مسلم Admin
عدد المساهمات : 9693 نقاط : 17987 السٌّمعَة : 67 تاريخ التسجيل : 11/03/2010 العمر : 55
| موضوع: رد: كتاب التوحيد -باب من تبرك بحجر او شجر الإثنين مايو 10, 2010 1:59 pm | |
| بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهداه.
أما بعد:
فأنبه على مسألة ألا وهي أن الكلام في مسائل التوحيد تقريرا أو استدلالا وبيان وجه الاستدلال من الأمور الدقيقة، والتعبير عنها يحتاج إلى دقة من جهة المعبِّر، وأيضا من جهة المتلقي.
أقول هذا لأن بعض الأخوة استشكلوا بالأمس وقبله واليوم -أيضا- بعض العبارات، ومدار الاستشكال أنهم ما دققوا فيما قيل، إما أن يحذفوا قيدا، أو يحذفوا كلمة، أو يأخذ المعنى الذي دل عليه الكلام، ويعبر عنه بطريقته، وهذا غير مناسب؛ لهذا ينبغي أن يكون المتلقي لهذا العلم دقيقا فيما يسمع؛ لأن كل مسألة لها ضوابطها، ولها قيودها، وأيضا بعض المسائل يكون الكلام عليها تارة مجملا، وفي بعض ما سمعه المتلقي يكون سمع أحد الأحوال، وهي فيها تفصيل، ويكون الكلام عليها من حيث الإجمال غير الكلام عليها من حيث التفصيل.
س: هذا سائل يقول: فضيلة الشيخ مما يقع فيه كثير من الناس أنه إذا حصل له أمر، ونجا منه، فإنه يجب عليه أن يتصدق.
ج: الصدقة في مثل هذا ليس لها حكم الوجوب، والشكر لله -جل وعلا- على نعمه، إذا نجي العبد من بلاء، أو حصلت له مسرة يكون تارة بالسجود، وتارة بالصلاة، أو بالصدقة شكرا لله -جل وعلا- على نعمه، وهذا كله من المستحب، وليس من الواجب إلا إذا كان ثم نذر، نذر أنه إن نجي من كذا وكذا، فإنه سيتصدق، فهنا يكون ألزم نفسه بعبادة ألا وهي الصدقة إذا حصل له كذا وكذا؛ فتكون واجبة بالنذر.
أما أصل الصدقة فهو مستحب، وإذا كانت في مقابلة نعمة، أو اندفاع نقمة، فهي -أيضا- مستحبة، وليست بواجبة لا تجب إلا إذا نذر، وتحقق المشروط، تحقق الشرط. نعم.
س: وهذا يقول: فضيلة الشيخ إذا كان الذبح لا يجوز لدفع المرض فكيف نجمع بينه وبين الحديث: داووا مرضاكم بالصدقة ؟
ج: هذا أجبت عنه بالأمس.
س: وهذا يقول: عندنا عادة، وهي أنه من حصل بينه وبين شخص عداوة أو بغضاء بتعدٍ من أحدهما على الآخر، فيطلبون من أحدهما أن يذبح، ويسمون ذلك ذبح صلح، فيذبح ويحضرون من حصلت معه العداوة، فما حكم ذلك؟
ج: ذبح الصلح الذي تستعمله بعض القبائل في صورته المشتهرة المعروفة لا يجوز؛ لأنهم يجعلون الذبح أمام من يريدون إرضاءه، ويريقون الدم تعظيما له أو إجلالا لإرضائه، وهذا يكون محرما؛ لأنه لم يرق الدم لله -جل وعلا-، وإنما أراقه لأجل إرضاء فلان، وهذا الذبح محرم، والذبيحة -أيضا- لا يجوز أكلها؛ لأنها لم تهل، أو لم تذبح لله -جل وعلا-، وإنما ذبحت لغير الله، فإن كان الذبح الذي هذا صفته من جهة التقرب والتعظيم صار شركا أكبر، وإن لم يكن من جهة التقرب، والتعظيم صار محرما؛ لأنه لم يخلص من أن يكون لغير الله، فصار عندنا في مثل هذه الحالة، وكذلك في الذبح للسلطان، ونحوه في المسألة التي مرت علينا بالأمس أن يكون الذبح في مقدمه، وأن يراق الدم لقدومه وبحضرته، هذا قد يكون على جهة التقرب والتعظيم؛ فيكون الذبح حينئذ شركا أكبر بالله -جل وعلا-؛ لأنه ذبح وأراق الدم تعظيما للمخلوق، وتقربا إليه.
وإن لم يذبح تقربا ولا تعظيما، وإنما ذبح لغاية أخرى، مثل الإرضاء ولكنه شابه أهل الشرك فيما يذبحونه تقربا وتعظيما، فنقول: الذبيحة لا تجوز ولا تحل، والأكل منها حرام.
ويمكن للإخوة الذين يشيع عندهم في بلادهم، أو في قبائلهم مثل هذا المسمى ذبح الصلح، ونحوه أن يبدلوه بخير منه، وهو أن تكون وليمة للصلح، فيذبحون للضيافة يعني: يذبحون لا بحضرة من يريدون إرضاءه ويدعونهم ويكرمونهم، وهذا من الأمر المرغب فيه؛ فيكون الذبح كما يذبح المسلم عادة لضيافة أضيافه، ونحو ذلك.
س: وهذا يقول: هناك رجل في منطقتنا يأتي إليه الناس عند فقد أموالهم، فيعطيهم خيطا معقدا، ويقرأ عليه، ويطلب منهم أن يضعوه في المكان الذي فقده، فما حكم ذلك؟ وما حكم الصلاة خلفه؟
ج: هذا من الكهانة؛ لأن هذا الذي يعمل هذه الأشياء عراف، أو كاهن، وقد يكون ساحرا -أيضا-، فلا يجوز عمل مثل هذا العمل، ولا يحل لأحد أن يعين أحدا يدعي معرفة شيء من علم الغيب، والصلاة خلفه لا تجوز؛ لأن هذا إما أن يكون عرافا، أو كاهنا، أو ساحرا، وهؤلاء لا تجوز الصلاة خلفهم. نعم.
س: وهذا يقول: فضيلة الشيخ ما معنى قولهم: الشرك الأصغر أكبر من الكبائر، وكيف يكون كذلك، والشرك الأكبر يعتبر من الكبائر إذ هو أكبر الكبائر، فنرجو إزالة الإشكال؟
ج: هذا -أيضا- أوضحته بالأمس، وهو أن الكبائر قسمان: قسم منها راجع إلى جهة الاعتقاد، والعمل الذي يصحبه اعتقاد، وقسم منها راجع إلى جهة العمل الذي لا يصحبه اعتقاد، مثال الأول الذي يصحبه الاعتقاد أنواع الشرك بالله من الاستغاثة بغيره، ومن الذبح لغير الله، ومن النذر لغير الله، ونحو ذلك فهذه أعمال ظاهرة، ولكن هي كبائر يصحبها اعتقاد جعلها شركا أكبر، فهي في ظاهرها صرف عبادة لغير الله -جل وعلا-، وقام بقلب صاحبها الشرك بالله بتعظيم هذا المخلوق، وجعله يستحق هذا النوع من العبادة، إما على جهة الاستقلال، أو لأجل أن يتوسط.
والقسم الثاني: الكبائر العملية التي تُعْمَل لا على وجه اعتقاد مثل: الزنا، وشرب الخمر، والسرقة، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، ونحو ذلك من الكبائر والموبقات، فهذه تعمل دون اعتقاد، وبهذا صارت الكبائر على قسمين، نقول: الشرك الأصغر، ومن باب أولى الشرك الأكبر هذا جنسه أكبر من الكبائر يعني: العملية، فأنواع الشرك الأصغر، ولو كان لفظيا مثل: قول ما شاء الله وشئت، ومثل الحلف بغير الله، أو نسبة النعم إلى غير الله، أو نسبة اندفاع النقم لغير الله -جل وعلا-، أو تعليق التمائم، ونحو ذلك، هذه من حيث الجنس أعظم من الكبائر، ومن حيث الجنس أعظم من كبائر العمل التي لا يصاحبه اعتقاد؛ وذاك لأن الأعمال تلك كالزنا، والسرقة، ونحوها من الكبائر العملية، هذه ليس فيها سوء ظن بالله -جل وعلا-، وليس فيها صرف عبادة لغير الله، أو نسبة شيء لغير الله جل، وإنما هي من جهة الشهوات، والأخرى هي من جهة الاعتقاد بغير الله، وجعل غير الله -جل وعلا- ندا لله -سبحانه وتعالى-، وأعظم الذنب أن يجعل المرء لله ندا، وهو خلقه -جل وعلا-.
س: وهذا يقول: فضيلة الشيخ لماذا لم يبين الرسول -صلى الله عليه وسلم- الشرك للصحابة قبل أن يقعوا فيه في حديث ذات أنواط ؟
ج: من المعلوم أن الشريعة جاءت بالإثبات المفصل، والنفي المجمل، والنفي إذا كان مجملا، فإنه يندرج تحته صور كثيرة، يدخلها من فهم النفي في الدلالة، فلا يحتاج مع النفي أن ينبه على كل فرد فرد؛ ولهذا نقول: من فهم لا إله إلا الله لم يحتج إلى أن يفصل له كل مسألة من المسائل.
فمثلا: النذر لغير الله ليس فيه الحديث النذر لغير الله شرك، والذبح لغير الله ليس فيه حديث الذبح لغير الله شرك، ونحو ذلك من الألفاظ الصريحة، وهكذا في العكوف عند القبور، أو العكوف والتبرك عند الأشجار والأحجار لم يأت فيها شيء صريح، ولكن نفي إلهية غير الله -جل وعلا- يدخل فيها عند من فهم معنى العبادة كل الصور الشركية؛ ولهذا الصحابة -رضي الله عنهم- فهموا ما دخل تحت هذا النفي، ولم يطلب ذات أنواط كما للمشركين ذات أنواط إلا من كان حديث عهد بكفر يعني: لم يسلم إلا قريبا، وهم قلة ممن كانوا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في مسيره إلى حنين.
والإثبات يكون مفصلا، وتفصيل الإثبات تارة يكون بالتنصيص، وتارة يكون بالدلالة العامة من وجوب إفراد الله -جل وعلا- بالعبادة -مثلا-: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ونحو ذلك من الآيات، والأدلة الخاصة بالعبادة كقوله: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا وكقوله: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ وكقوله: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ فهذه أدلة إثبات تثبت أن تلك المسائل من العبادات، وإذا كانت من العبادات فقول: لا إله إلا الله يقتضي بالمطابقة أنه لا تصرف العبادة إلا لله -جل وعلا-.
إذن فيكون ما طلبه أولئك من القول الذي لم يعملوا راجع إلى عدم فهمهم أن تلك الصورة داخلة فيما نفي لهم مجملا بقول: لا إله إلا الله.
س: وهذا يقول: فضيلة الشيخ، ما حكم التبرك بالصالحين، وبماء زمزم، والتعلق بأستار الكعبة؟
ج: التبرك بالصالحين قسمان: تبرك بذواتهم بعرقهم بسؤرهم يعني: بقية الشراب بلعابهم الذي اختلط بالنوى -مثلا-، أو ببعض الطعام، أو التبرك بشعرهم، أو نحو ذلك، فهذا لا يجوز، وهو من البدع المحدثة، وقد ذكرت لكم أن الصحابة -رضوان الله عليهم- لم يكونوا يعملون مع أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وهم سادة أولياء هذه الأمة شيئا من ذلك، وإنما فعله الخلوف الذين يفعلون ما لا يؤمرون، ويتركون ما أمروا به.
القسم الثاني: بركة عمل، وهي الاقتداء بالصالحين في صلاحهم، والاستفادة من أهل العلم، والتأثر بأهل الصلاح، وهذا أمر مطلوب، والتبرك بالصالحين بهذا المعنى مطلوب شرعا، أما التبرك بالذات -كما كان يفعل مع النبي صلى الله عليه وسلم- فهذا ليس لأحد إلا للنبي -عليه الصلاة والسلام-، أما التبرك بماء زمزم، فإن شرب ماء زمزم بما جاء به الدليل، ولما جاء به الدليل لا بأس به، والنبي -عليه الصلاة والسلام- قال في ماء زمزم: إنها طعام طعم، وشفاء سقم فمن شربها طعاما، أو شفاء سقم شرب بما دل عليه الدليل، كذلك شربها لغرض من الأغراض التي يريد أن يحققها لنفسه فهذا -أيضا- جائز؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ماء زمزم لما شرب له .
فإذن أن يجعل ماء زمزم لأشياء يريدها، فهذا راجع إلى أنه سبب أذن به شرعا، ولو شرب ماء آخر -مثلا- ماء صحة، وأراد بشرب هذا الماء أن يحفظ القرآن، فيكون هذا اعتقادا خاطئا؛ لأن ما جاء فيه الدليل هو الذي يجعل ذلك السبب مؤثرا أو جائزا ليعتقد أنه مؤثر.
أما التعلق بأستار الكعبة رجاء البركة، فهذا من وسائل الشرك، ومن الشرك الأصغر -كما ذكرت لكم بالأمس- إذا اعتقد أن ذلك التبرك سبب، أما إذا اعتقد أن الكعبة ترفع أمره إلى الله، أو أنه إذا فعل ذلك عظم قدره عند الله، وأن الكعبة يكون لها شفاعة عند الله، أو نحو تلك الاعتقادات التي فيها اتخاذ الوسائل إلى الله -جل وعلا- فهذا يكون التبرك على ذاك النحو شرك أكبر؛ ولهذا يقول كثير من أهل العلم: إن أنواع هذا التبرك بحيطان المسجد الحرام، وبالكعبة، أو نحو ذلك، أو بمقام إبراهيم، التمسح بذلك رجاء البركة من وسائل الشرك، بل هو من الشرك، من وسائل الشرك الأكبر، بل هو من الشرك الأصغر كما قرر ذلك الإمام الشيخ محمد بن إبراهيم -رحمه الله-.
س: وهذا يقول: فضيلة الشيخ يوجد بعض الساعات مكتوب عليها لفظ الجلالة، فهل يجوز الدخول بها إلى الخلاء؟ وجزاكم الله خيرا.
ج: العلماء يقولون: ويكره دخوله الخلاء بشيء فيه ذكر الله، في آداب دخول الخلاء بالفقه، فاصطحاب شيء مما فيه ذكر الله إلى الخلاء مكروه. نكتفي.
نواصل الحديث على باب ما جاء بالذبح لغير الله، قال الإمام -رحمه الله تعالى-: "وقول الله -تعالى-: قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ هذه الآية فيها أن عبادة الصلاة، وعبادة النسك، وهو الذبح لله -جل وعلا-" وقال هنا: "قل إن" وإن من المؤكدات، ومجيء التأكيد في الجمل الخيرية معناه أن من خوطب بذلك منكر لهذا الأمر، أو منزل منزلة المنكر له؛ ولهذا يكون الاستدلال بهذه الآية على أنه خوطب بها من ينكر أن الصلاة لله وحده استحقاقا، وأن الذبح لله وحده استحقاقا، وهم المشركون، فدل على أن هذه الآية في التوحيد يعني: في توحيد الذبح لأجل الله -جل وعلا-، وأن الذبح لغيره مخالف لما يستحقه الرب -جل وعلا-.
قال هنا: قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي والنسك هو الذبح، أو النحر يعني: التقرب بالدم، والتقرب بالدم لله -جل وعلا- عبادة عظيمة؛ لأن الذبائح أو المنحورات، الإبل، البقر، الغنم من الضأن، والماعز هذه مما تعظم في نفوس أهلها، ونحرها تقربا إلى الله -جل وعلا-، والصدقة بها عبادة عظيمة فيها إراقة الدم لله، وفيها تعلق القلب بحسن الثواب من الله -جل وعلا-، وفيها حسن الظن بالله -تبارك وتعالى-، وفيها التخلص من الشح، والرغب فيما عند الله -سبحانه- بإزهاق نفس ما هو عزيز عند أهله، وبهذا كان النحر والذبح عبادة من العبادات العظيمة التي يحبها الله -جل وعلا-.
وهذه الآية دلت على أن النحر والصلاة عبادتان؛ لأنه جعل النسيكة لله، والله -جل وعلا- له من أعمال خلقه العبادات؛ فلهذا صار وجه الدلالة أن قوله: "ونسكي" فيه دلالة على أن النسك عبادة من العبادات، وأنه مستحق لله -جل علا-.
قوله: لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ اللام هنا المتعلقة بقوله: قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي لام الاستحقاق؛ لأن اللام في اللغة، وفي ما جاء من الاستعمال في القرآن الكريم تأتي لام الملك: أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يعني: يملكونها، أو تكون لام الاختصاص، وهو شبه الملك، أو تكون لام الاستحقاق مثل: الحمد لله، يعني: جميع أنواع المحامد مستحقة لله، كذلك اللام هنا قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي لله يعني: مستحقة لله -جل وعلا-، قال سبحانه: وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ وهنا وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ تكون اللام هذه مع أنها واحدة، لكن يكون معناها على الأول رجوعها للأول غير معناها برجوعها للمحيا والممات، فإن الله -جل وعلا- قال في هذه الآية من آخر سورة الأنعام: قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ والمحيا والممات يعني: الإحياء والإماتة، وهذه بيد الله -جل وعلا-، ولله ملكا فهو الذي يملكها -سبحانه وتعالى-؛ لأنها من أفراد ربوبيته -جل وعلا- على خلقه.
فهذه الآية بما اشتملت عليه من هذه الألفاظ الأربع دلت على توحيد الإلهية، وعلي توحيد الربوبية قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي هذا توحيد العبادة، وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي هذا توحيد الربوبية، "لله" اللام إذا أرجعتها للأوليين الصلاة والنسك صار معناها الاستحقاق، وإذا أرجعتها للأخير صار معناها الملك؛ ولهذا يقول أهل التفسير هنا: قل إن صلاتي ونسكي لله استحقاقا، ومحياي ومماتي لله ملكا وتدبيرا وتصرفا.
قال: لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ وهذا وجه استدلاله الثالث، حيث قال: لَا شَرِيكَ لَهُ يعني: فيما مر، لا شريك له في الصلاة والنسك، فلا يتوجه بالصلاة والنسك إلى أحد مع الله -جل وعلا-، أو من دونه، وكذلك لا شريك له في ملكه في المحيا والممات، بل هو المتفرد -سبحانه- بأنواع الجلال وأنواع الكمال، وهو المستحق للعبادة، وهو ذو الملكوت الأعظم.
قال: وقوله: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ قال جل وعلا: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ قال:
فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ فأمر بالصلاة، وأمر بالنحر، وإذا أمر به فهو داخل في حد العبادة؛ لأن العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال، والأعمال الظاهرة، والباطنة، والصلاة أمر بها الله -جل وعلا-، وهي محبوبة لديه إذن، والنحر أمر الله -جل وعلا- به، وهو محبوب ومرضي له؛ إذن فيكون النحر عبادة لله -جل وعلا-.
وفي التعريف الآخر أن العبادة هي كل ما يتقرب به العبد إلى الله -جل وعلا- ممتثلا به الأمر والنهي صادق على هذا؛ لأن النحر يعمل تقربا إلى الله -جل وعلا- بامتثال الأمر والنهي.
قال سبحانه: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ والكوثر هو الخير العظيم الذي منه النهر الذي في الجنة، فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ الفاء هذه سببية يعني: بسبب ذلك اشكر الله -جل وعلا- بتوحيده بأن صل لربك الذي أعطاك ذلك الخير الكثير، وتقرب إليه بالنحر، وبنسك النسائك له سبحانه؛ لأن الخير إنما أسداه -جل وعلا- وحده.
إذن وجه الدلالة من هذه الآية على الباب أن النحر عبادة، وقد قال -جل وعلا-: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ يعني: وانحر لربك، فصار النحر لغير الله، والذبح لغير الله خارجا عما أمر الله به، فهو -إذن- صرف للعبادة لغير الله -جل وعلا-.
قال -رحمه الله-: وعن علي -رضي الله عنه- قال: حدثني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأربع كلمات: لعن الله من ذبح لغير الله، لعن الله من لعن والديه، لعن الله من آوى محدثا، لعن الله من غير منار الأرض رواه مسلم، الشاهد من هذا قوله: لعن الله من ذبح لغير الله وهذا وعيد يدل على أن الذابح لغير الله ملعون، واللعن هو الطرد والإبعاد من رحمة الله -جل وعلا-، فإذا كان الله هو الذي لعن؛ فيكون قد طرد وأبعد من رحمة الله الخاصة، يكون -جل وعلا- قد طرد وأبعد هذا الملعون من رحمته -جل وعلا- الخاصة.
أما الرحمة العامة فهي تشمل المسلم والكافر، وجميع أصناف الخلق، وإن كان دعاؤنا باللعن عليه لعن الله من ذبح لغير الله كأن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال داعيا على من ذبح لغير الله -جل وعلا- باللعن، وهو الطرد والإبعاد من رحمة الله -جل وعلا-، هذا يدل على أن الذبح لغير الله من الكبائر، ومن المعلوم أن اقتران ذنب من الذنوب باللعن يدل على أنه من الكبائر -من كبائر الذنوب-، وهذا ظاهر من جهة أن الذبح لغير الله شرك بالله -جل وعلا- يستحق صاحبه اللعنة والطرد والإبعاد من رحمة الله -جل وعلا-.
وقوله: لعن الله من ذبح لغير الله اللام هذه يعني: من أجل غير الله تقربا إليه وتعظيما، فذبح لغير الله تقربا إلى ذلك الغير، وتعظيما لذلك الغير، وهذا وجه مناسبة هذا الحديث لباب: "ما جاء في الذبح لغير الله" يعني: من الوعيد، وأنه شرك، ومن الوعيد أن صاحبه ملعون.
الحديث الآخر، قال:عن طارق بن شهاب أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: دخل الجنة رجل في ذباب، ودخل النار رجل في ذباب. قالوا: وكيف ذلك يا رسول الله؟ قال: مر رجلان على قوم لهم صنم، لا يجوزه أحد حتى يقرب له شيئا، فقالوا لأحدهما: قَرِّبْ. قال: ليس عندي شيء أقرب. قالوا له: قرب ولو ذبابا. فقرب ذبابا؛ فخلوا سبيله، فدخل النار، وقالوا للآخر: قرب. قال: ما كنت لأقرب لأحد شيئا دون الله -عز وجل-؛ فضربوا عنقه؛ فدخل الجنة رواه مسلم.
وجه الدلالة من هذا الحديث أن التقريب للصنم بالذبح كان سببا لدخول النار، وذلك من حيث ظاهر المعنى أن من فعله كان مسلما، فدخل النار بسبب ما فعل، وهذا يدل على أن الذبح لغير الله شرك بالله -جل وعلا-، شرك أكبر؛ لأن ظاهر قوله: دخل النار يعني: استوجبها مع من يخلد فيها.
ووجه الدلالة -أيضا- أن تقريب هذا الذي لا قيمة له -وهو الذباب- يدل على أن من قرَّب ما هو أبلغ وأعظم منفعة، وأعظم عند أهله، وأغلى أنه سبب أعظم لدخول النار، وقوله هنا: "قرب" يعني: اذبح تقربا، والحق هنا أنهم لم يكرهوهم بالفعل، فالحديث لم يدل على أنهم أكرهوا؛ لأنه قال: مر رجلان على قوم لهم صنم، لا يجوزه أحد حتى يقرب له شيئا فظاهر قوله: لا يجوزه أحد يعني: أنهم لا يأذنون لأحد بمجاوزته عن ذلك الطريق حتى يقرب، وهذا ليس إكراها، إذ يمكن أن يقول: سأرجع من حيث أتيت، ولا يجوز ذلك الموضع، ويتخلص من ذلك.
وهذا يدل على أن الإكراه بالفعل لم يحصل من أولئك، فلا يدخل هذا في قوله: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا ؛ لأنه ليس في الحديث دلالة -كما هو ظاهر- على حصول الإكراه، وإنما قال: مر رجلان على قوم لهم صنم، لا يجوزه أحد حتى يقرب له شيئا لا يجوزه أحد دل هنا على عدم السماح، وعدم المجاوزة، هل هو أنه لا يجوزه حتى يقتل، أو يقرب، أو لا يجوزه حتى يقرب، أو يرجع ؟
بعض العلماء استظهر من قوله في آخر الحديث، من قتلهم لأحد الرجلين أنه لا يجوزه حتى يقتل، وأن هذا علم بالسياق، فصار ذلك نوع إكراه؛ لهذا استشكلوا كون هذا الحديث دالا على أن من فعل هذا الفعل يدخل النار مع أنه مكره.
والجواب عن هذا الإشكال: أن هذا الحديث على هذا القول، وهو أنه حصل منهم الإكراه بالقتل، أن هذا الحديث فيمن كان قبلنا، ورفع الإكراه، أو جواز قول كلمة الكفر، أو عمل الكفر مع اطمئنان القلب بالإيمان، هذا خاص بهذه الأمة، هذا أجاب به بعض أهل العلم.
والثاني -وهو ما قدمت-: أن السياق ليس بمتعين على أنهم هددوه بالقتل، وإذا كان غير متعين أنهم هددوه بالقتل، فإنه لا يحمل على شيء مجمل لم يعين، ودلالة قوله هنا: فضربوا عنقه يعني: فيمن لم يقرب فدخل الجنة، ربما لأنه أهان صنمهم بقوله: ما كنت لأقرب لأحد شيئا دون الله -عز وجل- ؛ لهذا استشكل هذا الحديث طائفة من أهل العلم، وهو -بحمد الله- ليس فيه إشكال، وهو ما أن يحمل على أنه كان فيمن كان قبلنا، فلا وجه -إذن- لدخول الإكراه، أو يحمل على أنهم لم يكرهوه حين أراد المجاوزة، ولكن قتلوه لأجل قوله: لم أكن لأقرب لأحد شيئا دون الله -عز وجل- .
إذن هذا الباب -وهو قوله: باب: "ما جاء في الذبح لغير الله"- ظاهر في الدلالة على أن التقرب لغير الله -جل وعلا- بالذبح أنه شرك بالله -جل وعلا- في العبادة، فمن ذبح لغير الله تقربا وتعظيما، فهو مشرك الشرك الأكبر المخرج من الملة. نعم. | |
|