أما بعد: أيها المسلمون، اتقوا الله وراقبوه، وارجوا اليوم الآخر، وحافظوا على أوامر الله وأدوها كما أمركم الله ورسوله ، واجتنبوا ما نهاكم الله عنه وما نهاكم عنه رسوله ، وليتحرّ كل مسلم الصواب في عباداته حتى تقبل منه، ويتعلم أحكام العبادات وشروطها وأركانها ونواقضها ومبطلاتها. فربما يفعل المسلم فعلاً يظنّه مسنونًا فإذا هو مبطلٌ للعبادة أو منقص لأجرها.
أيها المسلمون، شركة الاتصالات وفّرت خدمة لمشتركي الجوالات لمن يرغب الاشتراك بها، ويعرفها كثير منكم وخاصة الشباب، حيث إن تلك الخدمة توهم المتّصل على صاحب الجوال بأن جواله مغلق، ويُسمعه رسالة صوتيّة بأنه لا يمكن الاتصال به الآن ويمكن الاتصال به في وقت لاحق، وفي الحقيقة أنه غير ذلك، بل جواله مفتوح، ويَعرف من هو المتَّصل عليه، فأطلقوا على هذه الخدمة اسم "موجود"، وهو فعلا جواله في الخدمة موجود، ولكنه يوحي للمتصل بأنه غير موجود.
فسبحان الله! هذه الخدمة شبّهتها ببعض المصلِّين والموجود في الصلاة ولكن قلبه غير موجود، وغير حاضر في صلاته, وصلاة بلا خشوع ولا حضور قلب كبدن ميت لا روح فيه. نعم، البدن موجود لكن القلب غير خاشع في الصلاة، والله سبحانه وتعالى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ [المؤمنون:1، 2]. فعنوان خطبتي اليوم: "خدمة موجود". والحقيقة موجود ليس في الجوال وإنما في الصلاة، وذلك لما نراه من واقع كثير من الناس اليوم يؤديها وقلبه غير موجود, بدن بلا قلب أثناء تأديته هذه الشعيرة العظيمة الصلاة، التي هي عماد الدين وعصام اليقين وركن الإسلام الأعظم بعد الشهادتين وميزان إيمان العبد وإخلاصه لربه.
نعم كثير من الناس يصلُّون ولكن لا تُرى آثار الصلاة عليهم، لا يتأدبون بآدابها، ولا يلتزمون بأركانها وواجباتها، صلاتهم صورية عادية، لإخلالهم بلبها وروحها وخشوعها، يصلون جسدًا بلا روح، وبدنًا بلا قلب، وحركاتٍ بلا مشاعر وأحاسيس، صلاتهم مرتعٌ للوساوس والهواجس، يأتي الشيطانُ أحدَهم وهو في صلاته، فيجعله يصول ويجول بتفكره في مجالات الدنيا، يتحرك ويتشاغل، يستطيل ويتثاقل، ويلتفت بقلبه وبصره إلى حيث يريد، فينفتل من صلاته ولم يعقل منها شيئًا، بل لعلَّ بعضهم لا يعقل منها إلا قليلاً، والشريعة تدل على أنه لا يقبل من العبد شيء من أعماله إلا بفعل الصلاة، فهي مفتاح ديوانه ورأس مال ربحه، فإذا خسرها خسر أعماله كلها، والصلاة ما حافظ عليها وحفظها عبد إلا عرف بين الناس باستقامته، بإخلاصه، بحسن معاملاته، ببره وإحسانه، بسعة باله، وبنصحه للمسلمين، بمحبته للمؤمنين، إلى غير ذلك من الفضائل والمناقب التي لا تحصى.
ولا غرابة في ذلك فكما أن الصلاة أفضل الأعمال، فكذلك إقامتها تأتي بأحسن النتائج، والصلاة ليست هي الصورة المعهودة من القيام والقعود والتعبد بالألفاظ فحسب، وإنما الصلاة الكاملة هي المبنية على الخضوع والخضوع لله تعالى وحضور القلب، وصلاة بلا خشوع ولا حضور قلب كبدن ميت لا روح فيه، وفي هاتين الآيتين الكريمتين: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ حكم ربنا حكما محققا لا ريب فيه بالفلاح للمؤمنين الخاشعين في صلاتهم، فلاح الفرد المؤمن وفلاح الجماعة المؤمنة، وعد الله لا يخلف الله وعده، وفضل الله لا يملك أحد رده.
الفلاح الذي يشمل كل ما يعرفه الناس من معاني الخير، وما لا يعرفونه مما يدخره الله تعالى لعباده المؤمنين، من النصر والعز والسعادة والتوفيق والثواب والفوز والرضوان، وما شاء الله غير هذا وذاك في الدارين، وفي الصحيح عن عثمان بن عفان عن النبي أنه قال: ((ما من امرئ تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت له كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم يؤت كبيرة، وذلك الدهر كله)).
والخشوع في الصلاة إنما يحصل لمن فرغ قلبه لها، واشتغل بها عما عداها، وآثرها على غيرها، وحينئذ تكون راحة لبدنه وغذاء لروحه ومغفرة لذنوبه وقرة عين له، وهذه حكمة ربنا، كما قال عز وجل: وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ أي: شاقة إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [البقرة:45، 46]. وقد ذم الله قسوة القلوب المنافية للخشوع في غير موضوع من القرآن، فقال تعالى: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً [البقرة:74]. ولما استبطأ الله المؤمنين دعاهم إلى خشوع القلب لذكره وما نزل من كتابه، ونهاهم سبحانه أن يكونوا كالذين طال عليهم الأمد فقست قلوبهم، فقال تعالى: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنْ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمْ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [الحديد:16].
والخشوع في الصلاة هو خضوع القلب وطمأنينته وسكونه لله تعالى، وانكساره بين يديه ذلا وافتقارا وإيمانا به وبلقائه. ومن لم يخشع في صلاته فهو بمراحل بعيدة عن الفوز والنجاح. وقد كان رسول الله يتعوذ بالله من قلب لا يخشع، ففي الحديث الصحيح عنه: ((اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، وقلب لا يخشع، ونفس لا تشبع، ودعاء لا يسمع)).
وقد يظن البعض أن حضور القلب في الصلاة من أعظم ما تتجشمه النفس، بل يكاد يكون مستحيلا لغلبة الخواطر على ذهن المصلي، وإنما عرض لهم هذا الظن الخاطئ من شدة الغفلة عن الله تعالى وجهلهم بروح الصلاة، وإلا فلو أخذ المصلي على نفسه أن يتصور معاني الصلاة من ألفاظها التي ينطق بها وأفعالها التي يقوم بها لخشع قلبه وسكنت جوارحه وأقام صلاته واتصل بربه وانحصر ذهنه في عظمة الله تعالى ذكرًا وخوفًا وطمعًا وهيبةً وحيًاء، بل لو أقبل على الله عز وجل في صلاته بقلب يملؤه الحب والتعظيم ويدفعه الذل والافتقار ويحدوه الأمل والرغبة في الخير لما وجدت الوساوس والخواطر إلى قلبه سبيلا، وإن حدث اختلاس طارئ دنيوي في وسط صلاته فسرعان ما يحترق ويتلاشى ويذهب مع الخشوع، ذلك بأن الله عز وجل متى علم عن عبده الإيمان والصدق والإخلاص في العمل أنزل السكينة عليه، وهداه وكفاه شر الشيطان، وأعانه وثبته، وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [الفتح:4].
أيها المسلمون، إن الإنسان ضعيف الخلقة دائم الحيرة، كثير الهلع والجزع، كثير الخطايا والذنوب، لا يستغني عن الله تعالى طرفة عين، وهذه الصلوات فروض ونوافل، تتيح لمن يصلي بطمأنينة وحضور قلب أن يسأل بارئه كل ما يريد، حتى ينفس عن مشاعره، وحتى تنبعث في قلبه الرغبة في الطاعة والتلذذ بها، والأخذ بأوامر الله عز وجل ولو كانت تتعارض ورغباته الشخصية، كما تبث فيه عدم اليأس، وتدعوه إلى التماس الخير والقوة من الله تعالى؛ لأن الإنسان الذي يعتمد على الله وحده لا يعرف اليأس إلى قلبه سبيلا، ويملك من القوة النفسية ما يواجه بها أعظم المشاكل دقة وخطرا. فالإنسان في هذه الحياة وسط تيار جارف من الآلام والمصاعب، فمن لم يؤمن بالله تعالى ويؤد فرائضه على أكمل وجه ويتخذه سبحانه ملجأ في الشدائد ومعزيا في المصائب ومساعدا في المتاعب كان أشق الناس في حياته، بخلاف المؤمن الذي يحيا بهذا الإيمان الحياة الطيبة.
والصلاة تشتمل على أذكار ومناجاة وأفعال، ومع عدم حضور القلب لا يحصل المقصود من الأذكار والمنجاة؛ لأن النطق إذا لم يعرب عما في الضمير كان بمنزلة الهذيان، وكذلك لا يحصل المقصود من الأفعال؛ لأنه إذا كان المقصود من القيام الخدمة ومن الركوع والسجود الذل والتعظيم ولم يكن القلب حاضرا لم يحصل المقصود، فإن الفعل متى خرج عن مقصوده بقي صورة لا اعتبار بها، قال الله تعالى: لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ [الحج:37]. فروح الصلاة التوجه إلى الله عز وجل بالقلب والخضوع الحقيقي له والإحساس بالحاجة إليه، فإذا خلت الصلاة من هذه المعاني لم يصدق على المصلي أنه أقام الصلاة، بل هدمها وسلبها روحها، قال الله تعالى: وَأَقِمْ الصَّلاةَ لِذِكْرِي [طه:14]، والغفلة تضاد الذكر.
وقد تكاثرت الأدلة بالندب إلى استحضار قرب الله سبحانه وتعالى في حال العبادات كلها، وخاصة الصلاة لقوله : ((إذا قام أحدكم يصلي فإنه يناجي ربه))، وقوله: ((إن الله ينصب وجهه لوجه عبده في صلاته ما لم يلتفت)).
ففروا إلى الله عباد الله، وانتظروا أوقات الصلاة انتظار المكاسب والمغانم، وأحسنوا الاستعداد لأدائها بطهارة الظاهر والباطن، وعظموا بها ربكم عز وجل، واستحضروا فيها عظمته تعالى، وفرغوا قلوبكم من الشواغل الدنيوية، وصلوا بقلوب حاضرة خاشعة خائفة راجية، وأكثروا من الدعاء فيما شرع الدعاء فيه كالسجود وبين السجدتين وبعد التشهد الأخير، فإن الدعاء في الصلاة أفضل من الدعاء بعدها وأنفع، واحذروا من التقصير في العمل، فإن القاصر من العمل لا يبرئ ذمة، ولا يكفر ذنبا، ولا ينور قلبا، وتأملوا فيما تقرؤونه في صلاتكم وما تذكرون الله تعالى وتدعونه، ولاحظوا أن الركوع تواضع لعظمة الله، وأن السجود زيادة تذلل وخضوع له. فرحم الله عبدا أقبل على الصلاة خاشعًا خاضعًا لله عز وجل خائفًا مذعنًا راغبًا وجلاً مشفقًا راجيًا، وجعل أكثر همه في صلاته لربه ومناجاته إياه، وانتصابه بين يديه تبارك وتعالى، قائمًا وقاعدًا وراكعًا وساجدًا، يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه، قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر:9].
أيها الإخوة في الله، إن من الظواهر الجديرة بالمعالجة والتي لها أثر كبير في انصراف المصلين عن الخشوع في الصلاة ما قذفت به المدنية المعاصرة من وسائل الاتصال الحديثة، كالهواتف المتنقلة التي بُلي بها كثير من الناس، فيصطحبونها في صلواتهم ومساجدهم، وهي تسبب أذى وإزعاجًا للمصلين. فأي خشوع عند هذا المصلي ـ عفا الله عنه ـ الذي يقطع حلاوةَ إقباله على ربه ولذيذ مناجاته لخالقه رنينُ هاتفه المتكرر؟! فيشغل نفسه ويؤذي غيره، فهل هؤلاء الذين جاؤوا إلى المسجد مصطحبين هذه الأجهزة مفتوحة جاؤوا مصلين أم ماذا؟!
ألا فليتق الله أولئك في صلاتهم، وليحذوا من إيذاء إخوانهم المصلين وانتهاك حرمة بيوت الله. ومتى علم الله من عبده الرغبة في الخير وفقه له وأعانه عليه، ولو أن المسلمين اليوم أدوا هذه الصلاة كما سن رسول الله لكانت ـ بتوفيق الله ـ انطلاقة جادة لإصلاح أوضاعهم وتغيير أحوالهم وسلامة مجتمعاتهم وطريقًا إلى النصر على أعدائهم وتحقيق ما يصبون إليه في دنياهم وأخراهم؛ لأن في تطبيق شعائر الإسلام السلاح القوي والدرع الواقي من كل مكروه بإذن الله، ولأن الدافع إليه قوة الإيمان وصدق اليقين والشوق إلى الآخرة.
فاتقوا الله رحمكم الله، واحفظوا صلاتكم وحافظوا عليها، واستعيذوا بالله من قلب لا يخشع، فقد كان من دعاء نبيكم محمد : ((اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها)).
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ [البقرة:45].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
-------------------------
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي جعل الصلاة قرة أعين العباد الصالحين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله إمام المتقين وقائد الغر المحجلين، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه وأزواجه الطاهرات أمهات المؤمنين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله، فقد قال الله تعالى: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ [البقرة:238].
أيها المسلمون، عنيت الشريعة الإسلامية بالصلاة عناية فائقة؛ لكثرة منافعها للعباد في عاجل أمرهم وآجله، فقد ذكرها الله في القرآن باشتقاقاتها في أكثر من ثمانين موضعا؛ لما تضمنته من العبودية لله تعالى بالقلب واللسان والجوارح، ولما اشتملت عليه من القيام والركوع والسجود والخضوع لله رب العالمين.
فرضها الله على المسلمين في السماء السابعة ليلة الإسراء قبل الهجرة، وخاطب الله رسوله محمدا بها مباشرة وبدون واسطة لأهميتها وعظم قدرها، وحتم على العباد أداءها في أوقات معينة لا تقدم عليها ولا تؤخر عنها إلا من عذر، وهي الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر؛ لتكون صلة بين العبد وربه، حتى لا تطول بالعباد الغفلة عن طاعة الله، ولا تلهيهم المتع الدنيوية عن ذكره؛ لأن الغفلة عن الله والإعراض عن ذكره يحدث للنفوس جفاء وشقاء، وللقلوب ظلمة وقسوة.
وفي قوله تعالى: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى [البقرة:238] أمر منه تعالى للعباد بالمحافظة على الصلوات عموما، وعلى الصلاة الوسطى وهي العصر خصوصًا، والمحافظة على الصلوات أداؤها في أوقاتها مع الجماعة لمن تجب عليه الجماعة، مع استيفاء شروطها وأركانها وخشوعها وواجباتها وسننها. وما جاء في القرآن عن الصلوات الخمس عموما وصلاة العصر خصوصا والمحافظة عليها جاء في السنة أيضا، قال رسول الله : ((خمس صلوات كتبهن الله على العباد، من أتى بهن لم يضيع منهن شيئا استخفافا بحقهن كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة، ومن لم يأت بهن فليس له عند الله عهد، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له)) رواه أحمد وغيره.
أما صلاة العصر فقد ورد في التهاون بها وعيد شديد في قوله : ((من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله)) رواه مسلم، وقوله صلوات الله وسلامه عليه: ((من ترك صلاة العصر حبط عمله)) رواه البخاري.
وقد دلت الآيات والنذر والبراهين القاطعة من كتاب الله وسنة رسوله أن تضييع الصلاة أو السهو عنها سبب من أسباب دخول النار، قال الله تعالى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا [مريم:59]، وقال سبحانه: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ [الماعون:4، 5]، وفي الحديث عند أحمد بسند جيد والطبراني وغيره أن رسول الله ذكر الصلاة يوما فقال: ((من حافظ عليها كانت له نورًا وبرهانًا ونجاة يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم يكن له نور ولا برهان ولا نجاة يوم القيامة، وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأبي بن خلف)). قال بعض العلماء: "إنما حشر مع هؤلاء لأنه إن اشتغل عن الصلاة بماله أشبه قارون فيحشر معه، وإن اشتغل بملكه أشبه فرعون فيحشر معه، أو بوزارته أشبه هامان فيحشر معه، أو بتجارته أشبه أبي بن خلف تاجر كفار قريش فيحشر معه".
ومما يدخل في المحافظة على الصلوات معرفة سجود السهو والإلمام به، والسهو في الصلاة يعني الغفلة، وحكمة سجود السهو إرغام الشيطان وإرضاء الرحمن. وهو مشروع لزيادة أو نقص أو شك، فمتى زاد المصلي فعلا من جنس الصلاة قيامًا أو قعودًا أو ركوعًا أو سجودًا عمدا بطلت صلاته، وإن فعله سهوا يسجد له. وإن زاد ركعة فلم يعلم حتى فرغ منها سجد، وإن علم فيها جلس في الحال، فتشهد إن لم يكن تشهد وسجد وسلم، وإن نسي ركنا غير تكبيرة الإحرام فذكره فله أن يرجع، سواء شرع في قراءة ركعة أم لم يشرع، وهذا هو الصحيح الموافق لقواعد الشريعة، ومن شك فلم يدر كم صلى فليبن على ما استيقن ثم يسجد للسهو، لحديث ابن مسعود قال: قال رسول الله : ((إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى ثلاثا أم أربعا، فليطرح الشك ولْيبن على ما استيقن، ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم، فإن كان صلى خمسا شفعت له صلاته، وإن كان صلى إتماما لأربع كانت ترغيما للشيطان)) رواه مسلم. ومن ترك واجبا وجب عليه سجود السهو، فإن تركه عامدا بطلت صلاته، ومن نسي التشهد الأول ونهض لزمه الرجوع والإتيان به ما لم يستتم قائما، فإن استتم قائما فلا يرجع؛ لحديث بحينة أن النبي قام في صلاة الظهر من الركعتين الأوليين ولم يجلس، فلما قضى صلاته سجد سجدتين قبل أن يسلم، ثم سلم. متفق عليه.
وسجود السهو إن كان عن زيادة في الصلاة فهو بعد السلام، وإن كان عن نقص فقبله، وإن سجد قبل السلام في كلتا الحالتين جاز.
ومنزلة الخشوع من الصلاة كمنزلة الرأس من الجسد، فالذي يجعل الصلاة مرتعًا للتفكير في أمور دنياه ومحلاً للهواجس في مشاغله قلبه في كل وادٍ، وهمه في كل مكان، يختلس الشيطان من صلاته بكثرة التفاته وعبثه بملابسه ويده ورجله وجوارحه، وربما أخلّ بطمأنينتها، ولم يع ما قرأ فيها، فيُخشى أن تُردَّ عليه صلاته، فقد ورد عند الطبراني وغيره أن صلاة من هذه حاله تُلفّ كما يُلفّ الثوب الخَلِق، ثم يُرمى بها وجه صاحبها، والعياذ بالله.
ألا فاتقوا الله رحمكم الله، واعرفوا نعمة الله عليكم في دينكم وعباداتكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به. فاتقوا الله عباد الله، وعظموا شعائر دينكم، واستحضروا فيها عظمة بارئكم جل وعلا، وفرغوا قلوبكم من الشواغل الدنيوية والعلائق المادية، وأقيموا صلاتكم بقلوب حضرة خاشعة.
واعلموا ـ يا رعاكم الله ـ أن أكبر ما يعين على ذلك حضور القلب فيها، واستشعار عظمة وجلال الخالق جل وعلا، وتفريغ القلوب من الصوارف عن الله والدار الآخرة، والتخفف من مشاغل الدنيا، وعمارة القلوب بالإيمان، وسد مداخل الشيطان على الإنسان.
أيها المصلون، لتعلموا أن للصلاة المقبولة شروطًا وأركانًا وواجبات وآدابًا، لا بد من الوفاء بها.
وصلوا على نبيكم وهاديكم إلى ربكم محمد بن عبد الله، فقد أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فقال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. اللهم ارض عن الخلفاء الراشدين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلى. اللهم ارض عنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، والكفر والكافرين، واجعل دائرة السوء عليهم يا رب العالمين...