ل (1)
ملف متجدد : مقالات د. عبد العزيز المقبل (1)
(1)
إنها الفرامل !!
حين نهم بالذهاب لمناسبة مهمة أو جميلة، ثم نسمع من قائد السيارة أن (فراملها) قد (تعطلت) قبل قليل، وأنه لم يعد يستطيع السيطرة عليها، فإننا – والعقلاء منا بالذات – سيزهدون في ذلك المشوار مع (أهميته)، لأنهم يرون حياتهم (أهم)!!
إنني يمكن أن أتحمل أن تتعطل بي السيارة، وأن أتأخر عن الوصول، لكن أن تكون بلا (فرامل)، فمعناه أنها قابلة للاصطدام بما يمكن أن يواجهها، سواء أكان جسراً أم جداراً أم سيارة، واصطدامها ذاك سيترك أثراً – ربما بالغاً – فيها، وفيمن هم داخلها. ومن هنا تأتي أهمية الفرامل.
المشكلة أن كثيرين يولون (فرامل) السيارة عناية غير عادية، فربما يستوحشون من ركوب سيارة يسمعون أن (فراملها) ضعيفة، لا متعطلة، وذلك لون من الاحتراز والحرص، لا يلامون عليه.. لكنهم يعيشون في حياتهم دون (فرامل)!!
ومن أبرز الجوانب في ذلك حالة الغضب والعصبية؛
فالإنسان الذي لا يمرّن عضلات الصبر في نفسه، والتي تمثل الفرامل، سيعطي لسانه – في مواقف الغضب- حرية (كاملة) في قذف الكلمات، غير (المفلترة)، وسينطلق في التصرف دون أدنى تفكير، وحين تنقشع سحابة الانفعال، ويكون (الاصطدام) قد وقع، ويرى (آثاره) السيئة في دنيا الواقع، ربما ندم، وقد يكون ذلك الندم شديداً، لكن ندمه ذاك لن يكون له قيمة، لأنه لم يدفعه إلى أن يعيد الاهتمام بـ(صيانة) فرامل (مركبة) ذاته، حتى لا يتكرر الموقف، ومن ثم فسيظل يتكرر عنده الندم .. ليجتمع عليه (ألم) التصرف (السيئ)، و(ألم) الندم!!
كم من الأشخاص الذين يشعرون بنشوة، وهم يرون نظرات الإعجاب – ممن حولهم – بجمالهم أو أجسامهم، أو يسمعون كلمات الإطراء بسبب وجاهتهم أو مناصبهم أو ثرائهم، ولكن ذلك كله (تذيبه) كلمة صدرت من جاهل، أو تصرف قام به أحمق، فإذا ذلك الوجه (الجميل) يبدو بصورة (موحشة)، وإذا ذاك الجاه (العريض) لم يمنح هذا الشخص إدراكاً أنه (أكبر) من أن تلفه عاصفة الغضب، بسبب مثل تلك الكلمات أو التصرفات..
ألم أقل إنها (الفرامل)!!
وهنا لا نستغرب أن يجعل المصطفى – صلى الله عليه وسلم- القوة (الحقيقية)، ليست قوة العضلات وضخامة الجسم، ولكنها (مَلْك) النفس، وقت الغضب!
د. عبد العزيز المقبل
**
مجلة حياة العدد (87) رجب 1428هـ
(2)
لا أستطيع !!
تصلني أحياناً رسائل جوال أو إيميلات تصور فيها بعض الفتيات مشكلاتهن، وعلمتني التجارب أن أحكم على (قوة) نفسية صاحبة المشكلة من قاموسها (اللغوي) .. وإذا كان الكتاب يقرأ من عنوانه، فإن التقنع وراء أسماء من جنس (دموع، أنين، أحزان ...)!! يكشف غالباً عن (هشاشة) نفسية .. فكيف حين يصاحب رواية (المشكلة) – هاتفياً – نشيج وبكاء يقطع انسياب (جدول) الحديث .. أنا لا ألوم صاحبة المشكلة، وقد تكون المشكلة بالفعل قد تركت في نفسيتها آثاراً عميقة.. لكن الأيام عودتني – حين أواجه مشكلة- أن أستشعر القوة، وأتدثر بالثقة، وأنظر لبعض جوانب المشكلة (الداكنة) من زواية تبديها بلون (أقل) قتامة، ورأيت أن هذا الأمر لا يلبث أن يكون (عادة) لي بحيث يصبح قاموسي (اللغوي) إيجابياً .. وحينئذ سأسأل المستشار لا لأتخذ من كلامه (حبة بندول) تسكّن الألم ولا تجتثه، ولكن لأستفيد من تجربته في دلالتي على أفضل الطرق في التعاطي مع مشكلتي .. ثم سأكون قادرة على عرض مشكلتي بصورتها (الحقيقية)، فـ(ثوب) رأي المستشار الذي سيقدمه لي منسوج من خيوط روايتي للمشكلة .. وحين أشعر بالضعف النفسي، وأسمح لقاموس (الضعف) أن يلوّن مفرداتي لن أستطيع التخلص من إضافة (بهارات) على المشكلة ما يجعل خطوات الحل التي يقدمها المستشار هي الأخرى تتأثر بـ(نكهة) تلك البهارات!
وثمة أمر له أهميته في الموضوع، وهو أن تلك اللغة (الضعيفة) تنعكس على الجانب النفسي، ولذا لم أكن أستغرب إثر كل مكالمة أو إيميل تكون (مفرداتهما) ملونة بالضعف أن يكون الرد على ما أطرحه من اقتراحات أو خطوات كلمة:
(لا أستطيع...) !!
المستشار / د. عبد العزيز المقبل.
**
مجلة حياة العدد (69) محرم 1427هـ
(3)
حتى يهرب الخوف
تشكو بعض الفتيات من (محاصرة) المخاوف لها،
وتشكو أخريات من (استيلاء) الوساوس عليها، وهي تمد يدها، وتجأر بصوتها طالبة المساعدة..
حقاً ليس هناك أسوأ من (الحصار) فأنت أصبحت عند أسوارك الأخيرة.. أما استيلاء (عدوك) عليك فهو مرحلة الشعور بـ(سقوط) الأسوار .. الأمر المزعج أن تلك الفتاة الشاكية هي التي أغرت عدوها بمحاصرتها، أو منحته الفرصة لهدم أسوارها؛ فهي حين عرض لها (أول) شعور بالخوف لم تستشعر القوة وتلبس (ثوب) الثقة بالله ثم بنفسها، وتنظر إلى تلك المخاوف بـ(حجمها) الطبيعي، ثم توليها ظهرها وتمضي، لتتضاءل المخاوف وتضمحل مع مسيرها في أزقة الحياة.
وإنما بدأ نظرها (يلوّن) تلك المخاوف، وبدأ تفكيرها (يضخمها)، وأوقفت سيرها، وانزوت في زاوية، بدت معها لا تنظر إلا للمخاوف، ولا تفكر إلا فيها .. الأمر الأكثر سوءاً حين يبدأ (يتأسس) لديها شعور أنها غير قادرة – وحدها – على المقاومة .. وهو ما يمنح تلك المخاوف (فرصة) عظيمة في العبث بنفسية تلك الفتاة المسكينة.
للعيادة النفسية دور جيد، وللأهل والأصدقاء دور مهمّ .. لكن ذلك كله لا يمكن أن يغني شيئاً دون شعور (جديد) بقوة الإرادة، واستمداد العون من الله، والشعور بالقدرة الذاتية على المقاومة .. حين يتعمق ذلك الشعور لدى الفتاة، وتبدأ خطواتها الأولى في تطبيقه .. ستلاحظ أن تلك المخاوف بدأت تتسابق في الهروب !!
د. عبد العزيز المقبل
**
مجلة حياة العدد (70) صفر 1427هـ
(4)
مارد الطاقة ..
كيف نتعامل معه ؟
تعاني بعض الفتيات من الوسواس القهري ، الذي تشعر أنه ينشب مخالبه في دواخلها ، ويستولي مع مرور الوقت على مناطق جديدة من جسدها ونفسها؛ مرة في الوضوء، ومرة في الصلاة، ومرة في النظافة...
وفي ظني أن وراء ذلك سببين،
الأول: وجودها في بيئة لا تخلو من مشكلات مزمنة، إما أن تلقي تلك المشكلات بظلها على الفتاة، باعتبارها واحدة من أعضاء البيت. وإما أن تشغل تلك المشكلات الأهل عن حاجات الفتاة العاطفية، خاصة في المراحل التي تكون حاجتها لها أشد .. فتنتابها المخاوف، وربما كان أشد المخاوف فتكاً الوسواس القهري.
والسبب الثاني: ضعف نفسية تلك الفتاة، فهي قابلة للتأثر أكثر من غيرها، وهو ما يجعل مقاومتها أقل، ومن ثم تقبلها للوساوس أسرع.
في المواقف التي يعتدى فيها على الإنسان، ويشعر فيها بالظلم، أو تمس ذاته بلون من الإهانة تنبعث من داخله طاقة دفاعية .. والناس هنا يختلفون في (تصريف) هذه الطاقة؛ فهناك من يترك لنفسه العنان لتنطلق على سجيتها مدافعة ومهاجمة، دون أن يبالي بأي كلمة تخرج في تلك اللحظات .. وحين ينتهي خروج (مارد) الطاقة، ويشعر بالتنفيس قد يعتذر عن قسوته في الرد.
وهناك من لا يجرؤ على الرد لسببٍ أو آخر فيكبت (مارد) تلك الطاقة داخله، ومع تكرار ذلك الكبت تتحول نفسه إلى (تربة) صالحة لاستنبات بذور الأمراض النفسية، ومنها الوسواس القهري.
وهناك موقف جميل وسطي، يستطيع فيه الإنسان – في مثل تلك المواقف – التنفيس دون أن يجرح كرامة أحد، أو يسفّ في أخلاقه، وذلك حين يسمح لـ(مارد) تلك الطاقة بالخروج ولكن عبر (فلتر) يحجز الكلمات الحادة، أو يكون لديه القدرة على (إلباس) مفرداته أكسية (زاهية) يمارس معها التنفيس، ويضمن عدم جرح مشاعر الآخرين، وفوق هذا تكون لها نتائج إيجابية.
وإذا كان النموذج الأول صاحب نفسية (عنيفة)، فإن النموذج الثاني صاحب نفسية (ضعيفة). ليبقى النموذج الثالث (خير) الأمور..
إذ يتباعد الناس من الأول، ويهدمون (أسوار) الثاني، ويتعاملون مع الثالث باحترام.
المستشار / د. عبد العزيز المقبل
**
مجلة حياة العدد (71) ربيع أول 1427هـ
(5)
«لكن» البغيضة !
حين يقدر لشخص أن يعرض عليّ مشكلته ثم أنصت له.. أشعر بتفاعله الكبير، وهو ينطلق في رواية مشكلته؛ يتحدث عن البداية، ثم يستعرض المراحل التي مرت بها المشكلة، ليتوقف عند تأزم الموقف، الذي اضطره للاتصال عليّ، لأخذ الرأي.
أطرح بعض الأسئلة التي أرى أنها ربما ألقتْ أضواءً تساعدني في معرفة أفضل طرق الحل، ومع الأسئلة يزداد (تفاعل) صاحب المشكلة، فيلقي بالإجابة ربما قبل أن أنهي السؤال!
يتراءى لي – حينئذٍ – أن ذلك (التفاعل) يمثل (عمق) التعطش للحل.
أعطي صاحب المشكلة موعداً لمعاودة الاتصال، ريثما أتيح لنفسي فرصة لاستيعاب المشكلة، وفرز الحلول، وانتقاء الأفضل.
يتصل علي في الموعد المحدد، الحماس هو الحماس: هاه.. وش صار على المشكلة؟!
أتحدث عن مسوغات الحل، أعرض له بعض الحلول، ورأيي في تفضيل بعضها، ثم أؤكد على ذلك الحل المفضل، وأوضح إيجابياته بصورة أكبر.
تكون مفاجأتي حين أشعر لدى صاحبي بـ(برود)، وهو يقول – بعد نهاية كلامي -: رأيك صحيح، ولكن!
أبادر – بسرعة -: لكن ماذا؟!
يجيب: لكنك ما تعرف الظروف!
حينها أدرك أن صاحبي لا يريد الحل، وإنما يريد أن يتخذ مني (بالوناً) يفرغ فيه (هواء) همومه ثم لا شيء بعد ذلك. بل ربما أصبحت مشكلته أسلوبه الأمثل في التواصل مع الآخرين، فكيف يريد لها أن تحل؟!
كنت أجيب بأني حقيقة لا أعرف الظروف الخاصة، لكني اطلعت على مشكلات تحيط بها ظروف، أجزم أنها أصعب بكثير.. لكن أصحاب تلك المشكلات كانوا خيولاً أصيلة، لديها قدرة فائقة على القفز، وتمتلك قدراً كبيراً من الإصرار.. وحينذاك استطاعت أن توفر لنفسها الأجواء، وأن تتغلب على المشكلة.
ولو أنهم وقفوا عند (لكن) كما وقف صاحبنا، لظل (حبل) المشكلة يلتف عليهم، ويخنقهم مع مرور الوقت.. ولم ينفعهم – وقتها – أن يفلسفوا لنفسهم القعود عن العمل الإيجابي، مهما صغر، ولو ظلوا يرددون (لكن) كل لحظة!!
د. عبد العزيز المقبل
**
مجلة حياة العدد (72) ربيع ثاني 1427هـ
(6)
حقاً
إنه صديق مخلص!
كل فتاة بحاجة إلى زميلة، زميلة من نوع خاص، تسمع ما يواجه حياتها.. مشاعرها تجاه الناس وهذا بيت القصيد إذ إنه من الصعب أن تجدي صديقة كتومة فعلاً، فالصديقة غالباً ترى أن أسرارك ساذجة لا تستحق الكتمان أصلاً، لكن لو التفتّ حولكِ لوجدتِ أن هناك صديقاً مخلصاً باستطاعة كل فتاة أن تلتقيه، ميزته التي يتميز بها هي الكتمان التام.
أتوقع أن طيفه بدأ يتجسد في ذهنك، أترين جسمه الرشيق ومظهره الأنيق أترين طريبيشه الأحمر؟
القلم...
القلم هو ذاك الصديق، أمسكي به فقط، ثم اسحبي ورقة بيضاء ودعيه يقف فوقها، سيبدأ بالدخول إلى أعماقك، ويصل كل المشاعر التي تكنينها..
لا تخجلي اتركي ليدك الحرية أن تحركه، اجعليها تسير به يمنة ويسرة، اجعليها تترجم مشاعرك إلى حروف. قد تتساءلين ما فائدة كل هذا الهراء..؟؟
حسناً دعيني أخبرك أن فوائد القلم نفسه لا يمكن حصرها في هذه الزاوية، لكن سأخبرك بفائدة تتماشى مع كلامنا السابق..
لو لاحظت ستجدين في دماغك زاوية كبيرة فيها صناديق كثيرة أكثرها قد امتلأ، ولو لاحظت أكثر ستجدين فوقها لوحة كتب عليها (مشاعري تجاه الناس)، إن تلك المشاعر منها ما هو سام، بقاؤه في جسدك يؤذيك، إنها مشاعرك السلبية تجاه البعض؛ تجاه كلمة قالها، تجاه تصرف فعله..
ستجدين نفسك حين ترين ذلك الشخص تتضايقين لأن ذاك الصندوق الحاوي على تلك المشاعر قد انفتح وخرجت منه الكلمة، وبدأت تتحرك في دماغك وتضربك في كل زاوية تجدها أمامها..
لذا من الأفضل طرد تلك الكلمة حتى تستشعري الراحة في حياتك مع الناس كافة..
حسنا القلم يعينك على ذلك.. اكتبي ذلك الموقف، ثم اكتبي كل ما شعرت به حينئذ، بل اكتبي كل ما تشعرين به تجاه ذلك الشخص، ثم مزقي الورقة وألقيها في القمامة أمر سهل لكن أثره عظيم، فبعد أن طرد القلم تلك المشاعر السلبية من دماغك ستقوم المحبة بتطهير المكان، ثم ستبدأ آثارها بالظهور لتعم من حولك!
د. عبد العزيز المقبل
**
مجلة حياة العدد (73) جمادى الأولى 1427هـ
(7)
أنا
تائهة!!
قالت – بنبرة حزينة - : أشعر أني تائهة.. أدركني يا دكتور!
قلت لها: هذا إحساس رائع!
دهشتْ.. أنا منذ عشر سنوات، ومركب حياتي لم يرس على شاطئ.. أعيش قلقاً يحاصرني، يكاد يخنق أنفاسي، وتقول لي: إنه إحساس رائع؟!
قلت لها: كثيرون جداً يتيهون، ففي رحلة الحياة تضيع المعالم أحياناً، ويساعد على هذا الضياع ابتعاد الأهل، أو ابتعاد الشخص عنهم، ومن هنا يفاجأ الإنسان بنفسه تائهاً.. يظل مركبه يعوم وسط (يمّ) الحياة.. تخلب نظره بعض الشطآن، فيحس بفرح غامر، ولكن قبل أن يلقي مرساته تبدو له مناظر مزعجة، أو يرى في (لغة) أهل الشاطئ ما يدعوه إلى عدم الشعور بالأمان، فيرفع مرساته ويبحر من جديد، ليتكرر المشهد ربما مرات..
بل ربما وقع الشخص في أسر (عصابات) بعض الشواطئ، وناله (أذى) قبل أن يفلت منها بصعوبة!
إن من الرائع أن يدرك الإنسان أنه (تائه)..
إنها لحظة (اليقظة) الحقيقية من (نوم) البلادة الممتد.. إن هناك من هم غارقون في (بحار) التيه إلى الآذان، وربما عرف ذلك كل من رآهم، ويبقى الواحد منهم هو الشخص (الوحيد) الذي لا يدري أنه (تائه)!!
إن من يعرف أنه تائه سيحس بقلق (إيجابي) يدفعه للبحث عن (بوصلة) يستطيع من خلالها معرفة أو تحديد (الاتجاه) الصحيح.
إن هناك ثورة داخلية يعلن عن ولادتها داخل الشخص أحياناً لتدل أن الحياة لا تزال تدبّ فيه، وإن بدت بعض أطرافه (ميتة)!
إن بداية شعوره (الحاد) بأنه (تائه) هي التي تمثل –غالباً- شعوره (الحقيقي) بالنضج؛ إذ هي (رفض) حاد لواقع (مرّ)، وتوق جارف إلى (تغييره)!!
د. عبد العزيز المقبل
**
مجلة حياة العدد (74) جمادى الآخر 1427هـ
(
أمنية
لشيء ممكن جداً .. !
هناك نكتة تقول: إن قروياً دخل مطعماً بقصد الإفطار .. كان ضمن الإفطار حبات من الزيتون. كان القروي يلتفت إلى من حوله فيراهم يتناولون الزيتون بالشوكة! .. أخذ الشوكة، وحاول أن يفعل مثلهم. كان يطارد الزيتونة، وهي تهرب منه في أرضية الصحن، وكأنه يمارس معها لعبة مطاردة. كان إلى جواره أحد زبائن المطعم، وكان يتابع مطاردته للزيتونة بابتسامة عريضة. التفت القروي (المتعب) فالتقت عيناه بعيني جاره، الذي تقدم نحوه بثقة، ثم غرز شوكته في (خاصرة) الزيتونة المسكينة .. وفي لحظات كان يدير عليها (رحى) أسنانه. نظر – بزهو – إلى القروي، لكن القروي أجاب بثقة على تلك النظرة: (أنا اللي دوّختها لك، مالك فخر أنك مسكتها بسرعة)!
عموماً تلك نكتة، والذين يتندرون بها يروونها في سياق السخرية من ذلك القروي الساذج .. لكنني أتأمل فيها أحياناً فيعجبني فيها محاولة ذلك القروي عدم الاستسلام، وبحثه عن إسهاماته، حتى ولو لم يعترف بها الآخرون، ومن ثم رؤيته الإيجابية لنفسه، والخروج بقدر كبير من الرضا عنها. وهو الوقود (المهم) للثقة في النفس، والسير – بخطوات ثابتة – في دروب الحياة.
كم هم أولئك الذين قد يستلقون على قفاهم، وهم يروون – أو تُروى لهم – نكتة ذلك القروي، لكنهم في حقيقتهم (أفقر) ما يكونون إلى الثقة في النفس. إنهم ينظرون إلى (أمثال) ذلك القروي في المجالس العامة، التي تمتلئ بالناس، يتكلمون بطلاقة، ويتحدثون بثقة، دون أن يعيروا (أي) التفاته لكلمة ساخرة، أو نظرة ناقدة. فيلتفت هؤلاء الساخرون إلى أنفسهم بحنق، ويجلدونها بسياط اللوم، وهم يقارنونها بذاك القروي الساذج ... هم يغلقون أفواههم – بقوة – حتى لا تفلت بكلمة، وهو قد أرخى لسانه بطريقة تغري أي كلمة بالانزلاق. هم يجيلون أبصارهم في الحضور خشية نظرة من أحدهم يمكن تفسيرها بالسخرية، وهو يسمع كلمة سخرية (صريحة) فيبتسم كما لو كانت كلمة (ثناء) ! .
رغم السخرية الظاهرة كثيراً ما تمنى أمثال أولئك الساخرون في دواخلهم قائلين: ليت ذاك الساذج (أعارنا) شخصيته ولو في مجلس واحد !!
د. عبد العزيز المقبل
**
مجلة حياة العدد (75) رجب 1427هـ
(9)
أغلق الصنبور أولاً .. !
هناك نكتة تقول: إن أحد الأشخاص ذهب إلى الطبيب النفسي شاكياً ما يعانيه من القلق.
سأله الطبيب: وما الذي يقلقك؟ أجاب: الصلع!.
فسأله الطبيب: والصلع ما سببه؟ فبادر الرجل قائلاً: القلق !. وهكذا رسم لنفسه دائرة، ظل يدور فيها دون أن يستطيع الخروج منها.
هناك كثيرون يعيشون مشكلات عارضة، تنتابهم مثل ما تنتاب غيرهم. وهي في الحالات العادية تحل (ضيفاً) عليهم لأسباب عارضة، ثم لا تلبث أن ترحل مع زوال تلك الظروف .. هذا إن لم تكن شعوراً متخيّلاً لا حقيقة له، أو شيكاً بلا رصيد، كما يقال.
من مثل (أنا أشعر داخلي بخوف شديد)، (حين أردت المذاكرة أحسست أني لا أفهم)، (لا أستطيع الحفظ إطلاقاً، حتى لكأن ذاكرتي مثقوبة)، (أشعر بتعب شديد يسيطرعلي). (أحس أن زملائي بدأوا يتخلّون عني) !!
ولكن بعض الناس بمجرد أن تعرض له مثل تلك الحالة يشعر بتضايق شديد، وينتابه خوف أن تتطور معه، ومن ثم يصبح تفكيره (كلّه) منصباً فيها. وهو بهذا – دون شعور – يعمقها في نفسه.
كنت أسأل بعض من يتصل علي عارضاً مشكلة مقلقة : وطأة المشكلة عليك أشد هذا الشهر أم الشهر الماضي؟ فتكون الإجابة السريعة: هذا الشهر.
وأعيد السؤال: هل وطأتها عليك أشد هذا الأسبوع أم الأسبوع الماضي؟ فيبادر قائلاً: هذا الأسبوع ! ..
ويردف قائلاً: أشعر أنها تزداد مع مرور الوقت.
إن المهمة (الكبرى) لمن يريد (السيطرة) على مثل هذه المشكلات هي (قرار) بوقف (التفكير) السلبي في المشكلة .. فصل التيار، وإلا فإن دائرة المشكلة ستتسع مع مرور الوقت. إنها بالضبط مثل الحجر الذي نرميه في بركة الماء؛ الحجر يغوص لكنه يحدث (دوائر) تظل تتسع، حتى تنتهي مساحة الماء !
لو قدر لنا أن نرى إنساناً انكسرت لديه ماسورة الماء، وبدأ الماء يتسرب بقوة، ثم رأينا ذلك الشخص ينصرف بكل جهده وقوته ليحجز الماء، ويمنعه من أن يمضي في كل اتجاه .. من المؤكد أن كل من رآه سيضحك، ويوقن بأنه يسبح في بحيرة من (الغفلة)، فيبادر فيه صائحاً: أغلق الصنبور أولاً !
د. عبد العزيز المقبل
**
مجلة حياة العدد (76) شعبان 1427هـ
(10)
وصفتان علاجيتان
عوّدت نفسي – دائماً- أن أحمل (سراج) التفاؤل أينما رحلت.. وقد وجدت في ذلك راحة نفسية (كبيرة).
لقد وجدت ذلك السراج يضيء لي أكثر الأزقة (عتمة)، ويرسم – بأشعته – النافذة بين يدي طريقاً لا حباً يغري بسلوكه.
لقد مرت عليّ (نماذج) كثيرة، ذرفت الدمع شفقة من أجلها .. كان أصحابها يعيشون تحت (مطرقة) مشكلات مقلقة، لكن (دمعي) لم يكن لينسكب لمجرد المعاناة، مع تأثري بها، إذ إن المعاناة – حين نستثمرها، ونراها تحت ضوء سراج التفاؤل، تصهر نفوسنا، وتصقلها، لتوقظ فينا الحس الإنساني من جهة، وقد تدفعنا – تحت ضغطها – للتعبير الكتابي، ما يدفع بأسلوبنا في (سلّم) الرقي، من جهة أخرى.
إذاً لماذا ذرفت الدمع؟!
لقد كان (حبل) العجز يلتف على (نفوس وعقول) بعضهم كأفعى، كنت أرى – بوضوح –
(سلالم) النجاة، ربما على بضع خطوات، لكن (عصابة) العجز كانت (محكمة) على عيون أولئك .. كنت احترق لوضعهم، لكن لم يكن لي من وسيلة – في محاولة إنقاذهم – إلا الصراخ عبر الكلمة (الهاتفية أو المكتوبة) لإقناعهم برؤية تلك السلالم .. لكن كلماتي تلك كأنما كانت تفهم من قبلهم (عكس) دلالتها.
ليتني كنت شاعراً – ولو ساعة – لأوسع (العجز) هجاءً. ليت العجز رجل إذاً لبرزت له واتخذت (قراراً) بقتله، مهما تكن النتائج، مع يقيني أنه لن يجد من يطلب بثأره!
إنني سأقدم على ذلك لشعوري أن (شمس) الإرادة ستشرق بعد قتله على كثيرين، فيتحسسون طريقهم، ويعلنون انعتاقهم من مشكلاتهم..
كم هم أولئك الذين يفتك فيهم الوسواس القهري، ويفتت نفوسهم .. ولكن فيروسات العجز تجعلهم يستسلمون له!
كم هم أولئك الذين ينهشهم (وحش) الاكتئاب لأن جيوش العجز قد احتلت أكبر مساحة من نفوسهم!
كم هو أولئك الذين يقتلهم الخوف مرات في اليوم الواحد، لأن سيف العجز (خنق) روح الإرادة لديهم!
أحياناً أجد نفسي لا أصدق وأنا أقرأ رسالة أفهم منها أن صاحبها (مقيد) برباط العجز .. أدهش، وسر الدهشة حين يكون يمتلك أسلوباً مشرقاً، وقلماً قابلاً للركض، بمجرد إطلاق سراحه على الورق.
نشأت لدي قناعة (ضخمة)، وصلت إلى حد الوصفة (العلاجية)، أطلقت عليها
(الكتابة علاجاً) .. وكانت هي الجناح الآخر لمبدأ، كنت ولا زلت أحمل مشعله، هو (القراءة علاجاً) !
د. عبد العزيز المقبل