النفخة العلوية
العلاقة بين الله عز وجل وبين عباده من بنى آدم تختلف عن علاقته سبحانه بجميع خلقه، وكيف لا وما من مخلوق من البشر إلاَّ وفيه نفخة علوية من روح الله إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ [ص: 71، 72].
نعم، هذه النفخة ليست جزءًا من ذات الله – كما ادعت النصارى – بل هي من ملكه( ) وأمره، اختص بها سبحانه الإنسان وميزه عن سائر مخلوقاته، وجعلها مرحلة هامة وأساسية ومميزة في خلقه فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي [الحجر:29] بينما لم يُذكر ذلك في حق أي مخلوق آخر.
ومما يؤكد هذا الأمر قوله تعالى لإبليس مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص: 75].
وفي هذا المعنى يقول سيد قطب: ولأن الله عز وجل خالق كل شيء، فلا بد أن تكون هناك خصوصية في خلق هذا الإنسان تستحق هذا التنويه، هي خصوصية العناية الربانية بهذا الكائن، وإيداعه نفخة من روح الله دلالة على هذه العناية( ).
ويقول رحمه الله: وما كان هذا الكائن الصغير الحجم، المحدود القوة، القصير الأجل، المحدود المعرفة، ما كان له أن ينال شيئًا من هذه الكرامة لولا تلك اللطيفة الربانية الكريمة, وإلا فماذا يبلغ هذا الإنسان لتسجد له ملائكة الرحمن، إلا بهذا السر اللطيف العظيم؟! ( ).
تكريم الإنسان
وليس أدل على خصوصية العناية الربانية بالإنسان من هذا التكريم الذي شمله منذ بدء خلق أبيه آدم وسجود الملائكة له وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ [البقرة: 34]. مرورًا بالصورة الحسنة التي خُلق عليها لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [التين: 4].
وتميزه بنعمة العقل الذي يُعد بمثابة وعاء للعلم والإدراك والتمييز بين الخير والشر والنافع والضار.
قال الحسن البصري: لما خلق الله عز وجل العقل، قال له: أقبل، فأقبل، ثم قال له: أدبر، فأدبر، وقال: ما خلقت خلقًا هو أحب إلىَّ منك، إني بك أُعبد، وبك أُعرف، وبك آخذ، وبك أُعطي( ).
ومن مظاهر هذا التكريم كذلك: تسخير الكون كله لخدمته وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ [الجاثية: 13].
هذا التكريم يشمل جميع بني آدم دون تفرقة بين لون أو جنس أو عرق وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً [الإسراء: 70].
أليست نفسًا؟!
إن النفخة العلوية التي يحملها الإنسان تجعله دومًا موضعًا للتكريم ولو كان من الكافرين.
وإليك – أخي القارئ- هذا الخبر الصحيح الذي يؤكد لنا جميعًا هذا المعنى:
كان سهل بن حنيف وقيس بن سعد رضي الله عنهما قاعدين بالقادسية فمروا عليهما بجنازة فقاما، فقيل لهما: إنها من أهل الأرض، أي من أهل الذمة، فقالا: «إن النبي صلى الله عليه وسلم مرت به جنازة فقام، فقيل له: إنها جنازة يهودي، فقال: أليست نفسًا؟» ( ).
وليس هذا فحسب بل إننا نجد الشريعة الإسلامية توجه المسلمين إلى حُسن التعامل مع جميع الناس في السلم والحرب، ومن ذلك النهي عن التمثيل بالقتلى في الحرب، وكان عليه الصلاة والسلام إذا أمَّر أميرًا على جيش أو سرية يوصيه، فكان مما يقول له: «لا تمثلون»( ) وفي الحديث القدسي: «لا تمثلوا بعبادي»( ).
وكذلك حصر القتل فيمن يقاتل دون غيره وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [البقرة: 190]. فلا قتل لامرأة أو صبي أو أجير أو راهب في صومعته، فإن انتهت الحرب وكان هناك أسرى فلا إهانة ولا إذلال بل احترام لإنسانيتهم وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا [الإنسان: 8].
وعندما أسر المسلمون من المشركين يوم بدر، كانت وصية الرسول صلى الله عليه وسلم بهم كبيرة، فقال لأصحابه: «استوصوا بهم خيرًا»( ).
تقرب الملائكة إلى الله بالدعاء للبشر
لقد اختص الله عز وجل الإنسان لنفسه من بين سائر مخلوقات كما جاء في الأثر: يا ابن آدم خلقت كل شيء لك وخلقتك لنفسي، فلا تشتغل بما خلقته لك عما خلقتك له.
اختصه ليقوم بمهمة عظيمة ألا وهي عبادته سبحانه بالغيب في ظل تمتعه بخاصية حرية الاختيار، ووجود نفس أمارة بالسوء، وشيطان يوسوس، ودنيا تتزين.
وإن كانت العلاقة بين الأب وأبنائه تتسم بالحب والحنان والرحمة والحرص الدائم على مصلحتهم، فإن علاقته سبحانه بالبشر أسمى وأسمى, إنها علاقة الرب بعباده الذين أوجدهم من العدم ونفخ فيهم من روحه.
علاقة الخالق بالمخلوق الذي اختصه لنفسه فهو يحبه ويريد له الخير، والنجاح في مهمته العظيمة.
ومن عجب أن الملائكة الأطهار الكرام لما علمت بمنزلة البشر عند الله جعلت جزءًا من عبادتها دعاءها لهم وهي بذلك تريد التقرب إليه سبحانه وتطمع في نيل رضاه وَالْمَلاَئِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ [الشورى: 5].
ويزداد تقربهم وتوددهم إليه سبحانه بكثرة الدعاء لمن لهم حب خاص وولاية خاصة عنده الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَّهُمْ وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَن تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [غافر: 7- 9].
ويزداد ويزداد لأحب الخلق إليه إِنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ [الأحزاب: 56].
مباهاته بعباده
ومما يؤكد علاقته – سبحانه – الخاصة بعباده البشر الموحدين له: مباهاته بهم الملائكة عند قيامهم بطاعته.
خرج صلى الله عليه وسلم يومًا على حلقة من أصحابه فقال: «ما أجلسكم؟» قالوا: جلسنا نذكر الله، ونحمده على ما هدانا للإسلام، ومنَّ به علينا. قال: «آلله ما أجلسكم إلا ذاك؟» قالوا: والله ما أجلسنا إلا ذاك قال: «أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم، ولكنه أتاني جبريل فأخبرني أن الله يباهي بكم الملائكة»( ).
وانظر إليه صلى الله عليه وسلم وهو يحدث أصحابه عن صورة أخرى من صور هذه المباهاة فيقول: «إن الله يباهي بأهل عرفات أهل السماء، فيقول لهم: انظروا إلى عبادي جاءوني شعثًا غبرًا»( ).
مع أنه سبحانه -يقينًا- لا تنفعه طاعة الطائعين مهما بلغت، ولا تضره معصية العاصين مهما عظمت، وما مباهاته وفرحه بطاعات عباده إلا لأنه يحبهم ويريد لهم الخير.
وما إخبارهم بتلك المباهاة في أكثر من موضع على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا رسالة حب منه لهم لعلها تزيدهم إقبالا عليه وحبًا له وشوقًا إلى لقائه.
ضحكه سبحانه
ومن مظاهر العلاقة المميَّزة بين الله تعالى وعباده وبخاصة الطائعين منهم: ضحكه سبحانه عندما يرى عباده يخلصون أعمالهم له، ويضحون من أجله.
عن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاثة يحبهم الله، ويضحك إليهم، ويستبشر بهم: الذي إذا انكشفت فئة قاتل وراءها بنفسه لله عز وجل، فإما أن يُقتل وإما أن ينصره الله ويكفيه، فيقول: انظروا إلى عبدي هذا كيف صبر لي بنفسه؟, والذي له امرأة حسنة وفراش لين حسن، فيقوم من الليل، فيقول: يذر شهوته ويذكرني، ولو شاء رقد، والذي كان في سفر، وكان معه ركب، فسهروا، ثم هجعوا، فقام من السحر في ضراء وسراء»( ).
ومما يؤكد هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم: «يعجب ربك من راعي غنم، في رأس شظية بجبل، يؤذن للصلاة، ويصلي، فيقول الله عز وجل: انظروا إلى عبدي هذا يؤذن ويقيم الصلاة، يخاف مني، قد غفرت لعبدي، وأدخلته الجنة»( ).
قدر المؤمن عند الله
إن الجسد الذي خلقه الله عز وجل ونفخ فيه نفخة علوية له حرمة عظيمة عنده سبحانه ويكفيك في ذلك قوله تعالى: أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا [المائدة: 32].
وهذا يؤكد مكانة الإنسان الخاصة عند الله عز وجل، وتزداد هذه المكانة كلما كان الإنسان أطوع لله عز وجل, قال صلى الله عليه وسلم: «لزوال الدنيا أهون على الله من قتل مؤمن بغير حق»( ).
يكره سبحانه مساءة عبده المؤمن
تأمل معي أخي القارئ قول الله عز وجل في الحديث القدسي:
«وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأنا أكره مساءته، ولا بد له منه»( ).
يعلق ابن تيمية على ذلك فيقول: فبيَّن سبحانه أنه يتردد (عن قبض نفس عبده المؤمن) لأن التردد تعارض إرادتين، وهو سبحانه يحب ما يحبه عبده، ويكره ما يكرهه، وهو يكره الموت فهو يكرهه كما قال (وأنا أكره مساءته) وهو سبحانه قد قضى بالموت، فهو يريد له أن يموت، فسمى ذلك ترددًا، ثم بين أنه لابد من وقوع ذلك( ).
فرحه – سبحانه – بتوبة العاصين
أرأيت لو أن ابنًا قد شرد بعيدًا عن أبيه، وسار في طريق الفساد، ثم عاد إلى رشده وارتمى في حضن أبيه, أي فرحة يكون عليها الأب في هذا الوقت؟!
هذه الفرحة لا تساوي شيئًا بجوار فرحته سبحانه بتوبة عبد من عباده مهما أسرف في ذنبه ولجَّ في طغيانه.
تأمل معي الحديث الذي يؤكد فيه صلى الله عليه وسلم هذا المعنى بقوله:
«والله، لله أشد فرحًا بتوبة عبده من رجل كان في سفر، في فلاة من الأرض فأوى إلى ظل شجرة فنام تحتها، واستيقظ فلم يجد راحلته، فأتى شرفًا فصعد عليه، فلم ير شيئًا، ثم أتى آخر، فأشرف فلم ير شيئًا، فقال: أرجع إلى مكاني الذي كنت فيه، فأكون فيه حتى أموت، فذهب، فإذا براحلته تجر خطامها، فالله أشد فرحًا بتوبة عبده من هذا براحلته»( ).
مراده أن تدخل الجنة
عندما يقرأ المرء الأخبار السابقة، وبخاصة ما يتعلق بفرح الله عز وجل العظيم بتوبة عبد من عباده فمن المتوقع أن تقفز إلى الذهن بعض التساؤلات عن أسباب هذا الفرح فالله عز وجل لا تنفعه هذه التوبة بشيء، فهو الغنى الحميد, فلماذا هذه الفرحة إذن؟
من السهل علينا أن ندرك سر هذا الفرح عندما نتذكر أن الله عز وجل اختص الإنسان لنفسه دون خلقه جميعًا، وأنه يريد منه أن ينجح في امتحان العبودية ليُدخله الجنة, فمراده سبحانه من جميع البشر دخول جنته وَاللهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ [البقرة: 221].
مراده أن يعود الجميع إليه ليكرمهم وينعمهم في دار أعدها خصيصًا لهم، وجعل لكل منهم فيها جزءًا مقسومًا، وهو سبحانه يريد لكل منهم أن ينال نصيبه في تلك الدار، ويتبوأ منزله فيها وَاللهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ [يونس: 25] وفي نفس الوقت فهو لا يريد أن يُدخل أحدًا من عباده النار وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ
الْكُفْرَ [الزمر: 7].
هذا الأمر ينطبق على جميع البشر في مشارق الأرض ومغاربها، وفي كل العصور والأزمان.. عباد الصليب.. عباد البقر.. الملحدين والوثنيين.. كل هؤلاء يريد الله منهم أن يدخلوا الجنة، ويكفيك في هذا أنه سبحانه وتعالى يمهل هؤلاء وغيرهم من الكافرين، ويعطيهم الفرصة تلو الفرصة, مع قدرته المطلقة عليهم وإحاطته التامة بهم، فلو شاء أن يهلكم لأي ذنب يفعلونه لأهلكهم، لكنه لا يفعل، بل يحلم ويصبر ويمهل لعلهم ينتبهون من غفلتهم.
معنى ذلك أنه ما من واحد يدخل النار إلا لأنه يأبى ويصر على ألا يدخل الجنة كما قال صلى الله عليه وسلم: «كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الْجَنَّة إلاَّ مَنْ أَبَى»( ).
نعم، هذه هي الحقيقة التي يغفل عنها البشر «كلكم يدخل الجنة إلا من شرد على الله شراد البعير على أهله»( ).
ومثال ذلك ما حدث لأصحاب القرية التي كذبت الرسل فأصابهم العذاب بعد طول إمهال ليأتي التعقيب القرآني ليؤكد أنهم هم الذين أبوا إلا العذاب يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ[يس:30].
أحب العباد إلى الله
وأهم صور الإباء والإصرار على عدم دخول الجنة عدم الاعتراف بالله، ربًا وخالقُا ورازقًا، وإلهًا معبودًا، أو إشراك أحد معه في ذلك.
فالشرك أو الكفر ظلم عظيم يظلم فيه العبد الحقيقة العظيمة، حقيقة التوحيد التي قامت عليها السماوات والأرض، ومن ثَّم يهون على الله هوانًا عظيمًا، فيرتد إلى أسفل السافلين، ومع ذلك يظل الباب مفتوحًا للجميع للتوبة والعودة إليه سبحانه قبل فوات الأوان، بل إنه سبحانه وتعالى جعل أحب خلقه إليه من يُحبب الناس فيه، ويدعوهم للعودة إليه وإلى طاعته كي يدخلهم الجنة.
قال صلى الله عليه وسلم: «إني لأعرف ناسًا ما هم بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء بمنزلتهم عند الله سبحانه يوم القيامة، الذين يحبون الله ويحببونه إلى خلقه، يأمرونهم بطاعة الله فإذا أطاعوا الله أحبهم الله» ( ).
فالله عز وجل يبغض الشرك والكفر الذي تلبَّس بالمشركين الكفار، ولكنه سبحانه يريد أن يتوب عليهم، ويدخلهم الجنة بينما هم يأبون، لذلك فإنه سبحانه رغَّب عباده المؤمنين بدعوة هؤلاء وتحبيبهم فيه علَّهم يفيقون من غفلتهم، ويعودون إلى ربهم.
تأمل قوله تعالى الذي يتفجر إشفاقًا ورحمة: قُل لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنتَهُوا يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ [الأنفال: 38]. وتأمل كذلك قوله: وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ [التوبة: 6].
أشد ما يغضبه:
ومع فرحه سبحانه بتوبة عبد من عباده الضالين، ومع حبه الخاص لمن يحبب الناس فيه، فإنه سبحانه يغضب أشد الغضب لمن يُيئس الناس من بلوغ رحمته ويُنذرهم بانقطاع الأمل، وبأنه لا مآل لهم إلا النار.
وما إمهال الله لعباده المقصرين والمسرفين على أنفسهم، بل والكفار والمشركين – كما أسلفنا- إلا لأنه سبحانه يهيئ لهم من الأمور، ويرسل لهم من الرسائل ما قد يوقظهم من سباتهم، ويذكرهم بربهم.
فإذا ما جاء شخص ما وأشعر هؤلاء بأن الله لن يغفر لهم، وأنهم مغضوب عليهم، ولا أمل أمامهم، فسيؤدي ذلك إلى قنوطهم ويأسهم من رحمة الله، ومن ثمّ زيادة تماديهم في الطغيان، وانحرافهم، وابتعادهم عن طريق الهدى، لتكون نهايتهم النار.
فإن كنت- أخي القارئ- في شك من هذا فاقرأ هذا الحديث:
عن أبى قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قال الله تبارك وتعالى للملائكة: ألا أخبركم عن عبدين من بني إسرائيل أما أحدهما فيرى بنو إسرائيل أنه أفضلهما في الدين والعلم والخلق، والآخر يَرى أنه مسرف، فذُكر عند صاحبه، فقال: لن يغفر الله له، فقال: ألم يعلم بأني أرحم الراحمين؟ ألم يعلم أن رحمتي سبقت غضبي؟ وإني قد أوجبت لهذا الرحمة وأوجبت لهذا العذاب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلا تألوا على الله عز وجل»( ).
وعن ضمضم بن جَوْس قال: دخلت مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلب صاحب لي فإذا رجل أدعج العين، براق الثنايا، فقال لي: يا تهامي لا تقولن لأحد لا يغفر الله لك، ولا يدخلك الجنة، قلت: من أنت يرحمك الله؟ قال: أنا أبو هريرة. قلت: قد نهيتني عن شيء كنت أقوله إذا غضبت على أهل بيتي وحشمي، قال: فلا تفعل فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كان رجلان من بني إسرائيل فكان أحدهما به رهق، والآخر عابدًا، فكان لا يزال يقول له: ألا تكف، ألا تقصر، فيقول: ما لي ولك دعني وربي. قال: فهجم عليه يومًا فإذا هو على كبيرة، فقال: والله لا يغفر الله لك، والله لا يدخلك الجنة، فبعث الله إليهما ملكًا فقبض أرواحهما، فلما قدما بهما على الله عز وجل قال للمذنب: ادخل الجنة برحمتي، وقال للعابد: حظرت على عبدي رحمتي، أكنت قادرًا على ما تحت يدي؟ انطلقوا به إلى النار».
قال أبو هريرة: والذي نفسي بيده لقد تكلم كلمة أوبقت دنياه وآخرته( ).
المرحلة الأخيرة
ولأنه سبحانه يريد من عباده دخول الجنة، فقد أتاح لهم فرصًا عظيمة للتوبة والرجوع إليه وذلك طيلة حياتهم في الدنيا، ولا يقتصر الأمر على ذلك، بل وعند مماتهم كذلك طالما أنهم لم يهتكوا الستر بالكفر أو الشرك، فقد أعطى عباده الموحدين أشياء تساعدهم على محو السيئات وزيادة الحسنات.
ومن ذلك أنه تصدق عليهم بثلث أموالهم التي يتركونها كوصية يتصرفون فيها كيفما شاءوا، فإن كان المال الذي بحوزتهم سيئول إلى ورثتهم، إلا أن لهم أن يوصوا بثلثه فيما يريدونه من أبواب الخير.
قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى تصدق عليكم عند وفاتكم بثُلث أموالكم، وجعل ذلك زيادة لكم في أعمالكم»( ).
وحث سبحانه عباده المسلمين – على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم - الصلاة على الميت ليكون دعاؤهم سببًا من أسباب تكفير سيئاته، ورفع درجاته وإنزال الرحمة عليه.
قال صلى الله عليه وسلم: «من تبع الجنازة وصلى عليها، فله قيراط، ومن تبعها حتى يُفرغ منها فله قيراطان, أصغرهما مثل أحد، أو أحدهما مثل أحد»( ).
وحثهم على الدعاء له بالتثبيت عند دفنه «ادعوا لأخيكم فإنه الآن يسأل»( ).
وليس هذا فحسب، بل جعل هناك أعمالا يجري على المسلم ثوابها بعد موته كدعاء الولد الصالح، وكالعلم النافع، وكالصدقة الجارية.
قال صلى الله عليه وسلم: «إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته، بعد موته، علمًا نشره، وولدًا صالحًا تركه، ومصحفًا ورَّثه، أو مسجدًا بناه، أو بيتًا لابن السبيل بناه، أو نهرًا أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته، تلحقه بعد موته»( ).
أهل المظالم:
وإن أردت أن تتأكد – أخي القارئ – أكثر وأكثر بأن مراد الله عز وجل هو دخول جميع عباده الموحدين الجنة فاقرأ هذا الحديث:
عن أنس بن مالك قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم جالسًا إذ رأيناه ضحك حتى بدت نواجذه فقال عمر: ما أضحكك يا رسول الله بأبي أنت وأمي؟
قال: «رجلان من أمتي جثيا بين يدي رب العزة، فقال أحدهما: يا رب خذ لي مظلمتي من أخي، قال الله: أعط أخاك مظلمته، فيقول: يا رب لم يبق من حسناتي، قال: يا رب فليحمل عني من أوزاري، ففاضت عين رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبكاء ثم قال: إن ذلك اليوم عظيم يوم يحتاج الناس فيه إلى أن يحمل عنهم من أوزارهم، فيقول الله عز وجل للمطالب: ارفع رأسك فانظر إلى الجنان فرفع رأسه فقال: يا رب أرى مدائن من فضة وقصورًا من ذهب مكلل باللؤلؤ، لأي نبي هذا؟ لأي صدِّيق هذا؟ لأي شهيد هذا؟ قال الله عز وجل: هذا لمن أعطاني الثمن. قال: يا رب فمن يملك ذلك؟ قال: أنت تملكه. قال: بماذا يا رب؟ قال بعفوك عن أخيك. قال: يا رب قد عفوت عنه. قال: خذ أخاك فأدخله الجنة، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم فإن الله يصلح بين المؤمنين يوم القيامة( ).
فهذا يا أخي هو ربنا الذي يحبنا ويفرح بتوبتنا ويريد أن يدخلنا الجنة.
هذا هو ربنا الذي عرَّفنا بنفسه فقال: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ [البقرة: 163].
* * *