جلس يشكو إليّ في ليلة مقمرة من حال ابنه الذي ناهز العشرين عاماً..
الدكتور ::: راغب السرجاني
قال لي: لست أدري ماذا أفعل معه.. لقد احترت في أمره!..
قلت له: ماذا تقصد؟ هل تشكو من انحراف ابنك بصورة من الصور؟ هل هو لا يصلي؟ هل لا يذاكر جيداً؟ هل يعق والديه؟ .. هل لا يغض بصره؟.. أين المشكلة بالضبط؟
فاجأني وهو يقول ـ بانفعال شديد ـ على العكس من ذلك تماماً يا دكتور.. أنا أشكو أن ابني شديد الالتزام بتعاليم الدين.. كل صغيرة وكبيرة يبحث أهي حلال أم حرام.. يصلي كل الصلوات تقريباً في المسجد.. ويشغل وقته بالقراءة في كتب كبيرة ومراجع ضخمة.. وطوال النهار والليل يتكلم عن فلسطين والعراق والسودان والشيشان.... ونصحته ـ والكلام لمن يشكو لي ـ أن يقلع عن هذه الأمور ويعيش حياة الشباب!! فلا مانع أن تصلي وتصوم لكن أريدك أن تلعب وتلهو مثل بقية شباب الجيل... انصحني يا دكتور ـ والكلام ما زال لصديقي ـ ماذا أفعل معه؟
أخذت نفساً عميقاً، وقلت له بعد لحظات من التفكير: نصيحتي إليك أن تجلس إلى ابنك وتتعلم منه!!.. فكم من الآباء يحتاجون إلى توجيه.. وكم من الأبناء حوت عقولهم الشابة حكمة ما استطاع آباؤهم أن يحصولها على مدار الأعوام!..
ازداد انفعال صاحبي ولم يفهم ما أقول له.. وقال: يا دكتور، ابني هذا ما زال شاب.. عمره عشرون سنة فقط!!
وتركته وغرقت في أفكاري.. ترى ماذا تعني كلمة الشباب في الإسلام؟
ما هو دور الشباب؟
وماذا يُنتظر من جيل الشباب؟
وإلى أين يسير شباب الأمة اليوم؟
وغير ذلك من الأفكار والأسئلة.. فكان هذا الكتاب!!
*****************************
مشكلات الشباب
كنت في ندوة في أحد كليات جامعة القاهرة، وكانت الندوة بعنوان مشكلات الشباب، وآثرت قبل أن أبدأ بالمحاضرة أن أستطلع آراء الشباب حول كبرى المشكلات التي تواجههم، لكي لا أكون أنا في وادٍ وهم في وادٍ آخر، فطلبت من كل شاب أن يسجل في ورقة أهم مشكلة تواجهه في حياته، والتي لو حُلت لصار إنساناً سعيداً راضياً، واستجاب الشباب الحضور وسجلوا مشكلاتهم.. وبدأت استعرض ما يجول في خاطر الشباب حول أخطر وأهم قضاياهم.. وأخذت أجمع المشكلات المتشابهة، وأصنفها حسب الموضوع فكانت مفاجأة بالنسبة لي!!
لقد خلت قائمة المشكلات التي تواجه الشباب تقريباً من المشكلات التي كنت أنوي أن أتحدث عنها.. وإذا بالشباب الحضور فعلاً في واد، وأنا في واد آخر.. واحترت في أمري، هل أكلمهم في المشكلات التي يهتمون بها، أم في المشكلات التي ينبغي – في رأيي- أن يهتموا بها.. فبدأت كلامي باستعراض ما ذكروه عن أحوالهم.. وكانت مشكلاتهم كالآتي:
ـ الخوف من البطالة بعد التخرج..
ـ الرغبة في الزواج مع استحالته في هذا التوقيت لضعف الإمكانيات..
ـ الاختلاط بين الشباب والشابات وما ينتج عنه من تحريك لشهوتهم بصورة تكاد تكون دائمة..
ـ عدم غض البصر..
ـ صعوبة المناهج الدراسية والإحساس بأنها عديمة الفائدة..
ـ العادة السرية!!
ـ الفقر وقلة ذات اليد..
ـ الحب من طرف واحد!!
ـ انتشار المخدرات..
ـ التدخين..
ـ وأحدهم كانت مشكلته أنه يريد أن يشتري تليفون محمول وأبوه يرفض ذلك!!
كانت هذه معظم المشكلات التي ذكرها شباب هذه الكلية المصرية، وهم – ولا شك - يمثلون شريحة من شباب مصر.. بل ومن شباب العالم الإسلامي بصفة عامة.. بل إن هذه الشريحة قد اختيرت من الصفوة في شباب الأمة.. فهم طلاب جامعيون مثقفون دارسون، بل وعندهم حرص ظاهر على حضور ندوة ذات طابع إسلامي.. فهذه شريحة مرموقة من شرائح شباب المسلمين..
ومع كون هذه الشريحة على هذه الصورة المتميزة إلا أن المشكلات التي ذكروها جاءت على خلاف ما كنت أتمنى.. ليس لأنها ليست مشكلات حقيقية، ولكن لأنها مشكلات احتلت أولوية واضحة في حياة الشباب، بينما غابت مشكلات أخرى هي أخطر بكثير ـ في ظني ـ من هذه المشكلات..
فعلى سبيل المثال خلت قائمة مشكلات الشباب من الآتي:.
ـ مشكلة عدم تطبيق شرع الله عز وجل في غالب الأقطار الإسلامية، والاعتماد على قوانين وتشريعات بشرية بحتة، والإعراض عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم..
ـ مشكلة احتلال كثير من الأقطار الإسلامية، واستخدام أعتي أساليب القهر والبطش والتعذيب والقتل في هذه البلاد المحتلة، وعلى رأسها فلسطين والعراق وكشمير الشيشان وأفغانستان..
ـ مشكلة الهجوم الإعلامي الشرس على الإسلام، والسب العلني لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكبار الصحابة والعلماء على صفحات الجرائد والمجلات والإذاعات المرئية والمسموعة والإنترنت وغيره..
ـ مشكلة الديون المتراكمة على غالب دول العالم الإسلامي، وبصورة يكاد يكون الخروج منها مستحيلاً..
ـ مشكلة الفساد الإداري وعدم الشفافية والسرقات والرشاوى والاختلاس والتزوير، مما وضع العالم الإسلامي في ذيل قائمة الدول الشريفة في الأرض، حيث لم تحصل فيه إلا دولة واحدة فقط على أكثر من خمسة من عشرة في قضايا الأخلاق الإدارية والشفافية، وهي دولة ماليزيا (حصلت على 5,3 من 10 )، بينما حصلت تونس على 5 من 10، ثم بعد ذلك رسبت كل دول العالم الإسلامي قاطبة في قضايا الأخلاق والأمانة!!
(مع العلم أن إسرائيل حصلت على 6,8 من 10 في قضية الأخلاق والشفافية وعدم التزوير!)..
ـ مشكلة التخلف العلمي والإنفاق الضئيل على قضايا التقنية والابتكار والتطوير، فأكبر دولة عربية تنفق على الابتكارات العلمية ما لا يزيد عن 0,6 % من الدخل القومي، بينما تنفق إسرائيل 2,4 % من دخلها القومي على العلوم وتطويرها..
ـ مشكلة عدم وصول الإسلام إلى مناطق شاسعة من الأرض، ووجود أجيال كاملة من البشر لا يسمعون أصلاً عن الإسلام، أو يسمعون عنه كل تشويه وتزوير، مع أن المفروض على أمة الإسلام أن تصل بالخير الذي عندها إلى كل إنسان على وجه الأرض..
ثم وقفة وتساؤل!
ما الفارق الرئيسي بين المشكلات التي ظهرت في استطلاع الشباب، وبين المشكلات التي ذكرتها منذ قليل ولم تظهر في هذا الاستطلاع؟!
إن المحلل لهذا التباين يجد أن هذا الفارق في الأساس هو أن مشكلات الشباب التي تشغلهم هي مشكلات فردية شخصية في المقام الأول، بينما المشكلات الأخرى هي مشكلات عامة تهم الأمة الإسلامية ككل..
ومن ثم نلحظ أن هذه الشريحة من شباب الأمة أوضحت لنا أمراً خطيراً جداً، وهو غياب شعور الانتماء للأمة الإسلامية عند الشباب، ولم يعد الانتماء عندهم إلا للذات فقط.. وهذه علامة تنذر بخطر شديد على أمتنا، لأن حل هذه المشاكل الضخمة التي تعصف بالأمة تحتاج إلى جهود ضخمة، وتضحيات هائلة، فإذا كانت القضية قد خرجت أصلاً من أذهان الشباب، فالأمر يحتاج إلى وقفة جادة، وإلى اهتمام كبير..
والسؤال: لماذا لا يهتم الشباب المسلم بالقضايا الكبرى لأمته؟!
الواقع أن الشباب المسلم الآن ـ إلا ما رحم الله عز وجل ـ يعاني من بعض الأمراض الخطيرة التي تحتاج إلى علاج عاجل، واهتمام مكثف.. ومن أهم هذه الأمراض عدم وضوح الهدف في حياته، فهو لا يدري دوره في الحياة، وقيمته في الأرض.. لقد اضمحل الهدف عند كثير من الشباب حتى أصبح لا يعدو أن يكون مجرد سيارة أو شقة أو غير ذلك من الأمور المادية، مع العلم أنني أدرك أن هذه الأهداف ليست بالأهداف الحرام أو التافهة، ولكن ضاعت الأهداف الكبرى.. وانقلبت هذه الأهداف البسيطة من كونها وسائل لتحقيق أهداف كبرى إلى كونها أهدافاً نهائية عند المعظم.. وهذه كارثة.. فكأن لسان حالهم يقول: إن هي إلا حياتنا الدنيا، نموت ونحيا !
لقد أصبح معظم الشباب المسلم منشغلاً بالطعام والشراب والمسكن والألعاب والملذات والشهوات، ولا ينشغل بغير ذلك.. لقد أصيب معظم الشباب بسلبية عجيبة حتى كادت الأمة أن تشرف على الغرق في مستنقع هائل من المشاكل، ثم الشباب يشاهد ويتفرج ويراقب عن بعد، وكأن الأمر لا يعنيه من قريب ولا بعيد، مع علمه التام أنه سيكون من الغارقين مع الأمة، فالأمة أمته، والوطن وطنه، والدين دينه، والمستقبل مستقبله..
لقد دخل في روع الشباب أنهم ما زالوا في سن صغيرة لا تسمح لهم بالتفكير أصلاً في حل هذه المشكلات الصعبة، واعتبروا أن هذه الفترة من حياتهم لا تصلح إلا للعب واللهو... ، مع بعض لحظات الجد العابرة عند امتحان أو عمل أو موقف..
والسؤال الذي يحيرني:.. هل ما زال الشباب فعلاً صغيراً ؟!
وهل الصغير فعلاً هو الصغير في العمر؟.. أم أن الصغير حقيقة هو الصغير في الفكر وفي الفهم وفي الخُـلق وفي الهدف وفي الطموح؟
تعريف الطفل في الإسلام يختلف كثيراً عن تعريفات القوانين الأرضية الوضعية، وهذا الاختلاف يترتب عليه عمل كبير، فالأمم المتحدة مثلاً تعرف الطفل بأنه الذي لم يبلغ ثمانية عشر عاماً، بينما في الإسلام يكون الطفل هو الذي لم يبلغ الحلم، أو الذي لم يصل بعد إلى سن البلوغ، أي قد ينتهي الطفل من مرحلة طفولته وهو في الثالثة عشرة أو الرابعة عشرة من عمره، فإذا وصل الطفل إلى سن البلوغ أصبح شاباً، وذلك بكل تبعات هذه المرحلة الجديدة التي انتقل إليها.. وأهم هذه التبعات أنه أصبح مكلفاً.. بمعنى أنه أصبح مسئولاً عن كل أفعاله وأقواله وأحلامه وأمنياته.. نعم قد لا يسأله أبوه ولا أمه ولا أستاذه ولا مجتمعه لكونه في عيونهم ما زال صغيراً.. ولكن حتماً سيسأله ربه يوم القيامة عن كل أعماله بعد هذه السن الفاصلة، وبعد هذه المرحلة الفارقة في حياته.. نعم هو ما زال في الثالثة عشرة أو الرابعة عشرة أو الخامسة عشرة من عمره، لكن الله عز وجل - والذي خلقه ويعلم إمكانياته وقدراته - سيحاسبه عن هذه الفترة حساباً مفصلاً، وذلك لأنه يعلم سبحانه وتعالى أن الشاب في هذه المرحلة يستطيع أن يفكر بعمق، وأن يعمل بجد، وأن يجتهد بصدق.. [ألا يعلم من خلق، وهو اللطيف الخبير]..
بل إن هذه الفترة من عمر الإنسان ـ وهي فترة الشباب ـ سيكون هناك سؤال خاص عنها يوم القيامة..
روى الترمذي ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه أن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَا تَزُولُ قَدَمُ ابْنِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ خَمْسٍ: عَنْ عُمُرِهِ فِيمَ أَفْنَاهُ وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ وَمَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ وَمَاذَا عَمِلَ فِيمَا عَلِمَ
من هذا الحديث يتضح قيمة فترة الشباب في حياة الإنسان، ففترة الشباب ـ وإن كانت فترة محدودة في العمر ـ إلا أن الله عز وجل قد أفرد لها سؤالاً خاصاً يوم القيامة، مع أنه لو ذكر العمر وكفى لتم المعنى، لأن العمر يشمل الشباب، لكن خص الشباب بالذكر ليلفت الانتباه إلى أن هذه الفترة لها أهمية خاصة في الحياة، كما يلفت الأنظار إلى أن الشاب ـ مع كونه صغيراً نسبياً ـ إلا أنه سيسأل يوم القيامة، وسيحاسب، ولن يُوفق إلى عبور الصراط ودخول الجنة إلا إذا وُفق في الإجابة على الأسئلة الشاملة التي ستوجه له بخصوص كل لحظات حياته، ومنها فترة شبابه..
روى البخاري ومسلم عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا سَيُكَلِّمُهُ اللَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ فَيَنْظُرُ أَيْمَنَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ وَيَنْظُرُ أَشْأَمَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ وَيَنْظُرُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلَا يَرَى إِلَّا النَّارَ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ فَاتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ
والحديث السابق يوضح أنه ليس هناك استثناء في السؤال، فالكل مهما اختلف عمره أو جنسه أو عنصره أو لونه سيُسأل يوم القيامة..
من كل ما سبق يتبين أنه ليس من العقل أو الحكمة أن يقضي الشاب زهرة شبابه في اللهو والمرح وعدم تحمل المسؤولية، وهو لا شك سيحاسب على شبابه فيما أبلاه..
وخلاصة القول أن الله عز وجل - الذي خلق وكلف - يعلم أنه سبحانه وتعالى قد وضع في الشباب المؤهلات التي تمكنهم من أداء مهماتهم وواجباتهم على الوجه الأكمل، ومن ثم فالشباب قادر ـ بإذن الله ـ على حل مشكلاته ومشكلات الأمة..
وليس هذا الأمر جديداً على شباب الأمة الإسلام، فالتغيير في واقع الأمة وفي تاريخها كثيراً ما كان على يد الشباب، ونسأل الله عز وجل أن يهدي شباب الأمة إلى طريق الخير، وإلى سنن الهدى..
قال ابن الجوزي رحمه الله : "من أصلح سريرته فاح عبير فضله ... وعبقت القلوب بنشر طيبه ... فالله الله في السرائر؛ فإنه ما ينفع مع فسادها صلاح ظاهر".
منقول