خطبة الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي ليوم الجمعة الواقع 20 صفر/ 1427ه' الموافق 9/3/ 2007م
أما بعد فيا عباد الله، وصف الله سبحانه وتعالى في محكم تبيانه طرفاً من النعيم المقيم الذي أعدَّه للصالحين من عباده، ذلك النعيم الذي أجمله بيان الله سبحانه وتعالى بقوله: {وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ} [الزخرف: 43/71] هو النعيم المقيم الذي زاده رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ذكر بياناً وتفصيلاً إذ قال: ((فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر)). ثم إن الله عز وجل بعد أن وصف طرفاً من هذا النعيم الذي أعده كما قلت لكم للصالحين من عباده قال: {لِمِثْلِ هَذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ، أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ، إِنّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظّالِمِينَ، إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ، طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّياطِينِ، فَإِنَّهُمْ لآكِلُونَ مِنْها فَمالِئُونَ مِنْها الْبُطُونَ، ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ، ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإِلَى الْجَحِيمِ} [الصافات: 37/61-68].
والعجب يا عباد الله أن المؤمنين العقلاء يقرؤون بيان الله سبحانه وتعالى هذا، ويرون كيف أن الله سبحانه وتعالى يحذر عباده المؤمنين به، العقلاء المتأملين والمتدبرين يحذرهم من الركون إلى زهرة الحياة الدنيا التي قضى الله أن يمروا عليها مروراً عابراً، وألا يعيشوا معها حياة المخلدين، على الرغم من ذلك تجد كثيراً من هؤلاء الذين يعلنون بألسنتهم أنهم مؤمنون بالله وبما يقول، مستسلمون ومسلمون لله عز وجل، ومع ذلك فإنهم عن هذا المصير الخالد معرضون، وإلى هذا العارض المارّ الذي لا يبقى واقفون متعاملون، أما الجاحدون بالله فلا عجب من موقفهم، فإن جحودهم يقتضيهم ألا يقيموا وزناً لهذا الذي يقوله الله عز وجل، ولكن ما بال المؤمنين الذين يعلنون عن إيمانهم بأن هذا كلام الله سبحانه وتعالى، ويعلمون أن هذا البيان الإلهي إن هو إلا نصيحة غالية يهديها الله سبحانه وتعالى إليهم من خلال تبيانه، ومع ذلك تنظر إلى أكثر هؤلاء الناس فتجدهم يقبلون على الدنيا إقبال المخلد، يقبلون على وظائفهم التي يكتسبون الرزق منها إقبال المخلدين، يجعلون من وظائفهم داعماً لهم، دستوراً لحياتهم، يجعلون من شهواتهم وأهوائهم العابرة سلطاناً يهيمن على سلوكهم، ويهيمن على أفكارهم، أيضاً يجعلون من النعيم الذي لا عمر له، وآفة النعيم مهما تألق في الأبصار أو في النفوس آفته الزوال، والزوال غصة من المفروض أن تقصي هذا النعيم عن صاحبه، ومع ذلك تجدهم يعانقون شهواتهم العابرة، وأهواءهم المارة بهم، وهم عن نصيحة الخالق عز وجل القائلة: {لِمِثْلِ هَذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ} [الصافات: 37/61] معرضون، هذا الذي نراه يا عباد الله أمر لا يتفق مع المنطق، ولا يتفق مع إيمان المؤمنين، ولا يتفق مع المصلحة التي يبحث عنها بل يحج إليها أمثال هؤلاء الناس.
رأيت الكثير ممن يعانقون مصالحهم العاجلة الشخصية العابرة، يعانقون وظائفهم التي يكتسبون منها لقمة عيشهم، يعانقونها ولا معانقة العبد لأوامر الرب سبحانه وتعالى، حجبوا أنفسهم بأعمالهم هذه وبأحلامهم وأمانيهم ورغائبهم الشهوانية، حجبوا أنفسهم عن المصير الخالد، حجبوا أنفسهم عن نصيحة الله، حجبوا أنفسهم عن هذا النداء القائل: {لِمِثْلِ هَذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ} فإذا انطوى عهد الوظيفة، وإذا انتهى انتهت مرحلة الشباب، وتبعتها مرحلة الكهولة، وجاءت الشيخوخة بكل ما فيها من مظاهر الضعف، وبكل ما تحمله من النذر أنْ قد حانت الرحلة، نجد هذا الإنسان قد أصغى السمع حينئذ إلى كلام الله عز وجل، وبدأ يحاول أن يصلح الفاسد مما مضى من عمره، بدأ يحاول أن يقوِّم الاعوجاج الماضي في سلوكه، يقول: ذهبت في هذا العام حاجاً إلى بيت الله الحرام، سأعود تائباً إلى الله سبحانه وتعالى. أكثر هؤلاء الشاردين عن الله عز وجل والشاردين عن صراط الله عز وجل يقدمون عهود نشاطاتهم قرباناً لأهوائهم، يقربون قواهم العضلية والفكرية والجسمية، يقدمون ذلك كله قرباناً لأحلامهم العابرة المارة، أما كلام الله الذي يلاحقهم قائلاً: {لِمِثْلِ هَذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ} فهم معرضون عن هذا إعراضاً كلياً.
ظاهرة تبعث الحزن والأسى في النفس، بل إنها لظاهرة تملأ النفس خجلاً من الرب سبحانه وتعالى، ولا أدري كيف لا يخجل هؤلاء الناس من ربهم عز وجل، قدم شبابه - وهو هدية من الله له - لأحلامه ودنياه ومصالحه العابرة، قدم نشاطاته المختلفة كلها لدنياه وشهواته المارة والعابرة، قدم كل ما أنعم الله عز وجل عليه به من مقومات العمل والجهد والإقبال، قدم ذلك كله قرباناً لأهوائه ولشيطانه ولنفسه، حتى إذا تخلت عنه أنشطته، وتخلت عنه قواه، ولم يبق من الكَرْم إلا الحطب - كما يقولون - ولم يبق من كيانه إلا ذكريات شبابه الذي انقضى، وكهولته التي مرت، ولم يبق إلا أن يستعد للرحيل عندئذ يقبل على ربّه، ها أنا ذا عدت إليك، أليس في هذا ما يخجل؟
رأيت كثيراً من أصناف الناس فيهم الموظف، وفيهم الضابط، وفيهم العامل، وفيهم المسؤول كلهم تائهون عن الله، معرضون عن نداء الله عز وجل الذي يلاحقهم ناصحاً ثم إني لأنظر إليه وهو يقف أمام باب الموت، وهو يشم الموت الذي قد بدأ يقرب منه رويداً رويداً، أجده يتجمل حينئذ بالدين، يتجمل بالإقبال على الله عز وجل، لا بل أكثر من ذلك كان بالأمس قد امتلأ عقله شكوكاً وريباً، وامتلأ فكره نظريات آسنة باطلة ربما تذهب الإيمان، وتلحق بصاحبها الكفر، وإذا هو اليوم يمسك السبحة يستغفر الله سبحانه وتعالى عن حالته السابقة، يا هذا ما الذي كان يصدّك أن تقبل على الله عز وجل وأنت في أوج قوتك وشبابك؟ ما الذي يمنعك من أن تعبر عن شكرك لمولاك الذي خلقك فسواك فعدلك فملأ كيانك نشاطاً وعافية وقوة، وأغدق عليك من نعمه ورزقه؟ ما الذي كالن يمنعك آنذاك من أن تلهج بشكره، من أن تقبل على الله سبحانه وتعالى تستجيب نداءه، وما نداؤه إلا مجموعة نصائح لك؟ ما الذي كان يمنعك أن تتفاعل مع قوله عز وجل: {لِمِثْلِ هَذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ}؟ هذه العاقبة هذه النتيجة لمثل هذا وجه نشاطك، وجه وظيفتك، وجه قوتك، وجه مسؤولياتك التي حملتها لمثل هذا، ومع ذلك فلو أنك استجبت لنصيحة الله عز وجل لن يمنعك إقبالك على هذه النصيحة، واستجابتك لها، لم يمنعك من رغد عيشك، لن يمنعك من حياة آمنة مطمئنة متعك الله عز وجل بها، ولكن فرق بين من يجعل رغد عيشه الذي متعه الله عز وجل به سلماً يرقى به إلى مرضاة الله، وبين من يجعل رغد عيشه سكراً يحجبه عن الله سبحانه، تُرى كيف يقبل على الله عز وجل أحدنا وهو غريق شهواته، وهو يتقلب في بحار أهوائه، وهو يعانق مصالحه الدنيوية الآسنة العاجلة معرضاً عن نداء الله عز وجل المحذر {لِمِثْلِ هَذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ} حتى إذا نظر كيانه من مقومات حياته، وهانت رحلته من هذه الحياة الدنيا، ولم يبق له نصيب منها، ولم يبق له حظ فيها، بل لم تبق له رغبة أيضاً فيها، عندئذ يحين أن يقول: يا رب ها أنا قد عدت إليك. أنا أرى أن هذا لؤم، وما ينبغي للعبد أن يكون لئيماً، ما ينبغي أن أغرف عن الله عز وجل وأنا أتقلب في نعمه، حتى إذا رأيتني لا أملك من هذه النعم ومن هذه المزايا شيئاً ورأيتني قد شبعت من كل ما متعني الله عز وجل به عندئذ أقول: قد حان أن أقبل إليك يا رب. هكذا يكون الشأن مع الرب سبحانه وتعالى، ليت الإنسان يقبل على الله عز وجل ساعة إقباله على الحياة، ساعة إقبال الشباب، ساعة تعامله مع القوى التي متعه الله بها، ساعة تحمله المسؤوليات، ساعة تحمله للمهام التي حملها الله عز وجل إياها، ليته آنذاك يقبل إلى الله، ليته يتعامل مع قوله سبحانه وتعالى: {لِمِثْلِ هَذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ} إذن والله لن يخسر هؤلاء الناس شيئاً، بل سيعودون إلى ربح مباح، ربحِ الدنيا التي سيمتعهم الله عز وجل منها برغد عيش، وربح الآخرة التي وصف الله سبحانه وتعالى ما وصف من نعيمها، ذلك النعيم الذي قال: {وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ} [الزخرف: 43/71] ذلك النعيم الذي زاده رسول الله صلى الله عليه وسلم أي تفصيلاً وبياناً: ((فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر)). ذاك الذي قال الله عز وجل عنه: {لِمِثْلِ هَذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ} سيعود الإنسان عندئذ بهذين الربحين.
أسأل الله عز وجل ألا يجعلنا من عباده الذين اصطبغوا باللؤم، وأسأله عز وجل أن يكرمنا فيرزقنا الصحوة إلى الالتزام بأوامره، وإلى تبين رحلتنا التي أقامنا الله عز وجل عليها، وأن يكرمنا الله سبحانه وتعالى بهذه الحياة إلى أن يكرمنا بالرحلة إليه، أقول قولي هذا، وأستغفر الله