روح تائبة ~
وَ أظلَمت الرُوح .. بشَهقَة يأس وَ تَواري بصِيص نُور،
فحطّت رحالَها بمَكامن العدم وَ أرخت جَسدَها المُنهكَ على رُبوة الاستسلام،
فِي متاهَات المَدينة قسى الفُؤادُ وَ فَترت الهِمم وَ خارَت القُوى وَ أغلِقتُ الأبوابُ بِوسوَسة شَيطَان
فزَيَّنت النفسُ خُطُواتِ الهَوى وَ مَراتِع الدُنيا الزَائلة
فَضعُف الإيمان وَ قوِّي جَبَرُوتُ الشيطَان وَ ضَاعَت السَعادَة
وَ أسِرَت بنَزَواتِ الدُنيا وَ مُغرَيَاتِهَا ..
لكّن هُناك .. ضمِيرٌ حيٌّ دُفنَ بِقَاعِ الحَياةِ .. مَقبُورٌ إلَى أسفَل دَرك،
يَستَنجِدُ مُستَصرخًا رَاجِيًا أنفَاسَ الهِدَايَة وَ بُذُور الطُمأنينَة ..
وَ قليلاً من عَفوٍ وَ غُفران وَ رِضَى رَبٍّ غَير حانِقٍ وَ لاَ غَضبَان
َقَالت مُتَنهدةً وَ زَفرَاتُها تتَعالَى بِصمتٍ وَ خَشيَة :
- أيُمكِنُ لمِثلِي أَن تَتُوب ؟! وَ قد سَلَكتُ طَريق لَهوٍ دُنِّس بالفَحشَاء وَ المُنكَر ؟
- أيُمكِنُ لمِثلِي أَن تَتُوب ؟! وَ قد زَيَّنت لِي نَفسِي سَفاسِف الدُّنيَا وَ أسْرابَ البَاطِل ..
- أيُمكِنُ لمِثلِي أَن تَتُوب ؟!
- أيُمكِنُ لمِثلِي أَن تَتُوب ؟!
بَينَ هَول تَسَاؤُلاتِهَا وَ عُمق حَيرَتِهَا
بَينَ لُجَّة خَطايَاهَا وَ حَلاكِ بَصِيرَتها
يَستَعصَى عَليهَا التَنفُس وَ تَصرَعٌُها سَكرةُ الذنب وَ مرارةُ الخَطيئة ..
::
وَ إذ بأنوارٍ تَنزُلُ من السَماءِ فانقلب جَوف اللَيلِ وَضح نَهار ..
هِي بُشرَى .. هِي ضيَاء .. بَصِيصُ أملٍ وَ تُقَى ..
عَشعَشَ فِي قَلبِها شَيءٌ من رَهبَةٍ وَ تَرقُب ..
وَ إذ بِصوتٍ شَجيِّ تَتَناقَلُهُ عُذُوبة الجَو وَ نَسائِمُ البُرُودة
يُرتِّلُ بِلسَانٍ عربِّي مُبين آياتٍ من الكِتابِ الحَكيم كَلامُ الله رَبِّ العَالمِين ،
قَال الله تَعالى : "قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا
مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ " الزمر53..
قال ابن كثير رحمه الله : ".. إنَّ اللَّه تَعَالَى يُلِين الْقُلُوب بَعْد قَسْوَتهَا
وَيَهْدِي الْحَيَارَى بَعْد ضَلَّتهَا وَيُفَرِّج الْكُرُوب بَعْد شِدَّتهَا
فَكَمَا يُحْيِي الْأَرْض الْمَيِّتَة الْمُجْدِبَة الْهَامِدَة بِالْغَيْثِ الْهَتَّان الْوَابِل
كَذَلِكَ يَهْدِي الْقُلُوب الْقَاسِيَة بِبَرَاهِين الْقُرْآن وَالدَّلَائِل وَيُولِج إِلَيْهَا النُّور
بَعْد أَنْ كَانَتْ مُقْفَلَة لَا يَصِل إِلَيْهَا الْوَاصِل .."
بَين مَعاقِل جُرمِ مَعاصِيهَا وَ فُضُوح شَهَوَاتِهَا وَ تَكاشُف عَورَاتِهَا وَ ازدياد مُنكَراتِهَا ..
ثمَّة همسٌ في جَوى قَلبِهَا يَستَغيثُ بصمتٍ وَ يُناجِي الرَّب الرَحيم
فِي هول السَّواد الذي غطى السَّماء ليلاً ..
للنُور وَ القَبسِ الذِي انهَمرَ هَديًا وَ ضِمادًا لِلَوعَة وِجدَانهَا ..
وَ دمعُ جُفُون رَاودها الكَرى وَ نال منها الهَوى وَ اللذّة الزَائلة،
فَباتَت تستَقطِرُ آهاتِ النَدم وَ آلامَ الغَفلَة فانْكَسر فُؤادُها
وَ ذرَفت عَبراتِ النَدم وَ الحَسرة بشدّة ..
::
هَا هِي نسائم صدق العزيمة على التوبة تَهُب وَ نفحَات الأوبة تَنتَشر ..
فَهمّت إلى شَرانق التَوبة لاهِفةً فِي تَوقٍ شَديد..
فَاغتَسَلت بِماء التَقوَى وَ الخِشيَة لتُعتَقت رَقبَتها
مِن قيدِ الهَوى وَ تُحلَّق كالطَير من سِجنِ المَعصِيَة إلى الخُلوة مَع الله ..
وَ نجّت من شُبَّاكِ الرَذيلة وَ بَحار الخَطيئة ..
فَذَاقت طَعم حَلاوَة الطَاعة و سَكِينة العِبَادة وَ طُهر الإيمان ..
فَكانت مِمن جَاء الله تَائِبًا نَادِمًا .. مُستَبشِرًا برَحمة الله
آملاً بِعفوه وَ غُفرانِه فيفَرح التَّوابُ بِأوبَة عَبده
فَهُو الرَحمن الرَحيم المَنَّان الكَريم
إذ يقول الحديث القدسي يقول الله الكريم القُدُوس:
"من تقرب مني شبراً تقربت منه ذراعاً، ومن تقرب مني ذراعاً
تقربت منه باعاً، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة!" رواه البخاري
فسَجدت لله و صلَّت وَ ابتَهلت وَ دَعت بِعُيُونٍ دَامِعة تَشهقُ خَوفًا :
اللّهم يَا سَامع الدَعوات وَ يَا مُقِيل العَثَرَات و َيَا غَافِر الزَّلات
اجْعلنَا مِن عِبادِك التائِبين وَ اغفِر لََنا ذُنوبَنا ،
اللَّهُم أسألُك بعزّك وَ ذُلي ألاَّ رحِمتنِي ،
أسألُك بِغنَاك عنّي وَ قوَّتك وَ ضَعفِي وَ فَقرِي إليْك ،
اللَّهُم أسألك مَسألة المِسكين وَ أبتهِلُ إليكَ ابتهَال الخَاضِع الذَليل
وَ أدعُوك دُعاء الخَائف الضَرير ، سُؤالُ مَن خَضعت لكَ رَقبتَها
::
و تَمَرّغ لكَ أنفُها وَ فَاضَت لكَ عينُها وَ ذَّل لكَ قَلبُهَا
مَا عصيتُك جَهلاً بك و لاَ استهانةً بحقِّك وَ لا إنكارًا لاطلاعك
وَ لا نسيَانًا لِوعيدِك , وَ لكّن ضَحيَةُ الشَيطانِ وَ النفس وَ الهَوى
وَ كُلّي طمعٌ فِي مَغفرتِك وَ كَرَمك وَ سِعة حلمك
::
هَا هُو ذَا بَابُ التَوبة مَفتُوحٌ مُشرَّع عَلَى مِصرَاعَيه ..
يُنادِي رَبُّ العِبَاد بجوف الليل وَ الغَسق و وَضح النَّهار
أن يَا عِبادِي التَائبين المُذنِبين
هَلُّمُوا لِرحمَةٍ وَ رِضَى وَ رُضوَان،
فَيالَ حُبُور الوَالِجِين وَ غِبطَةِ الأوّابِين وَ سَعادَةِ العَائِدين ...
وَ يَالَ تَعاسَة الضَّالِين المُتَكبرين فَيالَ حَسرَتِهم
إذ لم يَذُوقُوا طَعم التَوبة في رِحابِ الرَحيم جلَّ جَلاَلُه وَ تعالَت أسماءُه،
::
أي أصحابَ الهِمم وَ عُشاقَ الجّنان وَ المُشتاقينَ لِمُلاقَاة الرَحمن
فَلنُبادر قَبل أن يُغلَق يَوم لاَ يُجدِي دَمعٌ وَ لاَ أنين وَ لاَ عُذرٌ وَ لاَ عِبر ،
فالآن الآن أيها العُصاةُ ، أيُّها النَادمون ، أيٌُّها المُذنبون ..
بَادروا بالوُلُوج قَبل فوات الأوان حِين لاَ يَنفَعُ النَدمُ وَ لاَ الحَسرة،
فَسارِعُوا .. قَبل أن تَقُولُوا :
"ربِّ ارجعون لعلِي أعملُ صالحاً"
"يَا لَيتَني قدَّمت لِحياتي"
"ربَّنا أخرنا إلى أجلٍ قريبٍ نجب دعوتك وَ نتبع الرُسل"
"ربَّنا أخرجنا منها فإن عُدنا فإنا ظَالمون"
"يا ليتني اتخَذت معَ الرسُول سبيلاً "
"لَيتنِي لَم اتخِذ فلاناً خليلاً لقد أضَّلني عَن الذكر بعد إذ جَاءني وَ كان الشيطانُ للإنسانِ خذولاً"
::
علَّها هَمسَاتٌ تَجدُ فِي قُلُوبِكُم مُستَقرًا للخَير وَ الصَّلاح..
جَعَلَنَا اللهُ وَ إيَّاكُم من التَائبينَ وَ التَائِبَات ،،
وَ صلَّ اللهُ عَلَى الحَبيب المُصطَفَى،،
و السّلام مسك الختام
منقول