ماذا لو لم تقم إسرائيل؟
كتب د. محمد عفيفي رئيس قسم التاريخ ـ آداب القاهرة
ماذا لو لم تقع حرب1948, ولم تقم دولة إسرائيل. ما إن بدأت محاولة وضع' سيناريو' لهذا المقال' القضية', و'القضية'' المقال', حتي وردت إلي خاطري سريعا صورة نجيب الريحاني.
, والرائع سليمان' بك' نجيب, والفيلم الشهير' لعبة الست'. وربما تسخر مني أيها القارئ العزيز إذ كيف أبدأ مناقشة قضية هامة ترتبط بالصراع العربي ـ الإسرائيلي, من خلال فيلم' لعبة الست', والست في هذا الفيلم هي' تحية كاريوكا'!!
في الحقيقة وجدت الفكرة الأساسية لمقالي هذا من خلال هذا الفيلم, الذي أنتج سنة1946, وفيه يلعب سليمان نجيب دور اليهودي الطيب' الخواجا إيزاك عنبر', الذي يعمل عنده المصري البسيط نجيب الريحاني. وطوال الفيلم نري العلاقة الجميلة والتسامح بين الشخصين, لنصل إلي ذروة العمل الدرامي عندما يبدأ هتلر في الهجوم علي مصر, ويبدأ خروج اليهود من مصر, ليس خوفا من اضطهاد مصري أو إسلامي أو شرقي, وإنما من اضطهاد محتمل' أوربي'' غربي'' فاشي'.
وهنا يبيع الخواجا إيزاك إلي' حسن أبو طبق' المحل بيعا' صوريا' بدون مقابل, علي وعد أن يسدد المصري لليهودي الطيب, قيمة المحل من إيراده بعد ذلك. هكذا كانت الحياة اليومية في منطقة الشرق الأوسط قبل ظهور' الدولة الدينية' في المنطقة. وتذكرت سريعا عطلة نهاية الأسبوع في باريس, وأنا أتسكع في الحي الشرقي بها' بيل فيل', وعجائز اليهود العرب يقضون أوقاتهم في الحانات يشربون القهوة أو الجعة ويسمعون أغاني ليلي مراد وفريد الأطرش وأسمهان.
لقد شهدت أعوام1948 و1949 انقلابا خطيرا في منطقة الشرق الأوسط, إذ قامت دولة إسرائيل في العام الأول, ودولة الباكستان في العام الثاني. ورسخ ذلك بشدة مفهوم' الدولة الدينية' في المنطقة. إذ قامت إسرائيل علي أساس' أساطير دينية' مؤسسة للدولة الجديدة, التي أصبحت مزيجا غريبا بين' الدين والعصرية'. وساعد البعد الديني لدولة إسرائيل, علي الربط ـ للأسف ـ لدي بعض التيارات الإسلامية والعربية المتشددة, بين مصطلحات' إسرائيلي'' صهيوني'' يهودي', بينما لم يعرف العقل العربي قبل1948 هذا الارتباط الغريب, إذ كانت فكرة التسامح هي الأكثر شيوعا. واستغلت إسرائيل هذا الربط التعسفي لترويج بضاعة أنها الدولة المضطهدة في داخل محيط عربي إسلامي متعصب.
اتساءل هل لو لم ترسخ إسرائيل لمفهوم' الدولة الدينية', هل كان يجرؤ' حسن البنا' ـ في ظل العصر الليبرالي في مصر ـ علي اعلان' الجهاد المقدس' في عام1947 م قبيل الحرب؟ هذا الاعلان الذي استبعد ـ للأسف ـ' الأقليات الدينية' وإن كنت أفضل مصطلح' العرب غير المسلمين' ـ من المشاركة في قضية فلسطين. إن قيام دولة إسرائيل علي أساس ديني, أدي إلي حالة عالية من' التمايز الديني', وساعد علي تصدر الحركات الدينية للساحة العربية. وربما نطرح علي أنفسنا سؤالا آخر, هل كانت هزيمة1948 م, وقيام دولة إسرائيل بمثابة تحد للجيوش العربية, ردت عليها باستجابة خطيرة هي سلسلة الانقلابات' الثورات' العسكرية التي اجتاحت المشرق العربي؟ هل رسخ ذلك لـ'عسكرة' المجتمع العربي, استعدادا لمواجهة الدولة' العسكرية' الوليدة إسرائيل؟
يروي جمال عبد الناصر في كتابه' فلسفة الثورة' قائلا: جلس بجواري مرة كمال الدين حسين وقال لي وهو ساهم الفكر شارد النظرات: هل تعلم ماذا قال لي أحمد عبد العزيز ـ بطل حرب1948 ـ قبل أن يموت؟
قلت: ماذا قال؟
قال كمال الدين حسين وفي صوته نبرة عميقة وفي عينيه نظرة أعمق: لقد قال لي' اسمع يا كمال إن ميدان الجهاد الأكبر هو في مصر'. هل قضي قيام دولة إسرائيل' الليبرالية' علي التجربة الليبرالية في المشرق العربي؟!! أم أن هذه التجربة الليبرالية كانت علي فراش الموت وعجلت نكبة1948 وقيام دولة إسرائيل من الوفاة' الحتمية' لهذه التجربة الجميلة؟
إننا في عالمنا العربي نحتاج إلي مدرسة تاريخية جديدة شبيهة بمدرسة' المؤرخين الجدد' في إسرائيل. إن هذه المدرسة التي نتصور ـ بحسن نية ـ أنها تعمل من أجلنا, إنها في الحقيقة تعمل من أجل إسرائيل, ولكن إسرائيل' جديدة'. إن هذه المدرسة نجحت بالفعل في إعادة قراءة تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي خاصة من زاوية تفكيك الروايات الإسرائيلية عن الصراع, ونقض الخرافات التي صورت قيام إسرائيل كمعجزة' إلهية' تجسد' البراءة' اليهودية ضد دول عربية متوحشة كانت تريد أن تقضي علي المشروع الصهيوني في مهده. وصورت أرض فلسطين أرضا بلا شعب تنتظر' شعب الله المختار' الذي لم تكن له أرض.
ويطالب بعض رموز مدرسة' المؤرخين الجدد' في إسرائيل بقيام مدرسة تاريخ عربي جديدة, توازي مدرستهم قائلين أنهم قطعوا منتصف المسافة عبر نقدهم للتاريخ الإسرائيلي وتفكيك خرافاته, وأنه آن الآوان للمؤرخين العرب أن يقطعوا نصف المسافة المتبقية.
هكذا نعود إلي التساؤل الأول هل لو لم تقم دولة إسرائيل لكانت أحوال المنطقة أكثر هدوءا؟. علينا كمدرسة جديدة للتاريخ الإجابة علي الأسئلة التالية:
هل أدت هزيمة1948 إلي' نكبة' التجربة الليبرالية في المشرق العربي؟!
هل أدت هزيمة1948 وقيام إسرائيل إلي' عسكرة' السياسة العربية؟!
هل ساعد الصراع الإسرائيلي- العربي علي صعود الحركات الدينية, وازدياد' التمايز' الديني في المنطقة؟. هل ممكن أن نصل إلي شرق أوسط أكثر هدوءا؟!.