تمهيد:
كنت في أحد الأيام أنصح صديقا لي بالإقلاع عن تدخين النرجيلة أو الأرجيلة تنوعت أسمائها والسم واحد وقلت له أن ذلك من باب قتل النفس وأن من أضرارها كذا وكذا وكذا ...
فاستوقفني واستطاع أن يوصل لي بطريقة غير مباشرة أنني أنا أيضا أقتل نفسي وأضيَع الأمانة التي استأمنني الله عليها بسبب طبيعة استهلاكي للطعام "فوق حاجتي" فأدهشني بشدة، رغم معرفتي بالموضوع مسبقا ولكني لا أعلم لماذا في تلك اللحظات شعرت بحرقة في صدري من كلماته لأني كنت كالذي ينهى عن شيء ويأتي بمثله.
من تلك اللحظة أحببت أن أتعمق في هذا الموضوع لعلي أجعل هذا المقال في جيبي أقرأه من وقت لآخر ليكون لي منطلقا لإصلاح ذاتي وللتغلب على نفسي في هذا الجانب لأن أبواب الهوى وأوامر النفس كثيرة وإذا وفقت أخي القارئ فغلبتها في جانب غلبتك في جانب وتبقى معها في حرب طويلة كحرب داحس والغبراء حتى تنتصر كليا على نفسك في كل ما تشتهيه وتهواه.قال محمد بن المنكدر رحمه الله : "كابدت نفسي أربعين عاماً ( أي جاهدتها وأكرهتها على الطاعات ) حتى استقامت لي" انظر كيف استمر في مكابدة حب النوم أربعين سنة حتى انتصر عليها.
السمنة داء العصر:
تعتبر السمنة هي السبب الثاني للوفاة في العالم بعد التدخين ويزداد عدد الأشخاص المصابين بالسمنة سنويا بسبب طبيعة المعيشة التي تقلل من حركتنا وبسبب تناول الأطعمة السريعة لسرعة تجهيزها إضافة إلى الصرعات التكنولوجية التي تحاول أن تخدعنا بأنها تسهل حياتنا ولكنها بالواقع تقتل حركتنا وتجعلنا أشبه بالكوالا أو بالدب الكسلان ولكن هل هذه أعذار مبررة لسمنتنا أم أنها مجرد حجج واهية؟ إن حديث الرسول صلى الله عليه وسلم
"بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه وبرواية أخرى لقيمات يقمن صلبه" هادم لكل ما ذكرته من أعذار وكاف ليوضح لنا أنه يجب علينا أن لا نأكل أكثر مما نحتاج ولو تحدثنا بشكل علمي بحت يمكننا أن نقول أن الإنسان بحسب نمط حياته يستهلك كمَا معين من السعرات الحرارية كل يوم فإذا أكل أكثر من حاجته حصَّل سعرات حرارية أكثر وتحول الفائض من هذه السعرات إلى دهون وشحوم، ولاحظوا أن ما يقيم صلبنا يختلف عم يقيم صلب الفلاح الذي يعمل بيده طول النهار ومع ذلك تجد بعض منا ممن يجلسون خلف جهاز الحاسوب طوال النهار يأكلون أكثر منه.
على الناس أن تميز بين هذه الدرجات : الجوع - الأكل باعتدال - الشبع - التخمة، وبحسب شرع الله ورسوله علينا أن نعتدل في الأكل ويكون منهجنا في الحياة الوسطية "فلا إسراف ولا تبذير ، ولا بخل ولا تقتير ، ولا غلو ولا جفاء" قال تعالىوَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا .... ) البقرة: 14في ذم السمنة:عن أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ):إِنَّهُ لَيَأْتِي الرَّجُلُ الْعَظِيمُ السَّمِينُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ). وَقَالَ اقْرَءُوا : (فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا) رواه البخاري (4729) ومسلم (2785) قال النووي رحمه الله : "فيه ذم السِّمَن" انتهى .وقال القرطبي رحمه الله :"في هذا الحديث من الفقه : ذم السِّمَن لمن تكلفه ، لما في ذلك من تكلف المطاعم والاشتغال بها عن المكارم ، بل يدل على تحريم الأكل الزائد على قدر الكفاية المبتغى به الترفه والسمن.
عن عبدالله بن عمر رضي الله عنه أن ابن عمر كان لا يأكل حتى يؤتى بمسكين يأكل معه ، فأدخلت رجلا يأكل معه فأكل كثيرا ، فقال : يا نافع ، لا تدخل هذا علي ، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول" المؤمن يأكل في معى واحد ، والكافر يأكل في سبعة أمعاء". أخرجه البخاري في صحيحه 5393
أما الحديث "إن الله يكره الحبر السمين" فبعد دراسة تخريجه من العلماء وجدوا بأنه لا يثبت عن النبي أو عن أحد صحابته، فلا يحتج به بكراهة الله للحبر السمين والله أعلم، "والحبر تعني العالم".قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطنه ، بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه ، فإن كان لا محالة ، فثلث لطعامه ، و ثلث لشرابه ، و ثلث لنفسه"
رواه الإمام أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه وقال الترمذي حديث حسن وصححه الألبانيوبشكل عام يمكن القول بأن السمنة مكروهة لأنها سبب من أسباب الإسراف والإسراف مكروه وأهله من الله تعالى.في ذم الإسراف:منذ طفولتنا إن تتذكرون ونحن على سفرة الطعام قد عودنا معظم الناس على طرح سؤال شكل فهما خاطئا لدينا، يسألون: هل شبعت ؟ هل تريد المزيد ؟ فنشأ في عقلنا فهم خاطئ أن الشبع هو الحد الفاصل للقيام عن الطعام وليس إذهاب الجوع، لذلك علينا أن نتعلم ونعلم أولادنا أن الشبع هو أعلى درجات الأكل المباح ومن بعده يكون الإسراف الله. قال تعالى:( يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) ٣١:الأعراف، ولا يمكننا القول بأن الشبع إسراف بالإستدلال بحديث أهل الصفة بأن النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم أيضا سقى أهل الصفة لبنا قال أبو هريرة فسقيتهم حتى رووا ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم " اشرب يا أبا هريرة " قال شربت ثم قال " اشرب " فشربت ثم قال " اشرب " فشربت ثم قلت والذي بعثك بالحق لا أجد له مسلكا ثم أخذ النبي صلى الله عليه وسلم ما بقي وشرب عليه الصلاة والسلام" صحيح البخاري بلفظ مشابه، وهذا يدل على جواز الشبع وجواز الإرتواء ، لكن من غير مضرة.
أبدأ بمعنى الإسراف المذكور في الآية السابقة: فالإسراف هاهنا لا ينحصر في الأكل والشرب فقط وإنما كل ما زاد عن حده في عرف الناس، ورغم أن الموضوع نسبي ولكن هناك دائما اجماع أن هذا فوق الحاجة، فالذي يقوم بدعوة عدد قليل من الناس ويقوم بوضع كميات على سفرة الطعام تكفي أضعافهم فهذا إسراف والذي يستحم بكثير من الماء فهذا إسراف والذي يضع المال في غير مكانه فهو مسرف ... عن أبو جحيفة السوائي قال: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمع رجلا يتجشأ فقال: "أقصر من جشائك ؛ فإن أكثر الناس شبعا في الدنيا أكثرهم جوعا في الآخرة " صححه الألباني في صحيح الجامع، حديث رقم 1179
في هذا الحديث استدلال على أن داوم الشبع ليس محمودا ولكنه لا يعني أبدا الحث على الجوع كما تنطع بعض الناس بفهمهم لهذا الحديث.قال ابن الحاج : الأكل في نفسه على مراتب ، واجب ، ومندوب ، ومباح ، ومكروه ، ومحرم ،
فالواجب : ما يقيم به صلبه لأداء فرض ربه ، لأن ما لا يتوصل إلى الواجب إلا به فهو واجب .
والمندوب : ما يعينه على تحصيل النوافل وعلى تعلم العلم وغير ذلك من الطاعات .
والمباح : الشبع الشرعي .
والمكروه : ما زاد على الشبع قليلا ولم يتضرر به .
والمحرم : البطنة . وهو الأكل الكثير المضر للبدن .
السمنة في الشرع تنقسم إلى قسمين:
1- سمنة لا يؤاخذ عليها العبد:
وهي التي لا ذنب لصحابها فيها، كأن يكون مصابا بمرض مثل "متلازمة داون" أو أن تكون الغدد في جسمه مطربة لسبب ما فتكون الإفرازات الهرمونية سببا لسمنته ويدخل تحت أيضا كل من يجمع الناس على أن أكله معتدل وطبيعي ولكنه مصاب بالسمنة وقد يتعلق ذلك بحرق جسمه للغذاء وهو ما يسمى بالإستقلاب أو الميتابوليزم، وفي هذا الجانب يكون الأحرى بالعبد المسلم أن يتحرى سبل العلاج من المرض إن توفر وإن أمكنه ذلك.
2- أما النوع الآخر فهي سمنة مكروهة يحاسب عليها العبد:
وهي التحصيل الحاصل من الإسراف في الطعام والشراب في أن يأكل المرء فوق حاجته بتعدد الأسباب إما لعدم تمييزه بأن اللقمة الأولى كمثيلاتها الأخريات فيستمر بالأكل حتى يبلغ الأكل رأس معدته أو أن عادات استهلاك الطعام عنده سيئة فيدخل الطعام على الطعام أو يبلع من دون مضغ أو يأكل بسرعة أو يأكل وينام مباشرة، فعلى المسلم أن يحافظ بقدر المستطاع على هذه الأمانة التي منحها الله له، لاحظوا إخوتي القراء أننا عندما نأكل ما يضرنا أو ما يزيد عن حاجتنا نستحي فيأكل بعضنا متخفيا خائفا من أن يراه أحد، يذكرني ذلك بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم بما رواه مسلم عن النواس بن سمعان: " ... والإثم ما حاك في صدرك ، وكرهت أن يطلع عليه الناس" فؤلئك يكرهون أن يطلع عليهم أحد لأنهم يخطئون بحق أنفسهم.
قال عمر : « أيها الناس ، إياكم والبطنة من الطعام ، فإنها مكسلة عن الصلاة ، مفسدة للجسد ، مورثة للسقم ، وإن الله تبارك وتعالى يبغض الحبر السمين ، ولكن عليكم بالقصد في قوتكم ، فإنه أدنى من الإصلاح ، وأبعد من السرف ، وأقوى على عبادة الله ، وإنه لن يهلك عبد حتى يؤثر شهوته على دينه » ( الجوع ص 72)
ملاحظة: لم يثبت رجوع هذا القول إلى عمر بعد التحقيق.
من شذوذ الأقوال "الحث على الجوع":
أحببت التنبيه إلى ما تروج له بعض الطوائف الضالة من دواع إلى تجويع النفس وربما حرمانها وجلدها مستدلين بأدلة موضوعة أو ضعيفة وكل ذلك مردود عليهم ويكفينا الاستشهاد بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم برواية عن أنس بن مالك رضي الله عنه حين قال:"جاء ثلاث رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما أخبروا كأنهم تقالوها ، فقالوا : أين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، قال أحدهم : أما أنا فإني أصلي الليل أبدا ، وقال آخر : أنا أصوم الدهر ولا أفطر ، وقال آخر : أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا ، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ( أنتم الذين قلتم كذا وكذا ؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له ، لكني أصوم وأفطر ، وأصلي وأرقد ، وأتزوج النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني" صحيح البخاري 506.
أما ما ورد عن بعض السلف والخلف في جوعهم وأكلهم القليل من الطعام فهذا ليس اتباع منهم لسنة أدعوا أن النبي سنها ولا حتى ابتداع منهم، إنما صرفهم عن الطعام طلب العلم أو هم الآخرة عن بعض اللقيمات وكونهم تصرفوا كذلك فهذا لا يعني بأننا يجب أن نقلدهم فشتان بين سبب فعلهم لذلك ونيتهم وبين فهم بعض الطوائف الخاطئة وظنهم بأنهم يحصدون الأجر ويتقربون لله بفعلهم ذلك، كيف لا وقد اتفق الفقهاء على أن الذي يأكل بنية التقوي للدعوة أو العبادة مأجور، كيف يأمر البعض بالجوع والله تعالى يقول : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّـهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) البقرة: ١٧٢
العمليات الجراحية والحمية والأدوية:
هناك العديد من العمليات التي وإن كانت حلالا في بعض الحالات من منظور شرعي إلا أني لا أرى فيها انتصارا على النفس والهوى، فما الفائدة في تصغير المعدة أو تحزيمها أو تغيير مسارها أو شفط الدهون حتى هذه العلميات تبيء بفشل شديد إذا لم ينجح الشخص بالسيطرة على هوى نفسه بعد أن يقوم بالعملية.
الخاتمة:
نحن لا نحتاج إلى أدوية حارقة للدهون أو أدوية مثبطة للشهية ... كل ما نحتاجه هو استشعار هذه الأمانة التي كلفنا الله بها والتي سيسألنا عنها ... وأن نتبع هدي النبي محمد صلى الله عليه وسلم بالأكل على مقدار حاجتنا وبما يكفينا لقيام أصلابنا، والذي يعزم على إنقاص وزنه لا نطلب منه أن يتوقف عن الطعام لأن ذلك ليس بالحل المفيد لا طبيا ولا شرعيا، وإنما يجب عليه أن يتدرج بالتقليل من الطعام وأن يتعلم ما هي حاجة جسمه من السعرات الحرارية يوميا بحسب نمط معيشته لكي لا يتجاوزها.
أعنانا الله وإياكم على حفظ هذه الأمانة وعلى كسر شهوات نفوسنا الأمارة بالسوء.
والله ولي التوفيق