الخطبة الأولى
أما بعد: معاشر المسلمين،
لا أشتم الذئب طبع الذئب يكفيني…الغدر شيمة أبناء السراحين
تسمعون ـ عباد الله ـ ما يدور هذه الأيام في الأرض المباركة وفي مسرى رسول رب العالمين محمد من قتل وترويع وإهانة وإذلال، يمارسه إخوان القردة والخنازير، أعداء الله وقتلة الأنبياء، اليهود ضد المسلمين هناك. استخدم اليهود فيه أنواع الأسلحة من رصاص خارقٍ متفجر وصواريخ وطائرات مروحية ونحوها ضد شعب أعزل، فالقتلى بالعشرات، والجرحى بالآلاف، ولا زالت الاعتداءات وانتهاك الحرمات تتواصل، وسقوط الضحايا والجرحى في زيادة.
اليهود الذين لا يتجاوز عددهم خمسة ملايين في فلسطين يدنسون مقدساتنا، ونحن أبناء الألف مليون إنسان واقفون نتفرج، فهنيئًا للراكضين وراء سراب السلام ومفاوضات أوسلو وما بعدها وما قبلها، هنيئًا لهم هذه النتائج وهذا الإنجاز!! هل يعلم اللاهثون للسلام أنهم يبرمون عقودًا مع ثعابين ويسالمون العقارب ويوقعون عهودًا مع الثعالب؟! مخطئ من ظن يومًا أن للثعلب دينًا.
إن الممسكين بملف القضية المتهافتين على الصلح بأفعالهم هذه يصادمون الفطرة ويصادمون التاريخ ويصادمون الواقع ويصادمون العقيدة. يصادمون الفطرة؛ لأن الله تعالى فطر الناس على الإسلام، واليهود كفروا بكل الأديان، وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ أي: ليس غريبًا عنهم، فبماذا قابلوه؟ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ [البقرة:101، 102]. ويصادمون التاريخ؛ لأن التاريخ لا يكذب، وقد سطر في ديوانه أن اليهود قتلة الأنبياء، وسطر في ديوانه جملة من خياناتهم، منها خيانة يهود بني قينقاع في المدينة بعد غزوة بدر، وخيانة بني النضير بعد غزوة أحد، ثم خيانة بني قريظة أثناء غزوة الأحزاب. ويصدقها الواقع، فأحد أحزاب اليهود يوقع اتفاقيات السلام ويأتي الآخر لينقضها، ويتحفظ على كثير من بنودها أو يختلف اجتهاده عن سابقة في تنفيذها والعمل بها، وهكذا كلما عاهدوا عهدًا نبذه فريق منهم. أعلن من بيدهم ملف القضية أن الثالث عشر من سبتمبر موعد نهائي لإعلان الدولة الفلسطينية التي كان مقررًا إعلانها قبل ستة أشهر من هذا التاريخ، ثم أجلّت حتى تتاح الفرصة لفوز يهودي في الانتخابات يظنّ أنه معتدل، ولما فاز ومرت الشهور ولم يتم شيء مما كانوا يعدون به أخذوا يطلقون تهديدات، والدولة التي يراد إعلانها تنتقص أطرافها كل يوم بالمصادرات وبناء المستوطنات، وشعبها تحت الاحتلال، والمجاهدون منهم مطاردون ومضيق عليهم في الوقت الذي يعطى لليهود حق الاقتحام والتدخل متى شعروا بتهديد أو خطر، وفي الوقت الذي يصرح فيه زعماؤهم عدة مرات أن لا مواعيد مقدسة عندهم، وإنما يجرون وراء المصلحة التي يرونها ظاهرة لهم.
أيها المؤمنون، إن المسلمين لا يوحدهم إلا الإسلام، وإن العرب منهم خاصة لا يصلحون إلا بالجهاد، فإذا رفعوا رايته أبدعوا في ذلك وانقاد لهم الآخرون وفتحوا الدنيا وعاش الناس في ظل حكمهم آمنين كرماء.
وإذا كان للفرس حضارة وللروم حضارة وللهند حضارة وللصين حضارة وللفراعنة حضارة وللأشوريين حضارة فإن حضارة العرب هي الإسلام والجهاد، ولم يُعرف لهم حضارة مدى التاريخ إلا الإسلام والجهاد، ومتى ما تخلوا عنهما أو شُغلوا بغيرهما وقعوا فريسة لعدوهم وأضحوكة للعالم يسخَر بهم ويسخّرهم.
إن اللهث وراء السلام بملابساته مصادمة للعقيدة أيضًا؛ لأن المقتنعين به يصفونه بالسلام العادل والشامل والدائم، وهذه الأوصاف لا تنطبق على سلام مع قوم قال تعالى لنا في شأنهم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ [المائدة:51، 52]. إن هذا التحذير بل التهديد بأن من يتولهم فهو منهم، وفيه نص على أن الذين في قلوبهم مرض يوالونهم ويحتجون بأنهم يخشون الدوائر ويخافون سوء العواقب في الدنيا.
قد يقول قائل: إن المسلمين الآن ضعاف، وفي الأمر سعة أن نصالح أعداءنا ونسالمهم لحين أن تقوى شوكتنا فننبذ إليهم عهدهم ونعلن الحرب على اليهود. والجواب على هذه الشبهة أن الواقع ليس اتفاقيات سلام فقط، وإلا فماذا بقي في يد العرب المعنيين به من شيء حتى يوافقوا عليه؟! ومع كل ذلك وحتى هذه الأيام رفض اليهود كل تلك التنازلات ويصرون على أكثر، وما دخل تنحية شرع الله عن الحكم في عهد السلام؟! لماذا من ضمن بنود السلام تسليم العناصر الجهادية لليهود والتعاون على مطاردتهم؟!
إن الله تعالى أخبرنا وهو أصدق القائلين بقوله: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120]، وهذه الحقيقة لمسناها جلية في القديم والحديث، فأهل الكتاب وهم اليهود والنصارى هم الذين كانوا يقولون للذين كفروا من المشركين: هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً [النساء:51]، وأهل الكتاب هم الذين ألبوا المشركين على المسلمين في المدينة وكانوا لهم درعًا ورداءً، وأهل الكتاب هم الذين شنوا الحروب الصليبية خلال مائتي عام، وهم الذين ارتكبوا فظائع محاكم التفتيش في الأندلس، وهم اليوم شردوا العرب المسلمين في فلسطين، ويشردون المسلمين في البوسنة والهرسك وكوسوفا والحبشة والصومال والفلبين والشيشان.
اللهم أقم على الجهاد...
-------------------------
الخطبة الثانية
أيها المسلمون، لقد استبشر المسلمون وفرحوا بهذه التحركات التي تجري على بعض الأصعدة في طول البلاد الإسلامية وعرضها تجاوبًا لما يجري في فلسطين، وبقدر ما ساءهم الوضع وآلمهم فهم في الوقت نفسه تغمرهم فرحة التلاحم والتداعي الشعوري التي ظهرت وبرزت نتيجةً لما يحدث، فالحمد لله على نعمه. بيد أن في النفوس تساؤلا: هل هذه الحملات ردة فعل معينة للخروج من مأزق أو من مآزق، وقطعًا للطريق أمام التيار الإسلامي حتى لا يستأثر بالقضية بعد أن ثبت للجميع علميًا وعمليًا فشلُ القوميات العربية والنعراتِ الجاهلية وإفلاسُ الشعارات المطروحة؟ فلما احتدم الأمر وحمي الوطيس خاف الكثير من المتنفذين، فعمدوا إلى حيلٍ يسكتون بها الهدير الذي بدأ، ويمتصون غضب الشعوب الناقمة، عمدوا إلى وسائل لا تكلف كثيرًا فسيَّروا المظاهرات بعشرات الألوف، وربما مئات الألوف، لكن هل قدموا شيئًا عمليًا يعود بالنفع الحقيقي للقضية وأهلها؟!
الجميع يعلم أن اليهود استولوا على فلسطين قبل خمسين عامًا، وأدخلوا القدس تحت حكمهم منذ ثلاثة وثلاثين عامًا، وأحرقوا المسجد الأقصى، وروعوا الآمنين، وشردوا أهل البلاد من المسلمين، كل ذلك قبل عشرات السنين، فأين هذه الغضبة المضرية؟! فإن قيل: عفا الله عما سلف، قلنا: اللهم آمين لكن هل تستمر هذه التعبئة وتوجه الوجهة الصحيحة المثمرة النافعة إلى أن يتحرر الأقصى وتعاد الحقوق المسلوبة إلى أهلها وتحكم فلسطين بحكم الله وكتابه؟! نرجو ذلك، وندعو الله أن يتم، وندعوه سبحانه أن يقيم علم الجهاد ويرفعه، ويقمع أهل الكتاب والشرك والعناد وأهل الزيغ والفساد.
اللهم ارحم ضعف المنكوبين والمستضعفين من المسلمين، وتول أمرهم، اللهم ثبت أقدام المجاهدين في سبيلك وسدد سهامهم وآرائهم...