صناعة الرحيل
الرحيل لاشك أنه أمر شديد قاسى الشدة. فراق بعد لقاء،
أن تأتى لحظة فيرحل الواحد منا عن أهله.. عن بيته.. عن أولاده.. عن
سيارته.. عن ثيابه.. عن بريده الإلكترونى .. أن يصير ذكرى.. أن يحمل لقبا
جديدا غير كل ألقاب الدنيا.. شيء مفزع مرعب أن نفارق من نحب..
ولكنى لم
أتزوج! لم أبنى بيتي الجميل.. لم أحقق أحلامي.. لم أستمتع بأولادى .. كلمات
وغيرها من كلمات، نراها ونسمعها ونشاهدها ونعيشها، ولكنها في النهاية لا
توقف موكب الرحيل الذى لا يتوقف.
والغريب أنه مع اختلاف البشرية على
أشياء كثيرة، ولكنها اتفقت على الرحيل.. على كونه لزاماً أن يحدث.. أن
يكون.. أن يأتي .. ولكن ما امتاز به سلفنا الصالح استعدادهم لهذه الفكرة..
جهدهم في صناعتها.. حركتهم نحوها.. تفكيرهم فيها.. كان الرحيل نقطة ارتكاز
حياتهم .. يصحون وينامون وهم فيها يعيشون ومن أجلها يتحركون، فلا يهنؤون في
دنياهم وأنّى لهم ذلك! فالرحيل شغلهم الشاغل.
وانظر معي إليه صلى الله عليه وسلم وهو نائم على حصيره – التى أثَّرت في
جنبه وظهر أثر خشونتها على جسده الشريف- .. لا دنيا تشغله .. ولا بيت واسع
يلهيه بنائه . ولا سيارة وإبل وغنم تأخذ بلب علقه.. إنه الرحيل وفقط ..
الدار الآخرة.. ولهذا كان رده صلى الله عليه وسلم عندما سأله الفاروق عمر:
"لو اتخذت فراشا أوْفَر من هذا" فقال صلى الله عليه وسلم: "مالي وللدنيا..
ما مَثلي والدنيا إلا كراكب سار في يوم صائفٍ فاستظل تحت شجرة ثم راح
وتركها" رواه أبو نعيم وغيره، وصححه الألباني.
غرقٌ فى الفكرة
رباه
ألهذا الحد غرق هؤلاء فى هذه الفكرة، فأخذت بلباب فكرهم فشغلتهم عما
سواها؟!. نعم كان. وإليك صور من أناس أخذ التفكير فى الرحيل كل مأخذ منهم:
هاك
سيدنا عطاء السلمي عندما دخلوا عليه يعودونه فى مرضه سائلين: كيف ترى
حالك؟ فيجيب إجابة رجل لا هم ولا فكر له إلا الرحيل: "الموت في عنقي،
والقبر بين يدي، والقيامة موقفي، وجسر جهنم طريقي، و لا أدري ما يفعل بي"،
ثم يبكى بكاء شديداً .. ويقول: "اللهم ارحمني، وارحم وحشتي في قبري ومصرعي،
وارحم مقامي بين يديك يا أرحم الراحمين".
وعش مع كلمات رجل نموذج
فى الإغراق في فكرة الرحيل. وهو ابن السِمَاك: "إن استطعت أن تكون كرجل ذاق
الموت وعاش ما بعده، ثم سأل الرجعة فَأُسْعِفَ في طلبه وأعطيَ حاجته، فهو
متأهب مبادر فافعل، فإنّ المغبون من لم يقَدّم من ماله شيئا، ومن نفسه
لنفسه".
ويقول الخليفة الخامس للخلفاء الراشدين: "لو فارق ذكر الموت
قلبي ساعة لفسد" . ثم انظر إلى كلمات الرجل الصالح الربيع بن خثيم وهو
يقول: "لو غفل قلبي عن ذكر الموت ساعة واحدة لفسد قلبي".
لماذ نكره الرحيل؟
ويبين
هذا الرجل الصالح سر كرهنا للرحيل. واشمزازنا منه. وتشاؤمنا من ذكره.
والهرب منه والضجر والسآم والكره لهذا الرحيل: "لأنكم عمرتم الدنيا وخربتم
الآخرة، فأنتم تكرهون الانتقال من العمران إلى الخراب". صحيح كلامك أيها
الرجل. أصبت الحقيقة ورب السماء. أنّى لنا أن نحب الآخرة! .. أن نحب ما
خربناه .. ونكره ما عمرناه .. لو اجتهدنا أن ندفع ثمن بيت في الجنة كما
نجاهد فى بيوتنا الدنيا لأحبننا الرحيل إليه لنعيش فيه. لو حاولنا أن ندفع
ثمن حديقة من حدائق الجنة كما نحرص ونحاول ونكثر المحاولات فى حدائق
الدنيا وأراضى الدنيا لسارعنا الخطأ إليها.
لكن ماذا لو تذكرنا الرحيل؟! ..
إن
ذكر الموت والرحيل عن الدنيا واحدٌ من أنفع أدوية القلوب وأسباب حياتها
وصلاحها؛ ولهذا المعنى الرائع الذى يسعى إليه كل محب لآخرته كان النبي صلى
الله عليه وسلم يُوصي بالإكثار من ذكر الموت: "أكثروا ذكر هادم اللذات"رواه
الترمذي، وحسنه النووي، والهيثمي والألباني.
أكثروا ففي الإكثار حياة القلوب، وعدم تعلقها بالدنيا والاستعداد كل الاستعداد للآخرة.
وقد سأل رجل عالماً عن دواء لقسوة القلوب. فأمره بعيادة المرضى، وتشييع الجنائز . ففي هذا قرب من فكرة الرحيل.
ولو
ذهبنا لكتاب الإحياء (إحياء علوم الدين) الذي فيه الحياة، لوجدنا كلمة
دقيقة رائعة الدقة يخاطب الإمام الغزالي نفسه بها : "يا نفس، لو أن طبيباً
منعك من أكلة تحبينها لا شك أنك تمتنعين، أيكون الطبيب أصدق عندك من الله
؟" رائع أيها الإمام برائعتك تلك.
ولكنه ليس يأساً
ولكن لحظة يا
سادة قبل أن نفترق، ليس معنى أن نغرق فى الرحيل، ونجهد أنفسنا فى صناعته
بكل ما نملك من أعمال بر وخير وإحسان أن نترك دنيانا يسودها اليأس
والتشاؤم. أو أن نترك الدنيا بما فيها للظلمة يظلمون، والطغاة يطغون. كلا
وألف كلا، إن في استعدادنا للرحيل عمارة الآخرة بعمارة الدنيا. ألا تذكر
معى سلفنا الصالح مع تواصيه بالموت والاستعداد له، فتحوا مشارق الأرض
ومغاربها، وسادوا الدنيا بطاعة الله، وجاءهم الموت فكانوا أفرح بقدومه من
الأم بقدوم ولدها الغائب.. فوجدنا منهم من يقول وهو على فراش الموت: "غدًا
نلقى الأحبة محمدًا وحزبه" رواه أحمد وابن عساكر وصححه الألباني، والله
تعالى أعلم.
محمود القلعاوي