النفس الإنسانية والقراءة المستحيلة
د. أميمة بنت أحمد الجلاهمة
اكاديمية سعودية في جامعة الدمام
في أيامنا أصبحت الطيبة ضعفا، والاحترام قلة حيلة، والسفاهة والخداع قوة، والسطوة توجب احترام الآخرين، أما الغيرة فتأسر الناجحين والفاشلين على السواء، والمنافسة غير الشريفة هي أبجدية هؤلاء وهؤلاء.
إذا ما تأملنا فيما بيننا سنجد من يعمل لنفسه ولمحيطه الخاص، ومن يعمل في صحراء حولها جنة خضراء، سنجد من امتهن نثر المحبة في مواجهة كل عاصفة تمر من خلاله أو بجانبه أو عن بعد، ومن اعتقد أنه جزء من كل لا يستطيع العيش بمعزل عنه.. وهؤلاء مع الأسف أصبحوا من الندرة بمكان، وسنجد من يعتقد أنه الكل وما عداه هباء منثورا، سنجد من أحب العطاء وتذوق طعمه وسعى للعيش في ظله متطلعا لكسب الدنيا والآخرة، طاعة لله سبحانه وطلبا لرضاه، وسنجد صورا أخرى لأفراد قد أكون صادفتهم وقد لا أكون، لكني أشعر وبعد هذه السنوات وهذه التجارب هنا وهناك، وبعد غربة تجرعت مرارتها منذ طفولتي المبكرة أني جاهلة بهذا الإنسان الذي اعتقدت يوما أني فهمت أسراره، وأني قادرة على قراءة معظم أفكاره، وعلى توقع كثير من تصرفاته، وقد أدركت بالتجربة أني عاجزة عن ذلك، ولو على فرض أني فعلت فلن أكون قادرة على تتبع تلك التصرفات، فمن خلال ما عايشته من مواقف لم أعد أثق بما أرى وأسمع، ولا بتلك الابتسامات التي كانت يوما ما تأسرني، ولا بتلك المجاملات التي ترسخ فيها النفاق.
لم أعد أصدق أن هناك نقاءً أو صفاءً أو وفاءً، فالكل يسعى لمصلحته الآنية التي تتغير وتتبدل بحسب الأوضاع والظروف، بل لم أعد أثق بنتاج فكر مفكر عددته في القمة لأراه اليوم في القاع، فقد استهان بذكاء المتلقي واستغل ثقته أبشع استغلال، لقد أصبح الصدق لغة طفولة لم يشوهها محيطها ولا برامج كرتونية مبرمجة، ولا الألعاب الإلكترونية المسيسة، طفولة تفتقدها أيامنا التي اعتبرت الطيبة ضعفا، والاحترام قلة حيلة، والسفاهة والخداع قوة، والسطوة توجب احترام الآخرين، أما الغيرة فتأسر الناجحين والفاشلين على السواء، والمنافسة غير الشريفة هي أبجدية هؤلاء وهؤلاء، فلمَ لا يمارس أحدهم الغش ما دامت النتيجة مضمونة لصالحه؟ لم لا يسْخر من عقول من أقبلوا عليه ما داموا عاجزين عن محاسبته؟ لم لا يسفه ويتجاهل أنينهم، ولم يلتزم الحق ما دام الحق لم يعد له عنوان؟
هل أصبحت متشائمة؟! لا أعلم.. ولكني اخترت الحديث معك عن التزام الصمت، فالصمت المطبق قد يؤذي من حيث نعلم ومن حيث لا نعلم، مع يقيني أن كلامي هذا قد يصور على أنه حالة خاصة، آمل أن تنتهي لتعيدني إلى بر الأمان، إلى حيث كنت أرتع في ظلال أحلام اعتقدتها واقعا معاشا، يستطيع من أراد العيش بسلام الحياة في ظلالها وربوعها، أحلام لم تكن من المحال.. فقد كانت مشرعة الأبواب تضم المقبلين بحنان، لتصبح اليوم سفاهة وسذاجة وغباء، وأرضا محظورة، محفوفة بالأشواك المسمومة والذئاب المسعورة.
هذا قليل من كثير مما قالته لي وهي جالسة تتحدث لنفسها بصوت جهور، فهل كانت تهاجم؟! أم كانت تدافع؟! أم كانت تبث شكواها؟! أم كانت تنتحب؟! كل ما أعرف أنها كانت في حالة إنهاك شديد، وأن حملها ثقيل، وأنها بحاجة ليد حانية قادرة على رفع غبارٍ أخفى معالم إنسانة أحبت الخالق ومن حبها له سبحانه أحبت ما خلق، لأراها اليوم أشبه بمخلوق اقترب من حالة اليأس، مخلوق يشعر حتى في لحظات التأمل بغربة موحشة، ووحدة مطبقة، مخلوق يعتقد أنه عاجز عن مجاراة زمانه ومجتمعه، وأن الأوان قد حان لأن ينعزل وينطوي ويبتعد، فلم يعد قادرا على متابعة تلك النفوس الملتوية وتلك الأفكار المفبركة، وذاك الفساد المقنن، مخلوق كان يعتقد أنه نتاج مدرسة تستحق النظر، ليرى نفسه كالخيال سرعان ما يختفي دون أثر يذكر، ولأني أشعر بمعاناتها فأنا أعيش في زمانها وأتجرع من كأسها، وبما أني لا أستطيع إنكار كلامها جملة وتفصيلا، اكتفيت بالصمت والنظر ومحاولة التخفيف، لأجد نفسي وقد أصبت بالعدوى، فقلقها معدٍ والنجاة منه أمر مستعص، ولأن الأمل في النجاة لا يتحقق إلا بالرجوع لمن بيده الأمر ـ المالك المتصرف ـ كان لا بد من أن أذكر نفسي قبلها بعظيم فضله سبحانه، فإن كانت وهي من هي عاجزة، فهل أنا بعجزي قادرة على الإمساك بيد من أراد العوم في بحر هائج لا قرار له ولا مرفأ، وهل أنا قادرة على تفسير هذا العالم المتغير وتلك النفوس الغريبة، وعلى إقرار التفاؤل محل اليأس والأمل محل القنوط؟
لا أعتقد أني أمتلك القدرة على هذا أو ذاك، فالأمر كما أفهم بحاجة إلى نفس وصلت إلى درجة عالية من الإيمان بالله سبحانه، وقدرة فائقة على الإقناع، ولكني أذكر نفسي وإياها والجميع بذكر الله سبحانه، لعلنا بذكره تعالى ومجالسة الخيرين نصل إلى بر الأمان، فترتاح نفوسنا ونفوس غيرنا من هموم أنهكت أصحابها وأضنتهم، وفي الختام أستحضر قوله سبحانه وتعالى: (ألا بذكر الله تطمئن القلوب).