الخطبة الأولى
أما بعد: فأوصيكم ـ أيها المسلمون ـ ونفسي بتقوى الله سبحانه والعمل على مرضاتِه وتَركِ ما يُسخطه، فما زاغ من اتقاه، ولا خاب من رجاه، أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:61، 62].
أيها الناس، إنَّ مِن الأمور التي لا يماري فيها العقلاء ولا يتجاهلها من هم على هذه البسيطة أحياء ولهم أعينٌ تطرف وعقول تدرك أنَّ الطمأنينة والاستقرارَ النفسي مطلب البشر قاطبةً وإن اختلفوا في تحديد معاييرها وسبُل الوصول إليها، وربما ضاقت بعض النفوس عطَنًا في نظرتها لمثلِ هذا المعنى الرفيع، فحصرته كامنًا في المال وتحصيله، ونفوسٌ أخرى حصرته في الجاه والمنصب، ونفوسٌ غيرها حصرته في الأهل والولد. وهذه المفاهيم وإن كانت لها حظوة في معترك الحياة الدنيا، إلا أنها مسألةٌ نسبيّة في الأفراد ووَقتيّة في الزمن، والواقع المشاهَد أن الأمر خلافُ ذلكم، فكم من غني لم يفارق الشقاء جنبيه، ولم يجد في المال معنى الغنى الحقيقي؛ إذ كم من غنيٍّ يجد وكأنّه لم يجد إلا عكسَ ما كان يجد، وكم من صاحب جاهٍ ومنزلة رفيعة لم يذق طعم الأنس والاستقرار في وردٍ ولا صدر، ولا لاح له طيفُه يومًا ما، وكم من صاحب أهلٍ وولدٍ يتقلّب على رمضاءِ الحزن والقلق والاضطراب النفسيّ وعدم الرضا بالحال، بينما نجد في واقع الحال شخصًا لم يحظَ بشيء من ذلكم البتةَ؛ لا مال ولا جاهٍ ولا أهل ولا ولد، غيرَ أن صدرَه أوسع من الأرض برمّتها، وأنسَه أبلغُ من شقاء أهلها، وطمأنينَتَه أبلجُ من قلقهم واضطرابهم، لماذا؟ وما هو السبب عباد الله؟ لأنّ تلكم الأصناف قد تباينت في تعاملها مع نعمة كبرى ينعم الله بها على عبده المؤمن، نعمةٍ إذا وقعت في قلب العبد المؤمن أرته الدنيا واسعةً رحبة ولو كان في جوف حجرةٍ ذرعُها ستة أذرعٍ، ولو نزِعت من قلب العبد لضاقت عليه الواسعة بما رَحُبت ولو كان يتقلّب بجنبيه في حجر القصور والدور الفارهة.
إنها نعمةُ الرضا عباد الله، نعم نعمة الرضا، ذلكم السلاح الفتّاك الذي يقضي بحدّه على الأغوال الهائلة التي ترعب النفسَ فتضرب أمانها واطمئنانَها بسلاح ضعف اليقين والإيمان؛ لأن من آمن عرف طريقَه، ومن عرف طريقه رضي به وسلكه أحسنَ مسلكٍ ليبلغَ ويصل، لا يبالي ما يعرض له؛ لأن بصرَه وفكره متعلقان بما هو أسمى وأنقى من هذه الحظوظ الدنيوية. ولا غروَ ـ عباد الله ـ أن يصل مثل هذا سريعًا؛ لأنّ المتلفِّت لا يصل ولا يُرجى منه الوصول، يقول المصطفى : ((ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد رسولاً)) رواه الترمذي، وقال : ((من قال: رضيتُ بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمّد رسولاً وجبت له الجنّة)) رواه أبو داود.
إنّ للرضا ـ عباد الله ـ حلاوةً تفوق كلَّ حلاوة، وعذوبةً دونها كلُّ عذوبةٍ، وله من المذاق النفسي والروحيِّ والقلبيّ ما يفوق مذاقَ اللسان مع الشهد المكرَّر. فهذان الحديثان ـ عباد الله ـ عليهما مدار السعادة والطمأنينة، وباستحضارهما ذكرًا وعملاً تتمكّن النفس من خوض عُباب الحياة وتكفّؤِ أعاصيرها دون كُلفةٍ أو نصب، مهما خالط ذلك من مشاقٍّ وعنت؛ لأن الحديثين قد تضمّنا الرضا بربوبيّة الله سبحانه وألوهيته والرضا برسوله والانقياد له والرضا بدينه والتسليم له، فأخلِق بمن جمع هذه الدعاماتِ الثلاثة في قلبه أن يحيا هنيًّا ويعيشَ رضيًّا؛ لأن هذه الدعامات ـ عباد الله ـ مقاصد مشروعةٌ مضادّة لما يخالفها من الهوى والشبهة والشهوة التي تعترض المرءَ ما دام حيًّا، وهي معه في سجال معتَرَكٍ بين الحقّ والباطل والزَّين والشَّين والرضا والسخط، ومن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السّخط، ولا يظلم ربّك أحدًا.
أيها المسلمون، إن الأمة في هذا العصر الذي تموج فيه الفتن بعضها ببعض وتتلاقح فيه الشرور والنكبات لهي أحوج ما تكون إلى إعلان الرضا بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمّد رسولاً. نعم عباد الله، إنها أحوج ما تكون إلى إعلان ذلكم بلسانها وقلبها وجوارحها؛ لأن ما تعانيه الأمة المسلمة اليوم يصدق فيه قول الحسن البصري رحمه الله حينما سئل: من أين أتِي هذا الخلق؟ قال: "من قِلَّة الرضا عن الله"، قيل له: ومن أين أتي قلّة الرضا عن الله؟ قال: "من قلّة المعرفة بالله". ولا جرم ـ عباد الله ـ أننا نسمع مثل هذا الإعلان على الألسنِ كثيرًا، بيدَ أن هذا ليس هو نهاية المطاف ولا غاية المقصد، بل إننا أحوج ما نكون إليه في الواقع العمليّ ليلامسَ شؤوننا المتنوّعة في المأكل والمشرب والملبس والعلم والعمل والحكم والاقتصاد والاجتماع والثقافة والإعلام وسائر نواحي الحياة.
إن النفوسَ مشرئبّة والأحداق شاخصة إلى أن ترى في واقع الناس الرضا بألوهيّة الباري جلّ شأنه المتضمّنة الرضا بمحبّته وحده وخوفه وحده ورجائه وحده وكلِّ ما من شأنه أن يُصرَفَ له وحده، قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ [الأنعام:162-164].
إنه الرضا بربوبيته سبحانه المتضمِّن الرضا بتدبيره وتقديره وأن ما أصاب العبد لم يكن ليُخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبَه، وإذا رضي العبد بربوبية الله وألوهيته فقد رضي عنه ربُّه، وإذا رضي عنه ربّه فقد أرضاه وكفاه وحفظه ورعاه، وقد رتّب الباري سبحانه في محكم التنزيل في غير آيةٍ رضاه عن الخلق برضاهم عنه فقال في عدّة آيات: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [المائدة:119، التوبة:100، المجادلة:22، البينة:8].
عباد الله، إن انتشارَ الرضا بدين الله في أرضه لهو مظنّة سعادة المجتمعات المسلمة برمّتها، ومتى عظّمت الأمة دينها ورضيت به حكَمًا عدلاً في جميع شؤونها أفلحت وهدِيَت إلى صراط مستقيم. وإن واقعَ مجتمع يشدّ الناسَ إل التديّن ويذكّرهم بحقّ الله وتُشَمّ رائحة التديّن في أروقته لهو المجتمع الرضيُّ حقًّا المستشعرُ ضرورةَ هذا الدين له كضرورةِ الماء والهواء؛ لأن كلّ أمّة تهمل أمرَ دينها وتعطّل كلمةَ الله في مجتمعها فإنّما هي تهمل أعظَم طاقاتها وتعطِّل أسباب فلاحها في الدنيا والآخرة. فيا لله العجب كيف يتحلَّل أقوام عن دينهم ويستخفّون به ويقعدون بكلّ صراط يوعدون ويصدون من آمن به يبغونها عوجًا؟! ويا لله العجب كيف يتوارى أقوام بدينهم ولا يظهرونه إلا على استحياءٍ أو تخوّف؟! أين هؤلاء من قول النبي : ((ثلاث من كنّ فيه وجد حلاوةَ الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما، وأن يحبَّ المرء لا يحبّه إلا لله، وأن يكرهَ أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يُلقى في النار)) رواه أبو داود والنسائي؟!
ألا ما أعظمَ الأمةَ الواثقةَ بنفسها الراضيةَ بربها ودينها ورسولها ، تردّد في سرِّها وجهرها: "رضينا بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد رسولاً".
إن الاضطرابَ والتفرّقَ والذلَّ والخوف والفوضى كلُّ ذلك مرهون سلبًا وإيجابًا بالرضا بالدين وجودًا وعدمًا، وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ [آل عمران:85].
إنه الدين الكاملُ الصالح لكلِّ زمان ومكان، إنه دين الرحمة والرأفة والقوّة والصدق والأمانة والاستقامة والعبودية لله، دين متين خالدٌ لا يُقوَّض بنيانه ولا تُهزّ أركانه، دينٌ لا يشوبه نقصٌ ولا يفتقر إلى زيادةٍ، دين كامل بإكمال الله له، الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3].
باركَ الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والذكر والحكمة، قد قلت ما قلت، إن صوابا فمن الله، وإن خطأ فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنه كان غفّارًا.
-------------------------
الخطبة الثانية
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده.
وبعد: فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن حلاوة الإيمان لا يلَذّ طعمها ولا تلامس شغاف قلب المؤمن حتى يرضى بمحمد نبيًّا ورسولا، وذلك بأن ينقادَ له ويسلّم تسليمًا مطلقًا بما أتى به من الوحي، فلا يتحاكم إلا لهديه، ولا يحكّم عليه غيرَه، ولا يرضى بحكم غيره البتّةَ، وأن لا يبقى في قلبه حرجٌ من حكمه، وأن يسلّم تسليمًا، أيًّا كان حكمه ، حتى وإن كان مخالفًا لمراد النفس أو هواها أو مغايرًا لقول أحدٍ كائنًا من كان؛ لأن الحبيبَ قال كما في الحديث الصحيح: ((كلُّ أمتي يدخل الجنّةَ إلا من أبى))، قيل: ومن يأبى يا رسول الله؟! قال: ((من أطاعني دخل الجنّةَ، ومن عصاني فقد أبى)).
ألا إنّه لا أقبحَ ولا أخزى في العصيان من معارضة سنته بالهوى أو الشهوة أو تقديم العقل عليها أو التشكيك فيها، كما وقع في أتُّون ذلكم فئامٌ من الناس على وجه الحيلة وهم لا يهتدون سبيلا، وبالأخصّ في جملةٍ من المسائل التي يبني عليها المسلمون مرتكزاتهم وثوابتهم الشرعية، وذلك من خلال الترويض على استسهال نقد نصوص السنّة دون مسوِّغٍ شرعيّ يجب الرجوع إليه والجرأة على مواجهتها ووصفها بأنها تخالف المعقول تارةً أو لا تلائم واقعَ الحال تارات، بل لقد شرق أقوامٌ بالسنة النبوية حتى أضحت شوكةً في حلوقهم، فيا لله العجب، إذا كان يسعى إلى الماء من يغصّ بلقمةٍ واحدةٍ فإلى أيّ شيء يسعى من يغصّ بالماء ذاته؟! فالله المستعان، ولا حول ولا قوّة إلا بالله.
ألا رحم الله الحافظ ابن حجر وقد أحسن حين قال: "وقد توسَّع من تأخَّر عن القرونِ الثلاثة الفاضلة في غالبِ الأمور التي أنكَرَها أئمّةُ التابعين وأتباعُهم، ولم يقتنِعوا بذلَك حتى مزَجوا مسائلَ الديانة بكلام الفلاسفةِ، وجعلوه أصلاً يرُدّون إليه ما خالَفَه من الآثار بالتأويل ولو كان مستَكرَها، ثم لم يكتفوا بذلك حتى زعَموا أنَّ الذي رتَّبوه هو أشرف العلوم وأولاها بالتحصيل، وأنّ مَن لم يستعمِل ما اصطَلحوا عليه فهو عامّيّ جاهل، فالسعيد من تمسَّك بما كان عليه السلف واجتَنَب ما أحدثه الخلف".
مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا [النساء:80-82].
ألا فاتقوا الله عباد الله، ووصلّوا وسلّموا على خير البرية وأزكَى البشريّة محمّد بن عبد الله صاحب الحوض والشفاعة، فقد أمَركم الله بأمرٍ بدأ فيه بنفسِه، وثنى بملائكته المسبّحةِ بقدسِه، وأيّه بكم أيّها المؤمنون، فقال جلّ وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، وقال صلوات الله وسلامه عليه: ((من صلى عليَّ صلاة صلّى الله عليه بها عشرًا)).
اللّهمّ صلِّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد...
(1/4827)