حراسة السفينة
الدكتور رياض بن محمد المسيميري
الحمد لله، وبعد:
فإنَّ لهذه الأمة خصائص تميزها، ومزايا تخصها تنفرد بها عن غيرها من الأمم، ولا عجب فهي الأمة الوسط، وهي الأمة المجتباة، وهي الأمة المختارة لتكون شاهدة على الأمم، مقدمة على الشعوب!
هذه المرتبة المتميزة، والمكانة المتسنمة فوق القمم، لم تكن لتأتي هكذا اعتباطاً! فهي ليست لسواد في أعين أبنائها، ولا لفتوة في مناكب شبابها.. ولكن "كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله".
فبالأمر بالمعروف وبالنهي عن المنكر حظيت الأمة برفعة المنزلة، وفازت بقصب السبق وتسنمت علو المقام!
ولنا أن نتساءل: ترى أما زالت الأمة محتفظة بأسباب رفعتها، ومناط عزها وفخرها ؟ أما زالت السفينة محتفظة بتوازنها، ممتنعة متحصنة ممن يريدون خرقها، ويجتهدون في إغراقها ؟
تجيبك أيها الأخ الكريم : تلك الجموع الهائلة حول الأضرحة والمشاهد، تستغيث بغير الله تعالى، وتنزل حوائجها بمن لا يملك نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياة ولا نشورا! وتجيبك جموع المتخلفين عن الصلوات المكتوبة، المنشغلين عنها بسفاسف الأمور.
تجيبك الأجساد العارية على شواطئ البحار، وضفاف الأنهار باسم الترفيه والاستجمام!
تجيبك حانات الخمور، وطاولات القمار، ودور السينما، ومراتع الفساد المنتشرة في كثير من بلاد المسلمين!
تجيبك تلك الأجيال الهزيلة، من ذوي الاهتمامات التافهة، والهوايات السخيفة، والتي لا تتعدى في الجملة صقل الوجوه وتلميعها، وتصفيف الشعور وتسريحها، ومتابعة الكرة والتصفيق لها!
هذه بعض الثمرات المرة يوم عُطِّلت فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأصبح كل ذي هوى حُرًّا في فعل ما يشاء دون حسيب أو رقيب! وأمام هذا الإسفاف يتساءل المسلم الغيور، ماذا تراه يصنع أمام هذا الطوفان الجارف والركام النكد؟!
أتراه يقف مكتوف اليدين متمتماً بالحوقلة والاسترجاع، ملقياً بالتبعة على غيره مردداً:
ذهب الذين يُعاش في أكنافهم *** وبقيتُ في كَنَفٍ كجلد الأجرب
رفع الإمام البطل لواء دعوته، وجاهد تلك النماذج المهترئة من البشر، غير هياب ولا وجل، ووقف راسخ القدمين أمام إعصار الفساد المدمِّر، مستعيناً بالله متوكلاً عليه، حتى قيض الله للإمام من يسانده ويقف معه في خندق واحد، حتى تحققت المعجزة وتجسد الحلم حقيقة فوق أرض الواقع، وزهق الباطل، وعادت نجد دوحة للإسلام ومعقلاً للتوحيد، ولمثل هذا فليعمل العاملون.
هذا أنموذج واحد وغيره كثير، إذاً فالصراع بين الحق والباطل، وبين الفضيلة والرذيلة، ليس بخاضع أبداً إلى حسابات من نوع (واحد + واحد يساوي اثنين)، وإنما هو يخضع لمثل قوله تعالى: "وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً"!
ولمثل قوله: "كم من فئة قليلة غلبت فئة كبيرة بإذن الله"!
ولمثل قوله جل جلاله: "فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين فجعلناهم سلفاً ومثلاً للآخرين... ولما ضرب ابن مريم مثلاً إذا قومك منه يصدون قالوا أألهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلاً بل هم قوم خصمون"... وغيرها من الآيات الواضحات البينات التي تؤكد أن العاقبة للتقوى، وأن المستقبل للإسلام، وأن القوة لله جميعاً، وأن الله شديد العذاب!
إن قضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ليست قضية خاضعة للبحث والمناقشة وتبادل وجهات النظر هل تكون أو لا تكون، ولكنها قضية محسومة سلفاً، باعتبارها ركيزة من ركائز الدين، وعموداً من أعمدة الإسلام، وهي ليست مجرد مسألة شخصية تتعلق بشخص المُنكِر، أو بشخصية المُنكَر عليه، كلّا كلا، ولكن المسألة لها علاقة جد وثيقة بالأمة كافة، فشيوع المخالفات الشرعية ضرب للأمة في الصميم، وتمزيق لوحدتها دون شك أو تردد.
وحديث السفينة المشهور، شاهد حي بأن أثر المنكر يتجاوز حيز صاحبه ليمتد فيغمر بظلاله القائمة المجتمع كله، فحين تُخرق السفينة فلن يميز الطوفان الجارف بين مَنْ خرقها ومن لم يخرقها! ولكنه سيدفن الجميع تحت أمواجه العاتية!
لقد ظل أنس –رضي الله عنه- يخدم النبي –صلى الله عليه وسلم- عشر سنين – كما حدّث هو بنفسه، فلم يقل لـه يوماً ما لشيء فعله لم فعلته؟ ولا لشيء لم يفعله هلا فعلته؟
يا لله العجب عشر سنين من التجاوز المعيشي، والتلاصق المباشر، ورغم ذلك لم يحصل العتاب أو الإنكار، ولا لمرة واحدة!
يتحدثون مخافة وملاذة *** ويُعابُ قائلهم وإن لم يشغب
أم تراه ينجفل إلى أهله مردداً بينه وبين نفسه: أمسك عليك لسانك، وابك على خطيئتك وليسعك بيتك؟!
إن الإجابة -أيها الغيور على محارم الله- تجدها في قوله جل جلاله: "فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلاً ممن أنجينا منهم واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين".
وفي قوله عليه الصلاة والسلام: "والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً من عنده ثم تدعونه فلا يستجاب لكم".
إن السبيل الوحيد للحافظ على بنية الأمة وتماسكها في عقائدها وأخلاقها، وقيمها ومبادئها هو بإقامة فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفق منهاج النبوة دون أن تغرنا جولة الباطل وصولته وبريقه ولمعانه!
فمتى تضافرت الجهود، وحسنت النوايا، وصدقت العزائم، انكمش الشر وانزوى، ثم تلاشى وانطفأ!
واقرأ قوله تعالى: "بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون"، وقوله: "فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض".
كم يخطئ البعض حين يلجأون إلى المقاييس الحسابية، ويعقدون المقارنات الحسية بين الباطل وكثرة سواده، وبين الحق وأهله الغرباء! فاللجأ إلى مثل هذه المقاييس خطأ فادح وغلط كبير، يشلُّ الحركة ويثبط الهمم، ويفتر الحماس ويبعثر الجهود، ويعطل مسيرة البناء.
فالصراع بين الفضيلة والرذيلة لا يخضع أبداً لتلك المقاييس الأرضية، ولا لهاتيك المعايير الحسية، وإلا لماذا ذاق المسلمون حلاوة النصر في بدر والقادسية وعين جالوت وغيرها من ملاحم أسد الشرى ونمور الورى.
ولو كان الصراع يخضع لحساب العدد والعدة لما خاض داعية غمار الدعوة إلى الله، ولما سابق مصلح في مضمار الذود عن دين الله.
هذا الإمام المجدد شيخ الإسلام – قدس الله روحه- يرفع لواء السلفية في نجد وحيداً فريداً يوم كانت نجد بؤرة الإلحاد ومستنقع الوثنية، يوم كانت عبادة القبور على قدم وساق، وتعظيم الأحجار والأشجار، يعصف بما تبقى من عقول الرجال، ويذيب ما عُلِّق بالنفوس من مروءة وحشمة ووقار.
فهل كان أنس –رضي الله عنه- معصوماً، بحيث لا يخطئ أو يفعل خلاف الأولى على أقل تقدير؟ كلا كلا، فأنس – رضي الله عنه- لم يكن معصوماً، بل كان يخطئ قطعاً، وقد يصنع أحياناً ما لا يعجب رسول الله –صلى الله عليه وسلم- بالضرورة! ولكنه لم يسمع عتاباً ولا إنكاراً؛ لأن المسألة شخصية بحتة، تتعلّق بجناب الرسول الكريم فقط، ولا مساس لها بمستقبل الأمة وكيانها، فالتسامح فيها مطلوب، وغضُّ الطرف لمثلها أولى...
لكن إليك – يا رعاك الله- مواقف أخرى، يحمرُّ فيها وجه رسول الله –صلى الله عليه وسلم- غضباً حين تقع المخالفة الشرعية، ويجترئ البعض على حدود الله، فيبادر عليه الصلاة والسلام إلى إنكار المنكر في ساعاته الأولى، دون أن يصبر عشر سنين، صبره على أنس –رضي الله عنه- خادمه.
هذه بريرة –رضي الله عنها- أمة ضعيفة مسكينة، يعلن أسيادُها عن رغبتهم في بيعها، فتتقدم عائشة –رضي الله عنها- لشرائها وعتقها على أن يكون الولاء لها، فيأبى الأسياد إلا أن يكون الولاء لهم في تعد مكشوف على شرع الله المطهر ودينه المصون، فماذا تراه صنع رسول الله –صلى الله عليه وسلم-؟
هل غضَّ الطرف وابتسم في وجوه القوم، ابتسامته للأعرابي يوم جذب معطفه الغليظ فاحمرَّ لجذبته عنقه الطاهر الشريف؟!
لقد صعد المنبر وخطب خطبة عصماء، أنكر المنكر بشجاعة، وصدع بكلمته المشهورة: ما بال أقوام يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله؟! أيما شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط، إنما الولاء لمن أعتق!.
لما كل هذا الغضب من رسول الله –صلى الله عليه وسلم-؟ لما كل هذا الغضب؟ والجواب: إن المنكر هذه المرة لا يتعلّق بشخصه الكريم، وإلا لوسعه حلمه العظيم، فقد عود الأمة أن يكون حليماً في مواقف لا تعد ولا تحصى، ولكن المنكر هذه المرة، يمس التشريع الإسلامي في الصميم، ويصيبه في مقتل، فقد وجد رسول الله –صلى الله عليه وسلم- نفسه أمام أناس يريدون أن يجعلوا من أنفسهم مشرعين بسنهم الأنظمة ووضعهم لشروط ما أنزل الله بها من سلطان، فكان إنكاره عليه الصلاة والسلام سريعاً حازماً، وقوياً حاسماً.
ولمّا استنفر رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أصحابه إلى تبوك تخلّف كعب وصاحباه دون مبرر معقول، أو مسوغ مقبول، حتى إذا ما رجع رسول الله بالجيش إلى المدينة إذا به يتخذ موقفه الصلب، وإجراءه الصارم بحق الثلاثة الذين خلفوا، فيأمر بهجرهم، ويُحرِّم محادثتهم، ويفرض حولهم سياجاً منيعاً من العزلة المحكمة! حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم، لِم كلُّ هذا؟
والجواب: إن الخطأ الذي ارتكبه هؤلاء الثلاثة- رضي الله عنهم- والمُنكر الذي اقترفوه لـه مساسٌ بكيان الدولة برمتها، وكان يمكن أن يؤثر سلباً في نفسيات الجيش المتجه لمقارعة جيش يفوقه عدداً وعدّة، وذلك أمر لا يخضع أبداً للأمزجة الشخصية، أو للأهواء النفسية، فكانت النتيجة ما سمعت.
والسلام.