اللَّـهُمَّ إِنَّا نَـعُوذُ بِكَ مِنْ شَتَاتِ الأَمْرِ
الْحَمْدُ للهِ الَّذِي وَطَّنَ قُلُوبَ أَولِيَائِهِ بِاليَقِينِ، وَحَفِظَهُمْ مِنْ زَيْغِ القُلُوبِ وَعَدَمِ ثَبَاتِ الدِّينِ، وَأَشْهَدُ أَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لِلْعَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، اسْتَعَاذَ مِنْ شَتَاتِ الأَمْرِ وَوَسَاوِسِ الصَّدْرِ، rوَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ الهُدَاةِ المُتَّقِينَ، وَمَنْ سَارَ عَلَى دَرْبِهِمْ وَسَلَكَ سَبِيلَهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ؛ فَيَا عِبَادَ اللهِ:
إِنَّ تَحْـقِيقَ الحَيَاةِ الهَنِيئَةِ مَقْصَدٌ دِينِيٌّ، وَمَطْلَبٌ إِنْسَانِيٌّ، يَسْعَى مِنْ أَجْـلِهِ العَارِفُونَ، وَيَحْرِصُ عَلَيْهِ البَشَرُ أَجْمَعُونَ، لِمَا لِظِلالِ الهَنَاءِ مِنْ رَاحَةٍ وَاطْمِئْنَانٍ، وَاستِقْرَارٍ وَأَمَانٍ، وَلِكَوْنِ ذَلِكَ مُعِينًا عَلَى إِقَامَةِ شَعَائِرِ الدِّينِ، وَطَاعَةِ اللهِ رَبِّ العَالَمِينَ، يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: ]ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ[([1])،وَمِنَ الحَيَاةِ الهَنِيئَةِ الطَّيِّـبَةِ أَنْ تَكُونَ أُمُورُ الإِنْسَانِ وَأَحْوَالُهُ عَلَى نَسَقٍ وَانْتِظَامٍ، وَقَدْ كَانَ مِنْ دُعَاءِ الرَّسُولِ الأَمِينِ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ - قَولُهُ: ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَتَاتِ الأَمْرِ))، وَشَتَاتُ الأَمْرِ مَعْنَاهُ تَفَرُّقُهُ وَاخْتِلافُهُ، وَاضْطِرَابُ أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ. وَاستِعَاذَةُ الرَّسُولِ r مِنْ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى شِدَّةِ الأَمْرِ وَخُطُورَتِهِ، وَتَعَلُّقِهِ بِشفَلاحِ المَرْءِ وَسَعَادَتِهِ؛ فَإِنَّ شَتَاتَ الأَمْرِ دَلِيلٌ عَلَى فَوْضَى يَعِيشُ المَرْءُ تَبِعَاتِهَا، وَعَلامَةٌ عَلَى قِلَّةِ الانْضِبَاطِ وَالوَعْيِ، وَانْحِسَارِ قِيَمِ المَسْؤُولِيَّةِ، فَيَكُونُ نِظَامُ الحَيَاةِ عَلَى خَلَلٍ، وَتَخْتَلِطُ أَوْرَاقُ الأَوَّلِيَّاتِ، فَلا يَدْرِي صَاحِبُهَا مَا يَأْخُذُ مِنْهَا وَمَا يَتْرُكُ، وَلا مَا يَبْدَأُ بِهِ أَوْ يُؤَخِّرُ، وَقَدْ نَهَى دِينُنَا الحَنِيفُ عَنِ العَبَثِ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَدَعَا إِلَى تَنْظِيمِ الأُمُورِ وَتَرتِيبِهَا، وَتَقْسِيمِ الأَوقَاتِ بِحَسَبِ العَمَلِ، وَهُوَ سُلُوكٌ يَتَرَبَّى المُسلِمُ عَلَيْهِ عِنْدَمَا يَنْظُرُ فِي الكَوْنِ وَنِظَامِهِ، وَيَتَفَكَّرُ فِي الأَرْضِ وَانْسِجَامِهَا، وَعِنْدَمَا يَقُومُ بِأَدَاءِ العِبَادَاتِ عَلَى وَجْهِهَا، كَالصَّلاةِ الَّتِي وَقَّتَ اللهُ عَمَلَهَا فَقَالَ: ]ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ [([2])، وَالصَّوْمِ الَّذِي حَدَّدَ اللهُ فَرْضَهُ فِي البَدْءِ وَالخِتَامِ فَقَالَ: ] ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄﮅ[([3])، وَوَقَّتَ عَزَّ وَجَلَّ لِلْحَجِّ وَقْتًا مَعْـلُومًا فَقَالَ: ]ﭑ ﭒ ﭓ[([4])، وَهَكَذَا فِي كَثِيرٍ مِنَ العِبَادَاتِ؛ فَلا يَكُونُ المَرْءُ مُتَحَيِّرًا فِي أَدَائِهَا، وَلا مُضْطَرِبًا فِي وَقْتِهَا.
أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ:
لِشَتَاتِ الأَمْرِ صُوَرٌ كَثِيرَةٌ، بِحَسَبِ الظُّرُوفِ وَالأَحْوَالِ، وَتَغَايُرِ الزَّمَانِ وَالمَكَانِ، فَمِنْهَا أَنْ يَتَفَرَّقَ الإِنْسَانُ فِي أَفْكَارِهِ؛ فَلا يَقِرَّ عَلَى قَرَارٍ، تَنْتَابُهُ الهَوَاجِسُ وَالوَسَاوِسُ، وَيَرْضَخُ لِلظُّنُونِ، وَيَتَّبِعُ خَلَجَاتِ السُّوْءِ وَشَذَرَاتِ الهَمِّ وَحَدِيثَ النَّفْسِ، مَعَ أَنَّ اللهَ كَفَاهُ مَؤُونَةَ ذَلِكَ كُلِّهِ؛ فَلا يُحَاسِبُهُ عَلَيْهَا، يَقُولُ الرَّسُولُ r : ((إَنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لأُمَّـتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَتَكَلَّمْ بِهِ أَوْ تَعْمَلْ))، وَمِنْ لُطْفِ اللهِ وَكَرَمِهِ أَنَّ هَذِهِ الخَطِرَاتِ السَّيِّـئَةَ لا اعتِدَادَ بِهَا فِي مِيزَانِ اللهِ، مِمَّا يَزِيدُ المُؤْمِنَ تَبَصُّرًا وَاطْمِئْنَانًا، فَلا يَتَّبِعُهَا أَوْ يُكَاثِرُهَا، يَقُولُ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ- فِيمَا يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّ العِزَّةِ وَالجَلالِ فِي الحَدِيثِ القُدُسِيِّ: ((إذَا هَمَّ عَبْدِي بِسَيِّئَةٍ فَلا تَكْتُبُوهَا عَلَيْهِ، فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا سَيِّئَةً، وَإِذَا هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا فَاكْتُبُوهَا حَسَنَةً، فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا عَشْرًا)).
أَيُّهَا المُسلِمُونَ:
مِنْ صُوَرِ شَتَاتِ الأَمْرِ أَيْضًا أَنْ تَتَفَرَّقَ بِالإِنْسَانِ أَعْمَالُهُ، وَتَخْتَلِفَ عَلَيْهِ الوَظَائِفُ وَالحِرَفُ؛ فَلا يُوَطِّنَ نَفْسَهُ عَلَى أَحَدِهَا، وَلا يَتَخَصَّصَ فِي أَمْرٍ يُحِبُّهُ وَيَرتَضِيهِ، بَلْ يَتْرُكُ أَمْرَهُ لِلظُّرُوفِ، وَيَرْجُو أَنْ تُنْقِذَهُ الحُظُوظُ، فَتَجِدُهُ يَتَنَقَّلُ بَيْنَهُا دُونَ سَبَبٍ مُقْنِعٍ، وَهُنَاكَ أَعْمَالٌ أُخْرَى يَرفُضُ مُزَاوَلَتَهَا مِنَ الأَسَاسِ، وَهُوَ يَدْرِي صُعُوبَةَ الحُصُولِ عَلَى فُرَصِ العَمَلِ، فَمِثْلُ هَذَا جَدِيرٌ بِأَنْ يُرَاجِعَ نَفْسَهُ، وَيُحَدِّثَهَا بِالنَّجَاحِ، وَلْيَعْـلَمْ أَنَّ لِلنَّجَاحِ أَسْبَابًا وَمَدَاخِلَ، وَمِنْ أَسْبَابِ نَجَاحِهِ أَنْ يَكُونَ صَاحِبَ صَنْعَةٍ مَطْلُوبَةٍ، وَحِرفَةٍ يَحْـتَاجُ النَّاسُ إِلَى الخَبِيرِ فِيهَا، وَهَذَا مُعَاكِسٌ لِلتَّشَتُّتِ بَيْنَ الحِرَفِ، فَعَلَى المَرْءِ أَنْ يُوَطِّنَ نَفْسَهُ عَلَى صَنْعَةٍ يُبْدِعُ فِيهَا، وَيَجِدُ فِيهَا لَذَّةَ عَنَائِهِ، وَبَهْجَةَ سَعْيِهِ، فَإِنَّ رِزقًا وَافِرًا سَيَأْتِيهِ - بِإِذْنِ اللهِ -، وَاللهُ يُحِبُّ مِنَ العَامِلِ أَنْ يُتْقِنَ عَمَلَهُ، كَمَا بَيَّنَ الرَّسُولُ r ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: ((إِنَّ اللهَ يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلاً أَنْ يُتْقِنَهُ))، وَأُثِرَ عَنْ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ - أَنَّهُ قَالَ: ((قِيمَةُ كُلِّ امْرِئٍ مَا يُحْسِنُهُ))، أَيْ قِيمَتُهُ فِي مَهَارَتِهِ وَإِتْقَانِ عَمَلِهِ.
وَمِنْ شَتَاتِ الأَمْرِ - عِبَادَ اللهِ - أَنْ يَتَشَتَّتَ النَّاسُ فِي العَلاقَاتِ الأُسْرِيَّةِ وَالاجتِمَاعِيَّةِ؛ فَلا وَاصِلَ لَهَا، وَلا مُقَدِّرَ لِحَقِّهَا، وَلا قَائِمًا بِحُقُوقِهَا، وَرُبَّمَا وَجَدْتَهُمْ يَخْتَلِفُونَ حَيْثُ الوَاجِبُ الاتِّفَاقُ بَيْنَهُمْ، وَيَضْطَرِبُونَ وَيَتَنَازَعُونَ وَالصُّـلْحُ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَالخَيْرِ، وَتَذْهَبُ بِهِمْ سُبُلُ الإِعْرَاضِ وَالقَطِيعَةِ، كَأَنْ لا قُرْبَى وَلا صَدَاقَةَ، وَلا رَحِمَ وَلا نَسَبَ، مَعَ عِظَمِ ذَلِكَ وَخَطَرِهِ؛ إِذْ قَرَنَ اللهُ الأَرْحَامَ بِذَاتِهِ العَلِيَّةِ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ: ]ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠﭡﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ[([5]).
فَاتَّقُوا اللهَ - عِبَادَ اللهِ -، وَاستَعِينُوا بِاللهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى تَوْطِينِ أَنْفُسِكُمْ عَلَى مَا فِيهِ خَيْرُكُمْ، وَخَيْرُ أَنْفُسِكُمْ وَأُسَرِكُمْ وَمُجتَمَعَاتِكُمْ، وَتَعَوَّذُوا بِاللهِ مِنْ شَتَاتِ الأَمْرِ فِي جَمِيعِ جَوَانِبِ حَيَاتِكُمْ.
أقُولُ قَوْلي هَذَا وَأسْتغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ لي وَلَكُمْ، فَاسْتغْفِرُوهُ يَغْفِرْ لَكُمْ إِنهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَادْعُوهُ يَسْتجِبْ لَكُمْ إِنهُ هُوَ البَرُّ الكَرِيْمُ.
*** *** ***
الْحَمْدُ للهِ مُبْدِعِ الكَوْنِ بِانْتِظَامِ أَجْرَامِهِ، وَخَالِقِ الزَّمَانِ بِتَنَاسُقِ لَيَالِيهِ وَأَيَّامِهِ، نَحْمَدُهُ سُبْحَانَهُ عَلَى تَوَالِي فَضْـلِهِ وَإِنْعَامِهِ، وَأَشْهَدُ أَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، بَعَثَهُ اللهُ مُرْشِدًا إِلَى أَحْكَامِهِ، وَدَاعِيًا إِلَى الصَّلاحِ وَإِتْمَامِهِ، r وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ: اتَّقُوا اللهَ وَأَحْسِنُوا، وَالتَزِمُوا نَهْجَ الخَيْرِ وَوَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ عَلَيْهِ، وَاعلَمُوا أَنَّ النِّظَامَ عِلْمٌ يُتَعَلَّمُ، وَسُلُوكٌ يُكْتَسَبُ، وَذَوقٌ وَأَخْلاقٌ، يُمْكِنُ الْمَرْءَ أَنْ يَتَدَرَّبَ عَلَيْهِ، وَخَيْرُ مَا يَتَعَلَّمُهُ المَرْءُ فِي دُنْيَاهُ مَا يُصْـلِحُ بِهِ أَحْوَالَ مَعَاشِهِ، وَتَنْتَظِمُ بِهِ أُمُورُهُ، وَيَكُونُ لَهُ مِنَ التَّوفِيقِ نَصِيبٌ، وَيَخْرُجُ مِنَ التَّشَتُّتِ إِلَى التَّرْكِيزِ. أَلاَ وَإِنَّ لأَنْفُسِكُمْ عَلَيْكُمْ حَقًّا، وَلأَهْـلِكُمْ عَلَيْـكُمْ حَقًّا، فَأَعْطُوا كُلَّ هَؤُلاءِ حُقُوقَهُمْ، وَقُومُوا بِالوَاجِبِ تِجَاهَهُمْ، فَالأَعْمَالُ لا تَنْقَضِي، وَالمَوَاعِيدُ مَهْمَا كَثُرَتْ يُمْكِنُ إِعَادَةُ تَرتِيبِهَا، وَاعْـلَمُوا أَنَّ الأُلْفَةَ مَعَ الأَهْـلِ وَالجُلُوسَ إِلَى الأُسْرَةِ وَزِيَارَةَ الأَرْحَامِ وَالأَصْدِقَاءِ زِيَادَةٌ فِي العُمُرِ، وَبَرَكَةٌ فِي الرِّزْقِ، وَمِنْ حَقِّ النَّفْسِ حُسْنُ رِعَايَتِهَا، وَحِفْظُ أَعْضَائِهَا، فَالمَالُ وَحْدَهُ لا يَجْـلِبُ الصِّحَّةَ، وَالثَّرْوَةُ وَحْدَهَا لا تَصنَعُ العَافِيَةَ، وَاللهُ تَعَالَى يَقُولُ: ]ﭹ ﭺ ﭻﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ [([6])، فَعَلَى المُسْلِمِ أَنْ يَتَحَوَّلَ مِنَ الشَّتَاتِ إِلَى النِّظَامِ، وَنُقْطَةُ التَّحَوُّلِ هَذِهِ - يَا عِبَادَ اللهِ - مَرَدُّهَا إِلَى قُوَّةِ النَّفْسِ، وَالثِّقَةِ بِالإِمْكَانَاتِ، فَيَكْتَسِبُ المَرْءُ بِهَا القُدْرَةَ عَلَى تَحقِيقِ مَا يَطْلُبُ، وَيَسْـتَقِلُّ فِي اتِّخَاذِ القَرَارِ الصَّحِيحِ لِنَفْسِهِ، دُونَ أَنْ يَتَخَلَّى عَنْ طَلَبِ المَشُورَةِ مِنْ أَهْـلِهَا، وَقَدْ حَذَّرَ الرَّسُولُ r الإِنْسَانَ مِنْ أَنْ يَكُونَ رِيشَةً فِي مَهَبِّ الظُّرُوفِ، يَمِيلُ حَيْثُ تَمِيلُ، وَلا يَقْدِرُ عَلَى الثَّبَاتِ وَالتَّوَطُّنِ، فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ -: (( لا تَكُونُوا إمَّعَةً؛ تَقُولُونَ: إنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنَّا، وَإِنْ ظَلَمُوا ظَلَمْـنَا، وَلَكِنْ وَطِّنُوا أَنْـفُسَكُمْ إنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَنْ تُحْسِنُوا، وَإِنْ أَسَاؤُوا ألاَّ تَظْلِمُوا)).
فَاتَّقُوا اللهَ - أَيُّهَا المُسلِمُونَ -، وَتَوَاصَوا فِيمَا بَيْنَكُمْ بِأَهَمِّيَّةِ النِّظَامِ فِي جَمِيعِ الأَعْمَالِ، وَحُثُّوا أَبْنَاءَكُمْ عَلَى تَنْظِيمِ أَوقَاتِهِمْ، فَإِنَّهُ مِنْ أَهَمِّ عَوَامِلِ نَجَاحِهِمْ، ] ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟﯠ[([7]).
هَذَا وَصَلُّوْا وَسَلِّمُوْا عَلَى إِمَامِ الْمُرْسَلِيْنَ، وَقَائِدِ الْغُرِّ الْمُحَجَّلِيْنَ، فَقَدْ أَمَرَكُمُ اللهُ تَعَالَى بِالصَّلاَةِ وَالسَّلاَمِ عَلَيْهِ فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ حَيْثُ قَالَ عَزَّ قَائِلاً عَلِيْمًا: )ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ(([8]).
اللَّهُمَّ صَلِّ وسَلِّمْ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ وسَلّمْتَ عَلَى سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ، وَبَارِكْ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ، فِي العَالَمِيْنَ إِنَّكَ حَمِيْدٌ مَجِيْدٌ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنْ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِيْنَ، وَعَنْ أَزْوَاجِهِ أُمَّهَاتِ المُؤْمِنِيْنَ، وَعَنْ سَائِرِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِيْنَ، وَعَنْ المُؤْمِنِيْنَ وَالمُؤْمِنَاتِ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ، وَعَنَّا مَعَهُمْ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ.
اللَّهُمَّ اجْعَلْ جَمْعَنَا هَذَا جَمْعًا مَرْحُوْمًا، وَاجْعَلْ تَفَرُّقَنَا مِنْ بَعْدِهِ تَفَرُّقًا مَعْصُوْمًا، وَلا تَدَعْ فِيْنَا وَلا مَعَنَا شَقِيًّا وَلا مَحْرُوْمًا.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالعَفَافَ وَالغِنَى.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ أَنْ تَرْزُقَ كُلاًّ مِنَّا لِسَانًا صَادِقًا ذَاكِرًا، وَقَلْبًا خَاشِعًا مُنِيْبًا، وَعَمَلاً صَالِحًا زَاكِيًا، وَعِلْمًا نَافِعًا رَافِعًا، وَإِيْمَانًا رَاسِخًا ثَابِتًا، وَيَقِيْنًا صَادِقًا خَالِصًا، وَرِزْقًا حَلاَلاًَ طَيِّبًا وَاسِعًا، يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ.
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلاَمَ وَالْمُسْلِمِيْنَ، وَوَحِّدِ اللَّهُمَّ صُفُوْفَهُمْ، وَأَجْمِعْ كَلِمَتَهُمْ عَلَى الحَقِّ، وَاكْسِرْ شَوْكَةَ الظَّالِمِينَ، وَاكْتُبِ السَّلاَمَ وَالأَمْنَ لِعِبادِكَ أَجْمَعِينَ.
اللَّهُمَّ رَبَّنَا احْفَظْ أَوْطَانَنَا وَأَعِزَّ سُلْطَانَنَا وَأَيِّدْهُ بِالْحَقِّ وَأَيِّدْ بِهِ الْحَقَّ يَا رَبَّ العَالَمِيْنَ.
اللَّهُمَّ رَبَّنَا اسْقِنَا مِنْ فَيْضِكَ الْمِدْرَارِ، وَاجْعَلْنَا مِنَ الذَّاكِرِيْنَ لَكَ في اللَيْلِ وَالنَّهَارِ، الْمُسْتَغْفِرِيْنَ لَكَ بِالْعَشِيِّ وَالأَسْحَارِ.
اللَّهُمَّ أَنْزِلْ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِ السَّمَاء وَأَخْرِجْ لَنَا مِنْ خَيْرَاتِ الأَرْضِ، وَبَارِكْ لَنَا في ثِمَارِنَا وَزُرُوْعِنَا وكُلِّ أَرزَاقِنَا يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ.
رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوْبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا، وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً، إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ.
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُوْنَنَّ مِنَ الخَاسِرِيْنَ.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِيْنَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَالْمُسْلِمِيْنَ وَالْمُسْلِمَاتِ، الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالأَمْوَاتِ، إِنَّكَ سَمِيْعٌ قَرِيْبٌ مُجِيْبُ الدُّعَاءِ.
عِبَادَ اللهِ:
)ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇﮈ ﮉ ﮊ ﮋ (.
([1]) سورة النحل / 97 .
([2]) سورة النساء/ 103.
([3]) سورة البقرة/ 187.
([4]) سورة البقرة/ 197.
([5]) سورة النساء/ 1.
([6]) سورة النساء/ 29.
([7]) سورة البقرة/ 110.
([8]) سورة الأحزاب / 56 .
U
اللَّـهُمَّ إِنَّا نَـعُوذُ بِكَ مِنْ شَتَاتِ الأَمْرِ
الْحَمْدُ للهِ الَّذِي وَطَّنَ قُلُوبَ أَولِيَائِهِ بِاليَقِينِ، وَحَفِظَهُمْ مِنْ زَيْغِ القُلُوبِ وَعَدَمِ ثَبَاتِ الدِّينِ، وَأَشْهَدُ أَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لِلْعَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، اسْتَعَاذَ مِنْ شَتَاتِ الأَمْرِ وَوَسَاوِسِ الصَّدْرِ، rوَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ الهُدَاةِ المُتَّقِينَ، وَمَنْ سَارَ عَلَى دَرْبِهِمْ وَسَلَكَ سَبِيلَهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ؛ فَيَا عِبَادَ اللهِ:
إِنَّ تَحْـقِيقَ الحَيَاةِ الهَنِيئَةِ مَقْصَدٌ دِينِيٌّ، وَمَطْلَبٌ إِنْسَانِيٌّ، يَسْعَى مِنْ أَجْـلِهِ العَارِفُونَ، وَيَحْرِصُ عَلَيْهِ البَشَرُ أَجْمَعُونَ، لِمَا لِظِلالِ الهَنَاءِ مِنْ رَاحَةٍ وَاطْمِئْنَانٍ، وَاستِقْرَارٍ وَأَمَانٍ، وَلِكَوْنِ ذَلِكَ مُعِينًا عَلَى إِقَامَةِ شَعَائِرِ الدِّينِ، وَطَاعَةِ اللهِ رَبِّ العَالَمِينَ، يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: ]ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ[([1])،وَمِنَ الحَيَاةِ الهَنِيئَةِ الطَّيِّـبَةِ أَنْ تَكُونَ أُمُورُ الإِنْسَانِ وَأَحْوَالُهُ عَلَى نَسَقٍ وَانْتِظَامٍ، وَقَدْ كَانَ مِنْ دُعَاءِ الرَّسُولِ الأَمِينِ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ - قَولُهُ: ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَتَاتِ الأَمْرِ))، وَشَتَاتُ الأَمْرِ مَعْنَاهُ تَفَرُّقُهُ وَاخْتِلافُهُ، وَاضْطِرَابُ أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ. وَاستِعَاذَةُ الرَّسُولِ r مِنْ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى شِدَّةِ الأَمْرِ وَخُطُورَتِهِ، وَتَعَلُّقِهِ بِفَلاحِ المَرْءِ وَسَعَادَتِهِ؛ فَإِنَّ شَتَاتَ الأَمْرِ دَلِيلٌ عَلَى فَوْضَى يَعِيشُ المَرْءُ تَبِعَاتِهَا، وَعَلامَةٌ عَلَى قِلَّةِ الانْضِبَاطِ وَالوَعْيِ، وَانْحِسَارِ قِيَمِ المَسْؤُولِيَّةِ، فَيَكُونُ نِظَامُ الحَيَاةِ عَلَى خَلَلٍ، وَتَخْتَلِطُ أَوْرَاقُ الأَوَّلِيَّاتِ، فَلا يَدْرِي صَاحِبُهَا مَا يَأْخُذُ مِنْهَا وَمَا يَتْرُكُ، وَلا مَا يَبْدَأُ بِهِ أَوْ يُؤَخِّرُ، وَقَدْ نَهَى دِينُنَا الحَنِيفُ عَنِ العَبَثِ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَدَعَا إِلَى تَنْظِيمِ الأُمُورِ وَتَرتِيبِهَا، وَتَقْسِيمِ الأَوقَاتِ بِحَسَبِ العَمَلِ، وَهُوَ سُلُوكٌ يَتَرَبَّى المُسلِمُ عَلَيْهِ عِنْدَمَا يَنْظُرُ فِي الكَوْنِ وَنِظَامِهِ، وَيَتَفَكَّرُ فِي الأَرْضِ وَانْسِجَامِهَا، وَعِنْدَمَا يَقُومُ بِأَدَاءِ العِبَادَاتِ عَلَى وَجْهِهَا، كَالصَّلاةِ الَّتِي وَقَّتَ اللهُ عَمَلَهَا فَقَالَ: ]ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ [([2])، وَالصَّوْمِ الَّذِي حَدَّدَ اللهُ فَرْضَهُ فِي البَدْءِ وَالخِتَامِ فَقَالَ: ] ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄﮅ[([3])، وَوَقَّتَ عَزَّ وَجَلَّ لِلْحَجِّ وَقْتًا مَعْـلُومًا فَقَالَ: ]ﭑ ﭒ ﭓ[([4])، وَهَكَذَا فِي كَثِيرٍ مِنَ العِبَادَاتِ؛ فَلا يَكُونُ المَرْءُ مُتَحَيِّرًا فِي أَدَائِهَا، وَلا مُضْطَرِبًا فِي وَقْتِهَا.
أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ:
لِشَتَاتِ الأَمْرِ صُوَرٌ كَثِيرَةٌ، بِحَسَبِ الظُّرُوفِ وَالأَحْوَالِ، وَتَغَايُرِ الزَّمَانِ وَالمَكَانِ، فَمِنْهَا أَنْ يَتَفَرَّقَ الإِنْسَانُ فِي أَفْكَارِهِ؛ فَلا يَقِرَّ عَلَى قَرَارٍ، تَنْتَابُهُ الهَوَاجِسُ وَالوَسَاوِسُ، وَيَرْضَخُ لِلظُّنُونِ، وَيَتَّبِعُ خَلَجَاتِ السُّوْءِ وَشَذَرَاتِ الهَمِّ وَحَدِيثَ النَّفْسِ، مَعَ أَنَّ اللهَ كَفَاهُ مَؤُونَةَ ذَلِكَ كُلِّهِ؛ فَلا يُحَاسِبُهُ عَلَيْهَا، يَقُولُ الرَّسُولُ r : ((إَنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لأُمَّـتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَتَكَلَّمْ بِهِ أَوْ تَعْمَلْ))، وَمِنْ لُطْفِ اللهِ وَكَرَمِهِ أَنَّ هَذِهِ الخَطِرَاتِ السَّيِّـئَةَ لا اعتِدَادَ بِهَا فِي مِيزَانِ اللهِ، مِمَّا يَزِيدُ المُؤْمِنَ تَبَصُّرًا وَاطْمِئْنَانًا، فَلا يَتَّبِعُهَا أَوْ يُكَاثِرُهَا، يَقُولُ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ- فِيمَا يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّ العِزَّةِ وَالجَلالِ فِي الحَدِيثِ القُدُسِيِّ: ((إذَا هَمَّ عَبْدِي بِسَيِّئَةٍ فَلا تَكْتُبُوهَا عَلَيْهِ، فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا سَيِّئَةً، وَإِذَا هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا فَاكْتُبُوهَا حَسَنَةً، فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا عَشْرًا)).
أَيُّهَا المُسلِمُونَ:
مِنْ صُوَرِ شَتَاتِ الأَمْرِ أَيْضًا أَنْ تَتَفَرَّقَ بِالإِنْسَانِ أَعْمَالُهُ، وَتَخْتَلِفَ عَلَيْهِ الوَظَائِفُ وَالحِرَفُ؛ فَلا يُوَطِّنَ نَفْسَهُ عَلَى أَحَدِهَا، وَلا يَتَخَصَّصَ فِي أَمْرٍ يُحِبُّهُ وَيَرتَضِيهِ، بَلْ يَتْرُكُ أَمْرَهُ لِلظُّرُوفِ، وَيَرْجُو أَنْ تُنْقِذَهُ الحُظُوظُ، فَتَجِدُهُ يَتَنَقَّلُ بَيْنَهُا دُونَ سَبَبٍ مُقْنِعٍ، وَهُنَاكَ أَعْمَالٌ أُخْرَى يَرفُضُ مُزَاوَلَتَهَا مِنَ الأَسَاسِ، وَهُوَ يَدْرِي صُعُوبَةَ الحُصُولِ عَلَى فُرَصِ العَمَلِ، فَمِثْلُ هَذَا جَدِيرٌ بِأَنْ يُرَاجِعَ نَفْسَهُ، وَيُحَدِّثَهَا بِالنَّجَاحِ، وَلْيَعْـلَمْ أَنَّ لِلنَّجَاحِ أَسْبَابًا وَمَدَاخِلَ، وَمِنْ أَسْبَابِ نَجَاحِهِ أَنْ يَكُونَ صَاحِبَ صَنْعَةٍ مَطْلُوبَةٍ، وَحِرفَةٍ يَحْـتَاجُ النَّاسُ إِلَى الخَبِيرِ فِيهَا، وَهَذَا مُعَاكِسٌ لِلتَّشَتُّتِ بَيْنَ الحِرَفِ، فَعَلَى المَرْءِ أَنْ يُوَطِّنَ نَفْسَهُ عَلَى صَنْعَةٍ يُبْدِعُ فِيهَا، وَيَجِدُ فِيهَا لَذَّةَ عَنَائِهِ، وَبَهْجَةَ سَعْيِهِ، فَإِنَّ رِزقًا وَافِرًا سَيَأْتِيهِ - بِإِذْنِ اللهِ -، وَاللهُ يُحِبُّ مِنَ العَامِلِ أَنْ يُتْقِنَ عَمَلَهُ، كَمَا بَيَّنَ الرَّسُولُ r ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: ((إِنَّ اللهَ يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلاً أَنْ يُتْقِنَهُ))، وَأُثِرَ عَنْ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ - أَنَّهُ قَالَ: ((قِيمَةُ كُلِّ امْرِئٍ مَا يُحْسِنُهُ))، أَيْ قِيمَتُهُ فِي مَهَارَتِهِ وَإِتْقَانِ عَمَلِهِ.
وَمِنْ شَتَاتِ الأَمْرِ - عِبَادَ اللهِ - أَنْ يَتَشَتَّتَ النَّاسُ فِي العَلاقَاتِ الأُسْرِيَّةِ وَالاجتِمَاعِيَّةِ؛ فَلا وَاصِلَ لَهَا، وَلا مُقَدِّرَ لِحَقِّهَا، وَلا قَائِمًا بِحُقُوقِهَا، وَرُبَّمَا وَجَدْتَهُمْ يَخْتَلِفُونَ حَيْثُ الوَاجِبُ الاتِّفَاقُ بَيْنَهُمْ، وَيَضْطَرِبُونَ وَيَتَنَازَعُونَ وَالصُّـلْحُ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَالخَيْرِ، وَتَذْهَبُ بِهِمْ سُبُلُ الإِعْرَاضِ وَالقَطِيعَةِ، كَأَنْ لا قُرْبَى وَلا صَدَاقَةَ، وَلا رَحِمَ وَلا نَسَبَ، مَعَ عِظَمِ ذَلِكَ وَخَطَرِهِ؛ إِذْ قَرَنَ اللهُ الأَرْحَامَ بِذَاتِهِ العَلِيَّةِ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ: ]ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠﭡﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ[([5]).
فَاتَّقُوا اللهَ - عِبَادَ اللهِ -، وَاستَعِينُوا بِاللهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى تَوْطِينِ أَنْفُسِكُمْ عَلَى مَا فِيهِ خَيْرُكُمْ، وَخَيْرُ أَنْفُسِكُمْ وَأُسَرِكُمْ وَمُجتَمَعَاتِكُمْ، وَتَعَوَّذُوا بِاللهِ مِنْ شَتَاتِ الأَمْرِ فِي جَمِيعِ جَوَانِبِ حَيَاتِكُمْ.
أقُولُ قَوْلي هَذَا وَأسْتغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ لي وَلَكُمْ، فَاسْتغْفِرُوهُ يَغْفِرْ لَكُمْ إِنهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَادْعُوهُ يَسْتجِبْ لَكُمْ إِنهُ هُوَ البَرُّ الكَرِيْمُ.
*** *** ***
الْحَمْدُ للهِ مُبْدِعِ الكَوْنِ بِانْتِظَامِ أَجْرَامِهِ، وَخَالِقِ الزَّمَانِ بِتَنَاسُقِ لَيَالِيهِ وَأَيَّامِهِ، نَحْمَدُهُ سُبْحَانَهُ عَلَى تَوَالِي فَضْـلِهِ وَإِنْعَامِهِ، وَأَشْهَدُ أَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، بَعَثَهُ اللهُ مُرْشِدًا إِلَى أَحْكَامِهِ، وَدَاعِيًا إِلَى الصَّلاحِ وَإِتْمَامِهِ، r وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ: اتَّقُوا اللهَ وَأَحْسِنُوا، وَالتَزِمُوا نَهْجَ الخَيْرِ وَوَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ عَلَيْهِ، وَاعلَمُوا أَنَّ النِّظَامَ عِلْمٌ يُتَعَلَّمُ، وَسُلُوكٌ يُكْتَسَبُ، وَذَوقٌ وَأَخْلاقٌ، يُمْكِنُ الْمَرْءَ أَنْ يَتَدَرَّبَ عَلَيْهِ، وَخَيْرُ مَا يَتَعَلَّمُهُ المَرْءُ فِي دُنْيَاهُ مَا يُصْـلِحُ بِهِ أَحْوَالَ مَعَاشِهِ، وَتَنْتَظِمُ بِهِ أُمُورُهُ، وَيَكُونُ لَهُ مِنَ التَّوفِيقِ نَصِيبٌ، وَيَخْرُجُ مِنَ التَّشَتُّتِ إِلَى التَّرْكِيزِ. أَلاَ وَإِنَّ لأَنْفُسِكُمْ عَلَيْكُمْ حَقًّا، وَلأَهْـلِكُمْ عَلَيْـكُمْ حَقًّا، فَأَعْطُوا كُلَّ هَؤُلاءِ حُقُوقَهُمْ، وَقُومُوا بِالوَاجِبِ تِجَاهَهُمْ، فَالأَعْمَالُ لا تَنْقَضِي، وَالمَوَاعِيدُ مَهْمَا كَثُرَتْ يُمْكِنُ إِعَادَةُ تَرتِيبِهَا، وَاعْـلَمُوا أَنَّ الأُلْفَةَ مَعَ الأَهْـلِ وَالجُلُوسَ إِلَى الأُسْرَةِ وَزِيَارَةَ الأَرْحَامِ وَالأَصْدِقَاءِ زِيَادَةٌ فِي العُمُرِ، وَبَرَكَةٌ فِي الرِّزْقِ، وَمِنْ حَقِّ النَّفْسِ حُسْنُ رِعَايَتِهَا، وَحِفْظُ أَعْضَائِهَا، فَالمَالُ وَحْدَهُ لا يَجْـلِبُ الصِّحَّةَ، وَالثَّرْوَةُ وَحْدَهَا لا تَصنَعُ العَافِيَةَ، وَاللهُ تَعَالَى يَقُولُ: ]ﭹ ﭺ ﭻﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ [([6])، فَعَلَى المُسْلِمِ أَنْ يَتَحَوَّلَ مِنَ الشَّتَاتِ إِلَى النِّظَامِ، وَنُقْطَةُ التَّحَوُّلِ هَذِهِ - يَا عِبَادَ اللهِ - مَرَدُّهَا إِلَى قُوَّةِ النَّفْسِ، وَالثِّقَةِ بِالإِمْكَانَاتِ، فَيَكْتَسِبُ المَرْءُ بِهَا القُدْرَةَ عَلَى تَحقِيقِ مَا يَطْلُبُ، وَيَسْـتَقِلُّ فِي اتِّخَاذِ القَرَارِ الصَّحِيحِ لِنَفْسِهِ، دُونَ أَنْ يَتَخَلَّى عَنْ طَلَبِ المَشُورَةِ مِنْ أَهْـلِهَا، وَقَدْ حَذَّرَ الرَّسُولُ r الإِنْسَانَ مِنْ أَنْ يَكُونَ رِيشَةً فِي مَهَبِّ الظُّرُوفِ، يَمِيلُ حَيْثُ تَمِيلُ، وَلا يَقْدِرُ عَلَى الثَّبَاتِ وَالتَّوَطُّنِ، فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ -: (( لا تَكُونُوا إمَّعَةً؛ تَقُولُونَ: إنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنَّا، وَإِنْ ظَلَمُوا ظَلَمْـنَا، وَلَكِنْ وَطِّنُوا أَنْـفُسَكُمْ إنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَنْ تُحْسِنُوا، وَإِنْ أَسَاؤُوا ألاَّ تَظْلِمُوا)).
فَاتَّقُوا اللهَ - أَيُّهَا المُسلِمُونَ -، وَتَوَاصَوا فِيمَا بَيْنَكُمْ بِأَهَمِّيَّةِ النِّظَامِ فِي جَمِيعِ الأَعْمَالِ، وَحُثُّوا أَبْنَاءَكُمْ عَلَى تَنْظِيمِ أَوقَاتِهِمْ، فَإِنَّهُ مِنْ أَهَمِّ عَوَامِلِ نَجَاحِهِمْ، ] ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟﯠ[([7]).
هَذَا وَصَلُّوْا وَسَلِّمُوْا عَلَى إِمَامِ الْمُرْسَلِيْنَ، وَقَائِدِ الْغُرِّ الْمُحَجَّلِيْنَ، فَقَدْ أَمَرَكُمُ اللهُ تَعَالَى بِالصَّلاَةِ وَالسَّلاَمِ عَلَيْهِ فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ حَيْثُ قَالَ عَزَّ قَائِلاً عَلِيْمًا: )ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ(([8]).
اللَّهُمَّ صَلِّ وسَلِّمْ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ وسَلّمْتَ عَلَى سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ، وَبَارِكْ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ، فِي العَالَمِيْنَ إِنَّكَ حَمِيْدٌ مَجِيْدٌ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنْ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِيْنَ، وَعَنْ أَزْوَاجِهِ أُمَّهَاتِ المُؤْمِنِيْنَ، وَعَنْ سَائِرِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِيْنَ، وَعَنْ المُؤْمِنِيْنَ وَالمُؤْمِنَاتِ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ، وَعَنَّا مَعَهُمْ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ.
اللَّهُمَّ اجْعَلْ جَمْعَنَا هَذَا جَمْعًا مَرْحُوْمًا، وَاجْعَلْ تَفَرُّقَنَا مِنْ بَعْدِهِ تَفَرُّقًا مَعْصُوْمًا، وَلا تَدَعْ فِيْنَا وَلا مَعَنَا شَقِيًّا وَلا مَحْرُوْمًا.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالعَفَافَ وَالغِنَى.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ أَنْ تَرْزُقَ كُلاًّ مِنَّا لِسَانًا صَادِقًا ذَاكِرًا، وَقَلْبًا خَاشِعًا مُنِيْبًا، وَعَمَلاً صَالِحًا زَاكِيًا، وَعِلْمًا نَافِعًا رَافِعًا، وَإِيْمَانًا رَاسِخًا ثَابِتًا، وَيَقِيْنًا صَادِقًا خَالِصًا، وَرِزْقًا حَلاَلاًَ طَيِّبًا وَاسِعًا، يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ.
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلاَمَ وَالْمُسْلِمِيْنَ، وَوَحِّدِ اللَّهُمَّ صُفُوْفَهُمْ، وَأَجْمِعْ كَلِمَتَهُمْ عَلَى الحَقِّ، وَاكْسِرْ شَوْكَةَ الظَّالِمِينَ، وَاكْتُبِ السَّلاَمَ وَالأَمْنَ لِعِبادِكَ أَجْمَعِينَ.
اللَّهُمَّ رَبَّنَا احْفَظْ أَوْطَانَنَا وَأَعِزَّ سُلْطَانَنَا وَأَيِّدْهُ بِالْحَقِّ وَأَيِّدْ بِهِ الْحَقَّ يَا رَبَّ العَالَمِيْنَ.
اللَّهُمَّ رَبَّنَا اسْقِنَا مِنْ فَيْضِكَ الْمِدْرَارِ، وَاجْعَلْنَا مِنَ الذَّاكِرِيْنَ لَكَ في اللَيْلِ وَالنَّهَارِ، الْمُسْتَغْفِرِيْنَ لَكَ بِالْعَشِيِّ وَالأَسْحَارِ.
اللَّهُمَّ أَنْزِلْ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِ السَّمَاء وَأَخْرِجْ لَنَا مِنْ خَيْرَاتِ الأَرْضِ، وَبَارِكْ لَنَا في ثِمَارِنَا وَزُرُوْعِنَا وكُلِّ أَرزَاقِنَا يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ.
رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوْبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا، وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً، إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ.
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُوْنَنَّ مِنَ الخَاسِرِيْنَ.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِيْنَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَالْمُسْلِمِيْنَ وَالْمُسْلِمَاتِ، الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالأَمْوَاتِ، إِنَّكَ سَمِيْعٌ قَرِيْبٌ مُجِيْبُ الدُّعَاءِ.
عِبَادَ اللهِ:
)ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇﮈ ﮉ ﮊ ﮋ (.
([1]) سورة النحل / 97 .
([2]) سورة النساء/ 103.
([3]) سورة البقرة/ 187.
([4]) سورة البقرة/ 197.
([5]) سورة النساء/ 1.
([6]) سورة النساء/ 29.
([7]) سورة البقرة/ 110.
([8]) سورة الأحزاب / 56 .