهوم (الدولة) الذي كان يتطلع إليه البنّا كان يجعل التقيد بمنهج السلف عنصراً مكوناً رئيسياً فيه، حيث يقول البنا عن الدولة التي يطمح إليها (دولة ناشئة..، شعارها العمل بكتاب الله، وسنة رسوله، وتحري سيرة السلف الصالح)[المذكرات:89].
ولذلك فقد كان عامة أهل العلم والدعاة في بلدي السعودية يحبون الإخوان المسلمين، ويدعون لهم، ويتمنون انتصارهم على خصومهم من العلمانيين والليبراليين، وسأنقل هاهنا بعض النماذج، فمن ذلك أن العلامة الشيخ عبد الله بن جبرين –رحمه الله-، وقد كان هو الرجل الثالث في الفتيا في عصره، بعد ابن باز وابن عثيمين، يقول عن البنا وقطب في أحد فتاواه: (إن سيد قطب وحسن البنا من علماء المسلمين، ومن أهل الدعوة، وقد نصر الله بهما وهدي بدعوتهما خلقا كثيراً، ولهما جهود لا تنكر..، ولما قتل كل منهما أُطلِق على كل واحد أنه شهيد، لأنه قتل ظلما، وشهد بذلك الخاص والعام، ونشر ذلك في الصحف والكتب بدون إنكار، ثم تلقى العلماء كتبهما، ونفع الله بهما).
ولما استشكل بعض الناس عبارات معينة في كتب سيد قطب بسبب تسايلها الأدبي، دافع عنه سماحة مفتي عام المملكة الحالي الشيخ عبد العزيز آل الشيخ، حيث يقول:
(كتاب "في ظلال القرآن" له أسلوب عالٍ، هذا الأسلوب الذي كتب به سيد قطب كتابه قد يظن بعض الناس بادئ بدء من بعض العبارات أن فيها شركا أو أن فيها قدحا في الأنبياء الخ، ولو أعاد النظر في العبارة لوجدها أسلوبا أدبيا راقيا عالياً، لكن لا يفهم هذا الأسلوب إلا من تمرس في قراءة كتابه)
بل إن علماءنا في السعودية دعموا وساندوا الحركات التي هي أكثر توسعاً من الإخوان في مصر، مثل حزب العدالة والتنمية التركي، ومن ذلك أن الشيخ العلامة عبد الرحمن البراك، وهو من أكثر مشايخنا احتساباً على المنكرات وصدعاً بالحق، أصدر فتوى استبشر فيها بفوز العدالة والتنمية في الانتخابات التشريعية الأخيرة، حيث جاء في فتيا البراك:
(اعتبر الشيخ العلامة عبدالرحمن البراك فوز حزب العدالة والتنمية في تركيا بشارة للمؤمنين تفرحهم، وذلك لأن تولي أمثاله يمنع من أن يمسك زمام الحكم علماني يفسد الأخلاق وينكس الفطرة، وفي سؤال ورد إليه حول وجود بعض المنكرات العلنية هناك وعدم منعها من الحزب أجاب: بأن هذا أمر لا يستطيعون منعه).
وهذا بالمناسبة ليس شأناً خاصاً بمتبعي منهج السلف في السعودية، بل هذه نزعة عامة في متبعي منهج السلف عامةً ولله الحمد، حيث يقول محيي علم الحديث في هذا العصر الشيخ الألباني:
(لو لم يكن للشيخ حسن البنا-رحمه الله- من الفضل على الشباب المسلم سوى أنه أخرجهم من دور الملاهي في السينمات ونحو ذلك، والمقاهي، وكتّلهم وجمعهم على دعوة واحدة، ألا وهي دعوة الإسلام..لو لم يكن له من الفضل إلا هذا لكفاه فضلاً وشرفاً..هذا نقوله معتقدين، لا مرائين، ولا مداهنين(
وإن من أعظم مايؤيد هذه الرؤية حول الشيخ حسن البنا هو قاعدة شيخ الإسلام ابن تيمية في من له "لسان صدق عام في الأمة" ومن رأى انتفاع العالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه بدعوة الشيخ البنا علم صدق دخول الشيخ البنا تحت هذه القاعدة، يقول شيخ المحققين ابو العباس ابن تيمية رحمه الله:
(ومن له في الأمة "لسان صدق عام" بحيث يُثنى عليه، ويُحمد في جماهير أجناس الأمة؛ فهؤلاء هم أئمة الهدى، ومصابيح الدجى، وغلطهم قليل بالنسبة إلى صوابهم)[الفتاوى:11/43].
والإمام ابن تيمية تحدث في مواضع متعددة عن قاعدته فيمن له "لسان صدق عام" ليس هذا موضع استعراضها.
فبالله عليك أجل طرفك في العالم الإسلامي اليوم، فلا تكاد تجد بقعة إلا وللإخوان المسلمين فيها مشاركة بدعوة حسب الطاقة والإمكان، هذا كله مع التضييق عليهم وإحصاء أنفاسهم.
وهذا لا يعني أن جماعة الإخوان والشيخ البنّا لا أخطاء عندهم، كلا قطعاً، ليس هذا هو المقصود، فما من جماعة دعوية عاملة في الساحة، وما من داعية إلى الله، إلا وله أخطاء وهفوات، ولكن الاعتبار بالغالب، والاعتبار بالسياق والظروف الذي توجد فيها مثل هذه الجماعات، ولا يرتاح في مثل هذه المسائل إلا من تحرى "العدل والإنصاف" ووازن بين الصواب والخطأ، وما لديهم من الأخطاء يُنقد بعلم وعدل.
وأما مسألة هل يسوغ لهذه الجماعات والحركات الإسلامية التي تشارك في العملية الديمقراطية أن يتخلوا عن بعض الشريعة اضطراراً؟ فالقاعدة عند أهل السنة أن القيام بالشريعة يجب بحسب القدرة والإمكان والوسع والاستطاعة، وكل واجب شرعي يسقط مع العجز، وهذا أصل محكم في كتاب الله، ، كقوله تعالى في خاتمة البقرة (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا)[البقرة:286] وقوله تعالى (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)[التغابن:16].
وأما إذا استطاع المسلم إقامة بعض الشرع دون بعض، فهل يتركه كله، بحيث يسقط المقدور بالمعجوز؟ هذه مسألة أجاب النبي –صلى الله عليه وسلم- عنها حيث يقول في الصحيح : (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم)[البخاري:7288].
وتكلم الإمام ابن تيمية كثيراً كثيراً عن هذه المسألة ومنها قوله:
(ومن الجهاد والإمارة، وما يتعلق بذلك من أصناف السياسات والعقوبات، والمعاملات في إصلاح الأموال وصرفها؛ فإن طريق السلف أكمل في كل شيء، ولكن يفعل المسلم من ذلك ما يقدر عليه، كما قال الله "فاتقوا الله ما استطعتم" وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" )[الاستقامة:331].
ويقول ابن تيمية أيضاً: (فإذا اجتهد الراعي في إصلاح دينهم ودنياهم بحسب الإمكان؛ كان من أفضل أهل زمانه، وكان من أفضل المجاهدين في سبيل الله)[السياسة الشرعية:21].
وهذه القاعدة، أعني قاعدة أن (الواجب إقامة الشرع بحسب القدرة والإمكان) قاعدة فعالة في أبواب الولايات والقضاء والدعوة والإصلاح السياسي وغيرها، ومن رغب في التوسع فيها فيمكنه مراجعة ورقة بعنوان (مفاتيح السياسة الشرعية) منشورة على الشبكة.
والذي رآه الناس من الحركات الإسلامية بعد الربيع العربي أنهم قام بأمور كثيرة بحسب الإمكان، وتركوا أموراً أخرى يختلف المتابعون في تقدير إمكانهم لها، وهل هم مضطرون فعلاً لبعض ما صنعوا أم أنهم توسعوا في المداراة؟ هذه مسائل من تحقيق المناط على الواقع وهي محل اجتهاد، لكن لا يختلف أهل العلم في أن الواجب منوط بالإمكان، وأن العاجز عن بعض الشرع معذور فيه.
وحين أرى رجلاً في بلد عجنته العلمانية وهو يقوده للشريعة بالتدرج والإمكان، ثم أقارن ذلك برجل في بلد فيه مكتسبات شرعية وثقافة أهله سنية، ومع ذلك يقوده للعلمنة وتوهين تطبيق الشريعة في النفوس؛ فالمعيار في المقارنة بينهما ليس مستوى تدين الرجلين، بل التدين بالنسبة للسياق، يجب ملاحظة اتجاه بوصلة في المقارنة بينهما.
الحركات الإسلامية تحاول رفع مستوى التدين في العالم العربي حسب الإمكان، ونحن في هذا البلد ابتلينا بطوائف فكرية منحرفة تحاول تخفيف مستوى التدين بحسب الإمكان، وتوهِّن شأن الشريعة في النفوس، فشتان بين المشروعين.
شتان بين من يدفع مجتمعاً علمانياً ليزيد تدينه، وبين من يدفع مجتمعاً متديناً ليخفف من تدينه!
على أية حال .. المقصود من هذه الخاطرة أن المضمون الديني في الحركات الإسلامية هو سبب اختيار الشعوب لها، وليس الهامش الذي تنازلت عنه، وإنما الهامش الذي تنازلت عنه هو لتحاشي الوحش الغربي المتربص.
كما أنه من السذاجة السياسية الدعوة لاستنساخ تجارب إسلامية في ظروف خاصة وإسقاطها على مجتمعات ذات ظروف مختلفة، وإنما لكل أهل بلدٍ ظروفهم الخاصة، والداعية يسعى لرفع التدين في بلده بحسب القدرة والإمكان.
ولا أعرف لحظة تاريخية مرت بها الأمة في هذا العصر هي أحوج إلى رأب الصدع والائتلاف بين الإسلاميين، وتمتين الداخل الإسلامي، وتأجيل المسائل الاجتهادية أو إعطائها حجمها الصحيح؛ من هذه اللحظة، فالمعنيون بأمر الإسلام اليوم وهم يشاهدون الخريطة السياسية العربية يعاد رسمها ينبغي عليهم تقدير خطورة الموقف، وتثمين هذه الفرصة المبهرة لغدٍ مشرق بحكم شريعة الله العظيمة، ورعاية مصالح المسلمين وكرامتهم، وإقامة العدل ومنع المظالم، وبناء بلدان إسلامية قوية تحمل رسالة الله إلى الناس كافة.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآل وصحبه.