بهذه المبادئ جاء
القرآن . . إنّه يأمر
بالعدل والإحسان ،
وينهى عن العدوان على
كرامة الإنسان ونفسه
وماله وعرضه . . وجعل
مهمة تحقيق العدل
وحفظ الأمن مسؤولية
الدولة في الإسلام ،
كما هي مسؤولية كل
إنسان في المجتمع . .
والرسول
الداعية إلى هذه
المبادئ نراه يعمل
على الدفاع عن الحق
ونصرة المظلوم ، كفرد
في مجتمع ، وكنبي
مبلغ للرسالة ،
وكحاكم منفّذ للشريعة
والقانون .
ويحدثنا التاريخ
عن موقف انساني فذ
فريد للنبي محمد
قبل بعثته ، أعطاه
القيمة الكبرى بعد
البعثة . . وهو موقفه
في حلف الفضول . .
إن حلف الفضول كان
تجمعاً وميثاقاً
إنسانياً تنادت فيه
المشاعر الإنسانية ،
وإضاءة العقول ،
لنصرة الإنسان
المظلوم ، والدفاع عن
الحق المضيع ، لم
تحدثه سلطات ، ولا
قوى دولية ، بل
أنشأته قوى اجتماعية
بدوافع إنسانية ،
واحساس وجداني عميق
بضرورة نصرة
المستضعفين
والمظلومين . .
لنستمع للتأريخ ، وهو
يروي لنا قصة هذا
الحدث الحضاري الكبير
في عالم الإنسان :
روى اليعقوبي في
تأريخه ما نصه :
«حضر رسول الله
حلف الفضول ، وقد
جاوز العشرين ، وقال
بعد ما بعثه الله :
حضرت في دار عبدالله
بن جُدعان حلفاً ما
يسرني به ؟ النعم ،
ولو دعيت إليه اليوم
لأجبت»(1) .
ويحدث اليعقوبي
عن سبب عقد حلف
الفضول فيقول: «وكان
سبب حلف الفضول أن
قريشاً تحالفت أحلافاً
كثيرة على الحمية
والمنعة ، فتحالف
المطيبون وهم بنو عبد
مناف وبنو أسد وبنو
زهرة وبنو تيم وبنو
الحارث بن فهر على أن
لا يسلموا الكعبة ما
أقام حراء وثبير وما
بَلَّ بحرٌ صُوفة .
وصنعت
عاتكة بنت عبدالمطلب
طيباً فغمسوا أيديهم
فيه . وقيل إن الطيب
كان لأم حكيم البيضاء
بنت عبدالمطلب ، وهي
توأم عبدالله أبي
رسول الله ، وتحالفت
اللعقة وهم بنو
عبدالدار وبنو مخزوم
وبنو جمح وبنو سهم
وبنو عدي على أن يمنع
بعضهم بعضاً ، ويعقل
بعضهم عن بعض ،
وذبحوا بقرة فغمسوا
أيديهم في دمها ،
فكانت قريش تظلم في
الحرم الغريب ، ومن
لا عشيرة له حتى أتى
رجل من بني أسد بن
خزيمة بتجارة
فاشتراها رجل من بني
سهم ، فأخذها السهمي
، وأبى أن يعطيه
الثمن ، فكلم قريشاً
واستجار بها ، وسألها
إعانته على أخذ حقّه
، فلم يأخذ له أحد
بحقه ،
فصعد الأسدي أبا قبيس
فنادى بأعلى صوته :
يا أهل فهر لمظلوم
بضاعته***ببطن مكّة
نائي الأهل والنفر
إنّ الحرام لمن تمت
حرامته***ولا حرام
لثوبي لابس الغدر
وقد قيل : لم يكن
رجلاً من بني أسد ،
ولكنّه قيس بن شيبة
السلمي باع متاعاً من
أبي خلف الجمحي وذهب
بحقه ، فقال هذا
الشعر ، وقيل بل قال
:
يا لقصي كيف هذا في
الحرم***وحرمة البيت
وأخلاق الكرم
أظُلم لا يمُنع منِّي
مَن ظلم
فتذممت قريش فقاموا
فتحالفوا ألا يظلم
غريب ولا غيره ، وأن
يؤخذ للمظلوم من
الظالم ، واجتمعوا في
دار عبدالله بن جدعان
التيمي . وكانت
الأحلاف هاشماً وأسداً
وزهرة وتيماً والحارث
بن فهر ، فقالت قريش
: هذا فضول من الحلف
، فسمي حلف الفضول .
وقال بعضهم : حضره
ثلاثة نفر يقال لهم
الفضل بن قضاعة ،
والفضل بن حشاعة ،
والفضل بن بضاعة ،
فسمي بهذا حلف الفضول
. وقد قيل إن هؤلاء
النفر حضروا حلفاً
لجرهُم فسمي حلف
الفضول بهم ، وشبه
بالحلف في تلك السنة»
إن هذه الوثيقة
التأريخية تكشف لنا
عن أبرز مبادئ
الإسلام الإنسانية
على المستوى الدولي
، وهي نصرة
المظلوم ، والدفاع عن
الحق ، بغض النظر عن
دين المظلوم ومذهبه
وعشيرته وقوميته
ووطنه . . ويعطينا
هذا الحلف والميثاق
أصلاً قانونياً ،
ودليلاً على تنظيم
الإسلام للعلاقات
الإنسانية على
المستوى الدولي ،
والحث على الاشتراك
في المنظمات الدولية
الإنسانية التي تعمل
على إغاثة المظلومين
ونصرتهم ، والدفاع عن
حقوقهم ، ومقاومة
الظلم والطغيان في أي
بقعة من بقاع العالم
. . إن هذه القيم
الإنسانية في حقلها
الأخلاقي والسياسي
لهي من أعظم القيم
التي تحتاجها
الإنسانية في عالمنا
المعاصر ، عالم
التكتلات العدوانية ،
وعالم المنظمات
المسخرة لخدمة
الطاغوت العالمي ،
والقوى المتسلطة . .
إن بامكان كل ذي حس
أخلاقي ووعي سياسي ،
أن يشخص الدور
العدواني لمجلس الأمن
الدولي مثلاً الذي
تسيطر عليه
أمريكا ،
وتستخدمه أداة للظلم
والاضطهاد ، كما كانت
قريش الجاهلية تستخدم
قوتها وأحلافها
ونفوذها لظلم
المستضعفين ، فاندفع
ذوو الضمائر الحرة ،
والمشاعر الإنسانية
النبيلة ، والخلق
الرفيع لتشكيل (حلف
الفضول) لنصرة
المظلوم ، وإرغام
الظالم على انصافه .
وفي موقع آخر
يجسد الرسول
تلك المبادئ سلوكاً
وعملاً ، فيخف لنصرة
المظلوم والدفاع عن
حقّه ، ولم يكن هذا
المظلوم مسلماً ،
والرسول يومها نبي
يحمل الدعوة إلى
الناس وينادي فيهم :
«بالعدل قامت
السماوات والأرض» .
إن لتلك الكلمة
الخالدة دلالاتها
وعطاءها في كل حركات
الإنسان وسكناته . .
والدعوة لاقامة العدل
هي منهج القرآن ،
وأساس في سيرة الرسول
العملية ، ومسؤولية
الإنسان على امتداد
وجوده على هذه الأرض
. . وقد قيل قديماً :
الكفر يدوم والظلم لا
يدوم . . والثورة على
الظلم والطغيان
والانتصار للمظلوم
قضية تشخصها العقول
النيِّرة ، والمشاعر
الإنسانية النبيلة ،
كما تشخصها الشرائع
والأديان . .
سجل لنا التأريخ
مواقف عملية للرسول
في المرحلة الجاهلية
لنصرة المظلوم
والمضطهد ، قرأناها
في موقفه في حلف
الفضول ، كما نقرأها
في موقفه العملي من
أبي جهل في بداية
الدعوة . . يوم كان
الرسول
(صلى الله عليه وآله
وسلم) مضطهداً
محارباً مستضعفاً فلم
يمنعه وضعه السياسي
والاجتماعي المحاصر
آنذاك من الانتصار
للمظلوم ، والمطالبة
بحقه من أعتى طواغيت
عصره ، وأكثرهم عدواة
وخصومة له . .
لنقرأ ذلك الموقف ،
ولنتخذه درساً ومنهجاً
في حياتنا الاجتماعية
والسياسية ، فما أكثر
الظلم والمظلومين ،
وما أقل الواقفين
موقف رسول الله
في
الدفاع والنصرة ، وما
أحوج المجتمع إلى
مؤسسات ومنظمات
ومراكز للدفاع عن
حقوق المظلومين
والمضطهدين . . إن
ذلك الموقف الصادر عن
الرسول (صلى الله
عليه وآله وسلم)
ومثله الموقف في حلف
الفضول يؤكد أنّ
الدفاع عن الحق ،
ونصرة المظلوم
مسؤولية يسأل عنها
الإنسان ، والقادر
على القيام بها تجاه
المظلومين والمضطهدين
، وبغض النظر عن
عقيدة المظلوم أو
لغته أو طبقته
الاجتماعية أو
انتمائه السياسي . .
لنقرأ موقف الرسول
من مظلوم استغاث به
لإنقاذ حقّه ،
ولنتأمل في الظروف
الصعبة التي كانت
تحيط بالرسول
(صلى الله عليه وآله
وسلم) يومها .
نقل ابن كثير عن
سلسلة من الرواة تلك
الحادثة فقال
: «قدم رجل من أراش
بإبل له إلى مكّة ،
فابتاعها منه أبو جهل
بن هشام ، فمطله
بأثمانها ، فأقبل
الأراشي حتى وقف على
نادي قريش ، ورسول
الله (صلى الله عليه
وآله وسلم) جالس في
ناحية المسجد ، فقال
: يا معشر قريش من
رجل يعديني على أبي
الحكم بن هشام ، فإني
غريب ، وابن سبيل ،
وقد غلبني على حقي ،
فقال أهل المجلس :
ترى ذلك ، يهمزون به
إلى رسول الله
لما يعلمون ما بينه
وبين أبي جهل من
العداوة ، إذهب إليه
، فهو يعديك عليه ،
فأقبل الأراشي حتى
وقف على رسول الله
(صلى الله عليه وآله
وسلم) فذكر
ذلك له ، فقام معه
فلما رأوه قام معه ،
قالوا لمن معهم :
اتبعه فانظر ما يصنع
؟ فخرج إليه رسول
الله
(صلى الله عليه وآله
وسلم) حتى
جاءه فضرب عليه بابه
، فقال مَن هذا ؟ قال
: محمد ، فاخرج ،
فخرج إليه ، وما في
وجهه قطرة دم ، وقد
امتقع لونه ، فقال :
إعط هذا الرجل حقّه ،
قال : لا يبرح حتى
أعطيه الذي له ، قال
فدخل ، فخرج إليه
بحقه ، فدفعه إليه ،
ثمّ انصرف رسول الله
وقال للأراشي إلحق
لشأنك . . فأقبل
الأراشي حتى وقف على
المجلس ، فقال : جزاه
الله خيراً ، فقد أخذ
الذي لي .. »(2) .
إن هذه الحادثة من
سيرة رسول الله (صلى
الله عليه وآله وسلم)
العملية
تكشف عن انسانية
الدعوة
ووقوفها إلى جنب
الإنسان المظلوم ،
واستنقاذ الحق ، رغم
أنّ الظالم كان من
أعتى طواغيت قريش ،
ورغم العداوة التي
كانت بين الرسول وبين
أبي جهل ، فالرسول (صلى
الله عليه وآله وسلم)
لم يعتذر من الرجل
لما يعلم من أبي جهل
، بل صحبه إلى دار
أبي جهل ، ووقف بكل
جرأة وشجاعة ، بل
وتحدّ للظالم ،
يطالبه بحق المظلوم .
والموقف كما يكشف عن
مواجهة الظلم
والطغيان ، فإنّه
يكشف عن الاهتمام
بالآخرين ، ومشاركتهم
بهمومهم والوقوف معهم
لاستنقاذ حقوقهم
الشخصية . . فالموقف
هو دفاع عن حق ،
ومواجهة لظاهرة
عدوانية في المجتمع .
1- تاريخ اليعقوبي ،
ج2 ، ص17.
2- 2- البداية
والنهاية ، ج3 ، ص
59-60.
المرئيـــــــــــــــــات