الأشهر الحرم واتباع الشيطان
سماحة الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين
أيها الناس: اتقوا الله تعالى وتيقنوا أن لله تعالى الحكمة البالغة فيما يصطفي من خلقه، فالله تعالى يصطفي من الملائكة رسلا، ومن الناس ويفضل من الأوقات أوقاتا، ومن الأمكنة أماكن، ففضل الله تعالى مكة على سائر البقاع، ثم من بعدها المدينة مهاجر خاتم الأنبياء محمد، ثم من بعدهما بيت المقدس مكان غالب الأنبياء الذين قص الله علينا نبأهم، وجعل لمكة والمدينة حرما دون بيت المقدس، وفضل الله تعالى بعض الشهور والأيام والليالي على بعض، فعدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض، منها: أربعة حرم وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ثلاثة متوالية وشهر رجب الفرد بين جمادى وشعبان، قال تعالى: "إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ" سورة التوبة. وخير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، وليلة القدر خير من ألف شهر؛ فعظموا رحمكم الله تعالى ما عظمه الله، فلقد ذكر أهل العلم أن الحسنات تضاعف في كل زمان ومكان فاضل، وأن السيئات تعظم في كل زمان ومكان فاضل، وشاهد هذا في كتاب الله تعالى وسنة رسوله يقول الله تعالى: "يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير" سورة البقرة، وقال تعالى في المسجد الحرام "ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم"سورة الحج.
وإنكم اليوم تستقبلون الأشهر الحرم الثلاثة، فلا تظلموا فيهن أنفسكم، التزموا حدود الله تعالى، أقيموا فرائض الله واجتنبوا محارمه، أدوا الحقوق فيما بينكم وبين ربكم وفيما بينكم وبين عباده، واعلموا أن الشيطان قد قعد لابن آدم كل مرصد وأقسم لله ليأتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا يجد أكثرهم شاكرين، أقسم لله بعزة الله ليغوينهم أجمعين إلا عباد الله المخلصين.
إن الشيطان لحريص كل الحرص على إغواء بني آدم وإضلالهم، يصدهم عن دين الله، يأمرهم بالفحشاء والمنكر، يحبب إليهم المعاصي ويكره إليهم الطاعات، يأتيهم من كل جانب ويقذفهم بسهامه من كل جبهة، إن رأى من العبد رغبة في الخير ثبطه عنه، وأقعده؛ فإن عجز عنه من هذا الجانب جاءه من جانب الغلو والوسواس والشكوك وتعدي الحدود في الطاعة، فأفسدها عليه، فإن عجز عنه من جانب الطاعات جاءه من جانب المعاصي، فينظر أقوى المعاصي هدما لدينه فأوقعه فيها، فإن عجز عنه من هذا الجانب حاوله من جانب أسهل فأوقعه فيما دونها من المعاصي، فإذا وقع في شرك المعاصي فقد نال الشيطان منه بغيته، فإن يكسل في نفسه تارة ويفتح عليه الشيطان باب التسويف تارة يقول له: هذه هينة، افعلها هذه المرة، وتب إلى الله تعالى فباب التوبة مفتوح، وربك غفور رحيم.
فلا يزال به يعده ويمنيه وما يعده إلا غرورا، فإذا وقع في هذه المعصية التي كان يراها من قبل صعبة كبيرة وهانت عليه؛ تدرج به الشيطان إلى ما هو أكبر منها وهكذا أبدا حتى يخرجه من دينه كله ولقد أشار النبي إلى هذا التدرج فيما رواه الإمام أحمد عن سهل بن سعد أن النبي قال: ((إياكم ومحقرات الذنوب، فإنما مثل محقرات الذنوب كمثل قوم نزلوا بطن واد فجاء ذا بعود وذا بعود حتى أنضجوا خبزهم وإن محقرات الذنوب متى يؤخذ بها صاحبها تهلكه))رواه أحمد والطبراني، وصححه الهيثمي والألباني.
عباد الله: احذروا مكايد الشيطان ومكره فإنه يتنوع في ذلك ويتلون، فهذا يأتيه من قبل الإيمان والتوحيد فيوقعه في الشك أحيانا وفي الشرك أحيانا، وهذا يأتيه من قبل الصلاة فيوقعه في التهاون بها والإخلال، وهذا يأتيه من قبل الزكاة فيوقعه في البخل بها أو صرفها في غير مستحقها، وهذا يأتيه من قبل الصيام فيوقعه فيما ينقضه من سيئ الأقوال والأفعال، وهذا يأتيه من قبل الحج فيوقعه في التسويف به حتى يأتيه الموت وما حج، وهذا يأتيه من قبل حقوق الوالدين والأقارب؛ فيوقعه في العقوق والقطيعة. وهذا يأتيه من قبل الأمانة فيوقعه في الغش والخيانة، وهذا يأتيه من قبل المال فيوقعه في اكتسابه من غير مبالاة، فيكتسبه عن طريق الحرام بالربا تارة وبالغرور والجهالة تارة وبأخذه الرشوة أحيانا وبإهمال عمله تارة، إلى غيره ذلك من أنواع المعاصي وأجناسها التي يغر بها الشيطان بني آدم، ثم يتخلى عنهم عندما يكونون أحوج إلى المساعد والمعين.
اسمعوا قول الله تعالى في غرور الشيطان لأبوينا آدم وحواء حين أسكنهما الله تعالى الجنة وأذن لهما أن يأكلا رغدا من حيث شاءا من أشجارها وثمارها سوى شجرة واحدة عينها لهما بالإشارة ولا تقربا هذه الشجرة، ولكن الشيطان وسوس لهما وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين فدلاهما أي أنزلهما من مرتبة الطاعة وعلو المنزلة بغرور، واسمعوا خداعه لقريش في الخروج إلى بدر وتخليه عنهم حيث يقول الله تعالى في ذلك: "وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب" سورة الأنفال.
واسمعوا قول الله تعالى في خداع الشيطان لكل إنسان وتخليه عنه حيث يقول الله تعالى: "كمثل الشيطان إذ قال للإنسان أكفر فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها وذلك جزاء الظالمين"سورة الحشر، "وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمون من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم" سورة إبراهيم.
عباد الله إن كل ما تجدون في نفوسكم من تكاسل عن الطاعات وتهاون بالمعاصي فإنه من وساوس الشيطان ونزغاته فإذا وجدتم ذلك فاستعيذوا بالله منه، فإن في ذلك الشفاء والخلاص قال الله تعالى: "وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون"سورة الأعراف.
اللهم أعذنا من الشيطان الرجيم واجعلنا من عبادك المخلصين، الذين ليس له سلطان عليهم وعلى ربهم يتوكلون، واغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين، إنك جواد كريم غفور رحيم.
ـــــــــــ
(*) خطبة لسماحة الشيخ من موقع المنبر الإلكتروني.