[1] رمضانُ والإخلاص:
روى البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (قال الله - عز وجل -: كل عمل ابنِ آدم له إلا الصيام؛ فإنه لي، وأنا أجزي به)، وفي رواية: (يترك طعامَه وشرابَه وشهوتَه من أجلي.الصيام لي وأنا أجزي به)، ورواه مسلم عن أبي هريرة بلفظ: (كل عمل ابن آدم يُضاعَف: الحسنة بعشر أمثالِها إلى سبعمائة ضعف. قال الله - تعالى -: إلا الصوم فإنه لي، وأنا أجزي به؛ يدع شهوتَه وطعامَه من أجلي). [1]
وقال العلامة ابن قدامة: "إنّ في الصوم خصيصةً ليست في غيرِهِ؛ وهي إضافتُهُ إلى الله - عز وجل -، حيث يقول - سبحانه -: (الصومُ لي وأنا أجزي به)؛ وكفى بهذه الإضافة شرفاً! كما شرّف البيتَ العتيقَ بإضافتِهِ إليه في قولِه: (وطهِّرْ بيتي)؛[2] وإنما فُضِّل الصومُ لمعنيَيْن: أحدُهما: أنه سِرٌّ وعملٌ باطِنٌ لا يراه الخلقُ ولا يدخله رياءٌ! الثاني: أنه قهرٌ لعدوِّ الله". [3]
فما أحوجَنا في شهر رمضان إلى استحضارِ أنَّ الإخلاصَ أساسُ أعمالِنا وسبيلُ نجاحِنا في الدنيا والفلاحِ في الآخرة؛ فلا تُقبَل الأعمالُ، ولا تُصلَح الأحوالُ؛ إلا بالإخلاصِ للهِ ربِّ العالمين.
[2] الإخلاص توحيدٌ للهِ - عز وجل -:
إنَّ الإخلاصَ كلمةُ التوحيد التي تتفرَّعُ منها فروعُ الخيرِ كلُّها، كما قال الله - عز وجل -: (ألم ترَ كيف ضربَ اللهُ مثلاً كلمةً طيِّبةً كشجرةٍ طيِّبةٍ أصلُها ثابتٌ وفرعُها في السماء تُُُُُُُُُؤتي أُكلَها كلَّ حِينٍ بإذن ربِّها). [4] قال القرطبي: "قال ابن عباس: الكلمة الطيبة: لا إله إلا الله، والشجرة الطيبة: المؤمن... فيجوز أن يكون المعنى: أصلُ الكلمة في قلبِ المؤمن وهو الإيمانُ شبَّهَهُ بالنخلةِ في المَنبَت، وشبَّهَ ارتفاعَ عَملِه في السماء بارتفاعِ فُروعِ النخلةِ، وثوابَ الله له بالثمر". [5]
ولعل الدلالة اللغوية للإخلاص تتفقُ مع المعاني الاصطلاحية التي ذكرها العلماءُ عليهم رحمة الله في تعريف الإخلاص؛ إذْ إنَّ لفظَ (الإخلاص) يدور في اللغةِ على (التنقية) و(التهذيب)، كما قال ابنُ فارس: "الخاءُ واللامُ والصادُ أصلٌ واحدٌ مُطَّرِدٌ، وهو تنقيةُ الشيءِ وتهذيبُه". [6] وفي الاصطلاحِ تدورُ غالِبُ عِباراتِ العلماءِ كذلك مع اختلافِ الألفاظِ على أنَّ الإخلاصَ توحيدُ اللهِ - تعالى -، وتنقيةُ القلبِ مِن حُظوظ النفسِ، والعملِ من مُلاحظةِ الناس. فقد جمعَ تعريفُ الإخلاصِ أساساً عَقَدِيّاً ونَفسيّاً واجتِماعيّاً.
فأما كونُ الإخلاصِ توحيداً لله - تعالى -: فقد قال القشيري - رحمه الله -: "الإخلاصُ إفرادُ الحقِّ - سبحانه - في الطاعة بالقصد، وهو أن يريد بطاعتِه التقرُّبَ إلى الله - سبحانه - دون شيءٍ آخر: من تصنُّعٍ لمخلوقٍ، أو اكتساب صفةٍ حميدةٍ عند الناس، أو محبة مدحٍ من الخلق، أو معنى من المعاني سوى التقرُّب إلى الله - تعالى -... وقال أبو عثمان الحِيري: الإخلاصُ نسيانُ رُؤيةِ الخَلْقِ بدوامِ النَّظرِ إلى الخالِق، وقيل: الإخلاصُ ما أُريد به الحقُّ - سبحانه - وقُصِد به الصِّدقُ". [7] فهذا ما يتعلقُ بالتوحيد.
[3] تصفية القلب والعمل:
وأما تصفيةُ القلبِ مِن حُظوظ النفسِ، فالمرادُ منه أن لا يكونَ للنفسِ نصيبٌ في الأعمال؛ بحيث يتخلَّصُ مِن كلِّ شائبةٍ، كما قال "أبو عثمان النهدي: الإخلاصُ ما لا يكون للنفسِ فيه حَظٌّ بحالٍ، وهذا إخلاصُ العوام، وأما إخلاصُ الخواص فهو ما يجري عليهم لا بهم؛ فتبدو منهم الطاعاتُ وهم عنها بمعزل ولا يقع لهم عليها رؤيةٌ ولا بها اعتدادٌ، فذلك إخلاصُ الخواص. وقال أبو بكر الدقاق: نقصانُ كل مُخْلِصٍ في إخلاصِه رؤيةُ إخلاصِه؛ فإذا أراد الله - تعالى -أن يخلص إخلاصه سقط عن إخلاصِه رؤيتُه لإخلاصِه؛ فيكون مُخلَصاً لا مُخلِصاً... وقال ذو النون المصري: ثلاثٌ من علامات الإخلاص: استواءُ المدحِ والذم، ونسيانُ رؤية الأعمال في الأعمال، ونسيانُ اقتضاءِ ثوابِ العملِ في الآخرة، قال سهل بن عبد الله: لا يعرف الرياءَ إلا مُخلِصٌ... وقال حذيفة المرعشي: الإخلاصُ أن تستويَ أفعالُ العبد في الظاهر والباطن... وقيل: الإغماضُ عن رؤيةِ الأعمال... وقال الجنيد: الإخلاصُ سرٌّ بين اللهِ والعبدِ، ولا يعلمه ملَكٌ فيكتبه، ولا شيطانٌ فيُفسده، ولا هوى فيُميله. وقال رويم: الإخلاصُ من العمل هو الذي لا يريد صاحبه عليه عِوَضاً في الدارين ولا حظّاً من الملَكين. وقيل لسهل بن عبد الله: أيُّ شيءٍ أشدُّ على النفس؟ فقال: الإخلاص؛ لأنه ليس لها فيه نصيب". [8] وهذا ظاهرٌ في التخلُّص من حظوظِ النفسِ.
وأما تنقيةُ العملِ من مُلاحظةِ الناس: فالمرادُ به أن لا يكون الغرضُ إرضاءَ الناسِ وكسبَ مدحِهم وإعجابِهم، كما قال القشيري: "يصحُّ أن يُقال: الإخلاصُ تصفيةُ الفعلِ عن مُلاحظةِ المَخلوقين... سمعتُ الأستاذ أبا علي الدقاق يقول: الإخلاصُ التَّوقِّي عن مُلاحظةِ الخلقِ، والصِّدقُ التَّوقِّي عن مُلاحظةِ النفس؛ فالمخلصُ: لا رياءَ له، والصادقُ: لا إعجابَ له... وقال ذو النون المصري: الإخلاصُ ما حُفِظَ مِن العدوِّ أن يُفسِدَه، يقول السَّرِي السقطي: مَن تزيَّنَ للناسِ بما ليس فيه؛ سقطَ من عَينِ الله - تعالى -... وسئل بعضُهم عن الإخلاص فقال: أن لا تُشهِدَ على عملِك غيرَ الله - عز وجل -". [9] وهذا القسمُ الثالثُ هو المعنى المشهورُ المُتبادرُ من معاني الإخلاص.
[4] التعريف المختار للإخلاص:
ولكنْ لا يخفى أنه لا يمكن الفصلُ بين الأُسُسِ الاصطلاحية الثلاثة التي يقوم عليها الإخلاصُ؛ باعتبارِه توحيداً للهِ - تعالى -، وتنقيةً للقلبِ مِن حُظوظ النفسِ، والعملِ من مُلاحظةِ الناس؛ إذ لا يمكنُ فصلُ البُعدِ الاعتقادي في دينِنا عن البُعْدِ النفسِي والاجتماعِي إلا مِن الناحية النظرية.
ومِن هنا نرى أنَّ بعضَ العلماء قد جمعَ في تعريفِه للإخلاصِ بين مُراعاةِ هذه الأُسُسِ؛ فأحسنَ أيَّما إحسان، وتلقَّى العلماءُ تعريفَه بالقَبول والاستحسان، وهو قولُ الفضيل بن عياض - رحمه الله -: "تركُ العملِ من أجلِ الناسِ رِياءٌ، والعملُ مِن أجلِ الناسِ شِرْكٌ، والإخلاصُ أن يُعافيَك اللهُ منهما". [10] فأشار بذكر الرِّياء إلى تنقيةِ النفس، وبالشِّرك إلى تنقية التوحيد، وبأداءِ العمل وتركِه من أجل الناس إلى تنقيةِ العمل. فما أجمعَ هذا التعريفَ وأروعَه!
[5] الإخلاص مدرسةٌ تربوية:
لعلَّ استحضارَ الأُسُسِ التي يقوم عليها الإخلاصُ يفتح لنا باباً واسِعاً مِن إدراكِ مَعاني الإخلاص إدراكاً صحيحاً؛ فإنَّ (الإخلاصَ) للهِ ربِّ العالمين مدرسةٌ تربويةٌ شامِلة، ومَوسوعةٌ أخلاقيةٌ مُتكامِلة؛ تتضمَّنُ طائفةً مِن شُعب الإيمانِ وجملةً من الخِصال الكريمة والآداب العظيمة.
فـ(الإخلاص) هو المعيارُ الصحيحُ الذي تُوزَن به القِيَمُ وتُقاسُ به الأعمالُ، كما قال صاحبُ الظلال؛ مُبَيِّناً أثرَ غيابِ الإخلاصِ في حُصولِ الفسادِ واختلالِ المَوازين في تفسير قولِ الله - تعالى -: (ألا إنهم هم المفسِدُون ولكنْ لا يشعرون)[11]: "الذين يُفسِدون أشنعَ الفساد، ويقولون: إنهم مُصلِحون كثيرون جدّاً في كل زمانٍ؛ يقولونها لأن الموازين مُختلةٌ في أيديهم. ومتى اختلَّ ميزانُ الإخلاص والتجرد في النفس اختلت سائرُ الموازين والقيم؛ والذين لا يُخلصون سريرتَهم لله يتعذرُ أن يشعروا بفسادِ أعمالِهم؛ لأن ميزانَ الخيرِ والشرِّ والصلاحِ والفسادِ في نفوسِهم يتأرجحُ مع الأهواء الذاتية ولا يثُوب إلى قاعدةٍ ربّانية". [12]
[6] الإخلاصُ منهجٌ للحياة:
لا ريبَ أنَّ الإخلاصَ يُنمِّي الإيمانَ ويُنقِّي العقيدةَ ويُزكِّي الوِجدان، ويُهذِّب الملكاتِ الفكرية والنفسية والعلاقات الاجتماعية. وهذا مِن معاني قولِ الله - عز وجل -: (قُلْ إنَّ صلاتِي ونُسُكي ومَحياي ومماتي لله ربَِّ العالمين لا شريك له). [13] "إنه التجرُّدُ الكاملُ لله، بكلِّ خالجةٍ في القلب وبكلِّ حركةٍ في الحياة: بالصلاة والاعتكاف، وبالمحيا والممات، بالشعائر التعبدية، وبالحياة الواقعية، وبالممات وما وراءه؛ إنها تسبيحةُ (التوحيد) المطلق والعبودية الكاملة، تجمع الصلاةَ والاعتكافَ والمحيا والممات، وتُخلِصها لله (ربِّ العالمين) القوَّام المهيمن المتصرِّف المربِّي الموجِّه الحاكم للعالمين.. في (إسلامٍ) كاملٍ لا يستبقي في النفسِ ولا في الحياةِ بقيَّةً لا يُعبِّدُها لله، ولا يحتجز دونه شيئاً في الضميرِ ولا في الواقع". [14]
فليس الإخلاصُ فرعاً من الفُروع، يتفقَّدُه المسلم في صلاتِه هل خَلُصَتْ من الرياء أم لا؟ بل هو أحدُ الأصلَيْن العظيمَيْن اللَّذَيْن قام عليهما صَرْحُ هذا الدِّين، كما قال أهلُ العلم: "لا يكون العبدُ متحقِّقاً بـ(إياك نعبد) إلا بأصلَيْن عظيمين: أحدهما: متابعة النبي والثاني: الإخلاصُ للمعبود"؛[15] ذلك أنَّ المُخلِصين "أعمالُهم كلُّها لله، وأقوالُهم لله، وعطاؤهم لله، ومنعُهم لله، وحبُّهم لله، وبُغضُهم لله؛ فمعاملتُهم ظاهراً وباطناً لوجهِ الله وحدَه لا يريدون بذلك من الناسِ جزاءً ولا شكوراً، ولا ابتغاءَ الجاهِ عندَهم، ولا طلبَ المحمدةِ والمنزلة في قلوبِهم، ولا هرباً من ذمِّهم. بل قد عَدُّوا الناسَ بمنزلةِ أصحابِ القبورِ؛ لا يملكون لهم ضرّاً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياةً ولا نُشوراً. فالعملُ لأجلِ الناسِ وابتغاء الجاهِ والمنزلة عندهم ورجائهم للضرِّ والنفعِ منهم لا يكون من عارِفٍ بهم البتة؛ بل من جاهلٍ بشأنِهم وجاهلٍ بربِّه؛ فمن عرفَ الناسَ أنزلَهم مَنازلَهم، ومن عَرفَ اللهَ أخلصَ له أعمالَه وأقوالَه وعطاءَه ومنعَه وحُبَّه وبُغضَه". [16]
[7] الإخلاصُ مَوسُوعةٌ أخلاقيةٌ:
لما كان (الإخلاص) مَوسُوعةً أخلاقيةً؛ فإنَّ الصدقَ والوفاءَ والبِرَّ والأمانةَ تنبع كلُّها من الإخلاصِ. بل إنَّ سائرَ مكارمِ الأخلاق تتصل بالإخلاص اتصالاً وثيقاً، وترتبط به ارتباطاً عميقاً. وقد ظهر ذلك في حديث هرقل وهو يسأل أبا سفيان بعد الحديبية عن النبي؛ ليختبر حقيقةَ رسالتِه وصدقَ دعوتِه؛ فبَيَّن أنَّ للإخلاص ثمراتٍ عظيمةً.
ومِن ثَمَراتِ الإخلاصِ كذلك: البرُّ والوفاء وحُسنُ الصُّحبة وطِيبُ العِشْرَة ولينُ الجانب، وكل ذلك من إشاراتِ قولِ هرقل في الحديثِ: (وسألتُك: هل يغدر؟ فذكرت أن لا؛ وكذلك الرسل لا تغدر). ولعمري إنَّ المخلِصَ للهِ لا يغدرُ؛ ولذلك جاء الغدرُ في صفاتِ المنافقين.
ومن الثمرات الجليلة للإخلاصِ: صِدقُ التوحيد، والبُعدُ عن الشرك، والمحافظة على العبادات لاسيما الصلوات، والتخلق بالصدق والعفاف وتوابع ذلك من النواحي الاجتماعية، وكل ذلك مأخوذٌ من قوله: (وسألتك: بِمَ يأمركم؟ فذكرتَ أنه يأمرُكم أن تعبدوا الله ولا تُشرِِكوا به شيئا وينهاكم عن عبادة الأوثان ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف).
منها: أنَّ صاحبَ الإخلاصِ ليس إمَّعةً يسمع الناسَ يقولون قولاً فيقول مثلَه، كما قال هرقل: (سألتُك: هل قال أحدٌ منكم هذا القولَ؟ فذكرت أن لا، فقلتُ: لو كان أحدٌ قال هذا القولَ قبلَه؛ لقلتُ رجلٌ يأتسي بقولٍ قِيلَ قبلَه). [17] بل له عَقلٌ مُستقِلٌّ يهتدي بنورِ الله - عز وجل -.
[8] الإخلاصُ والعُزُوفُ عن حُظُوظِ النفس:
مِن ثمراتِ الإخلاصِ:
أنَّه يُسَلِّمُ صاحبَه مِن حُبِّ الرئاسة وعافاه مِن طلبِ المُلْك؛ فليس له همومٌ شخصيّةً في السياسةِ. وللهِ ما أروعَ حديثَ النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي ربطَ فيه بين الإخلاصِ وبين النهي عن تولية الإمارةِ لمن سألها أو حرص عليها كما روى الشيخان عن أبي موسىt: (إنَّا واللهِ لا نُوَلِّي هذا العملَ أحداً سألَهُ أو أحداً حرصَ عليه). فقلَّما يَسْلَم طالبُ المُلكِ من أغراضِ النفسِ وغوائلِ السلطان ومَكامنِ الشيطان، وقد نَصَّ على ذلك بعضُ أهلِ التفسير عند قول الله - تعالى -: (وإذ قال ربّك للملائكة إني جاعلٌ في الأرض خليفة)[18] قال القرطبي: "كلُّ مَن طلبَ هذا الأمرَ أظهَرَ مِن نفسِه الصلاحَ؛ حتى إذا تمكَّنَ رَجَعَ إلى عادتِه مِن خِلافِ ما أظهر"! [19] ولله درُّ ابنِ تيمية، حيث قال: "وطالبُ الرئاسةِ ـ ولو بالباطلِ ـ تُرضِيهِ الكلمةُ التي فيها تعظِيمُه، إنْ كان باطلاً، وتُغضبه الكلمةُ التي فيها ذَمُّه وإنْ كانت حقّاً. والمؤمنُ تُرضِيهِ كلمةُ الحقِّ له وعليه، وتُغضبه كلمةُ الباطلِ له وعليه؛ لأن الله - تعالى -يُحِبُّ الحقَّ والصدقَ والعدلَ، ويُبغِضُ الكذب والظلم". [20]
وهذا من إشاراتِ قول هرقل: (وسألتُك: هل كان مِن آبائه من ملِك؟ فذكرتَ أن لا؛ قلتُ: فلو كان من آبائه من ملك قلتُ: رجلٌ يطلُب مُلكَ أبيه). لاسيما وقد أتبع ذلك بسؤالٍ عن الكذب، فقال: (وسألتك: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فذكرتَ أن لا؛ فقد أعرفُ أنه لم يكنْ ليذرَ الكذبَ على الناس ويكذبَ على الله)؛ ويؤكِّدُ ذلك قولُ أبي سفيان لما سأله هرقل: (قال: فهل يغدر؟) فكان جوابُ أبي سفيان: (قلتُ: لا، ونحنُ منه في مُدةٍ لا ندري ما هو فاعلٌ فيها. قال: ولم تُمْكِنِّي كلمةٌ أُدخِلُ فيها شيئاً غيرُ هذه الكلمة)؛ ففي هذا دلالةٌ على أنه قلَّما ينجو أهلُ السياسةِ من الوُقوعِ في الكذب؛ سواءً في إخلالِهم بالوُعود أو تضييعِهم للأمانات أو إخلافِهم للعهود. وهذا مُشاهَدٌ اليومَ في غالبِ بلادِ المسلمين؛ إلا من رَحِمَ الله:
وقد كُنَّا نَعُدُّهُمُ قليلاً *** فقد صاروا أقلَّ مِن القليلِ!
ومن الثمرات كذلك: البُعدُ عن الأطماعِ والسلامة من الفتن والثباتُ على الدين، كما قال: (وسألتك: أشرافُ الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ فذكرتَ أنَّ ضعفاءهم اتبعوه؛ وهم أتباع الرسل. وسألتك: أيزيدون أم ينقصون؟ فذكرتَ أنهم يزيدون؛ وكذلك أمر الإيمان حتى يتم. وسألتك: أيرتدُّ أحدٌ منهم سخطةً لدينه بعد أن يدخلَ فيه؟ فذكرتَ أن لا؛ وكذلك الإيمان حين تُخالِطُ بشاشتُه القلوب).
[9] الإخلاصُ والعلمُ النافع:
مِن ثمراتِ الإخلاصِ العظيمة: أنَّه يُبارك العلمَ؛ ويخلِّصه من الشوائب، ويجعله نافعاً مُبارَكاً، كما قال عون بن عمارة: "سمعتُ هشاماً الدستوائي يقول: واللهِ ما أستطيعُ أن أقولَ: إني ذهبتُ يوماً قط أطلبُ الحديثَ أُريد به وجهَ الله - عز وجل -". قال الإمام الذهبي - رحمه الله - مُعلِّقاً على قول هشام الدستوائي: "واللهِ ولا أنا؛ فقد كان السلف يطلبون العلمَ لله؛ فنبلوا وصاروا أئمةً يُقتدى بهم، وطلبَه قومٌ منهم أولاً لا للهِ وحصَّلوه ثم استفاقوا وحاسَبوا أنفسَهم؛ فجرَّهم العلمُ إلى الإخلاص في أثناء الطريق، كما قال مجاهد وغيره: طلبْنا هذا العلمَ وما لنا فيه كبيرُ نيةٍ ثم رزقَ اللهُ النيةَ بعدُ، وبعضُهم يقول: طلبْنا هذا العلمَ لغير الله فأبى أن يكونَ إلا لله. فهذا أيضاً حسنٌ، ثم نشروه بنيةٍ صالحة. وقومٌ طلبوه بنيةٍ فاسدةٍ لأجل الدنيا، وليُثنَى عليهم؛ فلهم ما نوَوا، قال - عليه السلام -: (مَن غزا ينوي عقالاً؛ فله ما نوى) [رواه أحمد والدارمي والنسائي]. وترى هذا الضربَ لم يستضيئوا بنور العلمِ ولا لهم وقعٌ في النفوس، ولا لعلمِهم كبيرُ نتيجةٍ من العمل؛ وإنما العالمُ مَن يخشى اللهَ - تعالى -، وقومٌ نالوا العلمَ ووَلُوا به المناصب؛ فظلموا وتركوا التقيُّدَ بالعلم وركبوا الكبائرَ والفواحشَ؛ فتباًّ لهم فما هؤلاء بعلماء! وبعضُهم لم يتقِ الله في علمِه، بل ركبَ الحِيَلَ وأفتى بالرُّخَص وروى الشاذَّ من الأخبار، وبعضُهم اجترأ على الله ووضعَ الأحاديثَ فهتكه الله وذهبَ علمُه وصار زادَه إلى النار. وهؤلاء الأقسامُ كلُّهم رَوَوا مِن العلم شيئاً كبيراً، وتضلَّعوا منه في الجملة، فخلفَ من بعدِهم خلفٌ بان نقصُهم في العلم والعمل، وتلاهم قومٌ انتمَوا إلى العلم في الظاهر، ولم يُتقنوا منه سوى نزرٍ يسيرٍ؛ أوهموا به أنهم عُلماء فُضلاء، ولم يَدُرْ في أذهانِهم قط أنهم يتقربون به إلى الله؛ لأنهم ما رأوا شيخاً يُقتدى به في العلم؛ فصاروا همجاً رعاعاً، غاية المدرس منهم أن يُحصِّل كتباً مثمنةً يخزنها وينظر فيها يوماً ما؛ فيُصحِّف ما يُورده ولا يُقرِّره؛ فنسأل اللهَ النجاةَ والعفوَ، كما قال بعضُهم: ما أنا عالمٌ ولا رأيتُ عالماً. وقال رجلٌ لابن الجوزي - رحمه الله -: ما نمتُ البارحةَ مِن شوقي إلى المجلس؛ قال: لأنك تريد الفُرجة؛ وإنما ينبغي الليلةَ أن لا تنام". [21]
[10] الإخلاصُ وحُسنُ الخاتمة:
لا ريبَ أنَّ الإخلاصَ يؤدِّي إلى حُسنِ الخاتمة، كما أنه يحفظ صاحبَه في الدنيا من الفتنة؛ فهو بهذا المعنى يَقِي الإنسانَ من فِتنة المحيا والممات! ورحم الله أبا زرعة الرازيَّ؛ فقد سُئل في مرضِ مَوتِه عن حديثِ (من كان آخرُ كلامِه لا إله إلا الله؛ دخل الجنة)، فذكر أبو زرعة الحديث؛ حتى إذا بلغ (لا إله إلا الله) فاضتْ روحُه! [22] فمن عاشَ على الإخلاصِ؛ يمنُّ الله عليه بأن يُميتَه عليه. ولله درُّ الذهبي حيث قال: "فأخْلِصْ تُفلحْ؛ وتمنَّ دائماً وأبداً صَفاءَ النية، قال أبو يزيد البسطامي - رحمه الله -: لو صَفا لي تهليلةٌ ما باليتُ بعدَها. وسَلِ اللهَ أن يُعافيَك مِن سُوء النية؛ فإنَّ عاقبةَ ذلك وَخِيمةٌ جدا... واعلمْ أن العملَ كلَّه هباءٌ إلا بالإخلاص، وأن ما كان لله دام واتصل، وما كان لغير الله انقطع وانفصل؛ فاصدُق النيةَ مع الله تعالى؛ فمن صَدَقَ اللهَ علا، قال سفيان بن عيينة - رحمه الله -: ما أخلصَ عبدٌ لله أربعين يوماً إلا أنبتَ اللهُ الحكمةَ في قلبِه نباتاً وأنطقَ لسانَه بها، وبصَّرَه عُيوبَ الدنيا: داءها ودواءها؛ وهذه ثمرةٌ من ثمرات الإخلاص. سُئل حمدون القصار: ما بالُ كلامِ السلف أنفع من كلامِنا؟ فقال: لأنهم تكلموا لعزِّ الإسلام ونجاةِ النفوسِ ورضا الرحمن؛ ونحن نتكلم لعزِّ النفوسِ وطلبِ الدنيا ورضا الخلق"! [23]
-------------
[1] راجع اختلاف الروايات في رياض الصالحين ص 438.
[2] الحج 26.
[3] مختصر منهاج القاصدين لابن قدامة ص 45.
[4] إبراهيم24-25.
[5] الجامع لأحكام القرآن للقرطبي9/359.
[6] معجم مقاييس اللغة لابن فارس2/208. دار الكتب العلمية بيروت.
[7] الرسالة للقشيري ص207-208.
[8] المرجع السابق ص208-209.
[9] الرسالة للقشيري ص207-210.
[10] المرجع السابق ص209.
[11] البقرة 12.
[12] في ظلال القرآن 1/44.
[13] الأنعام 162.
[14] في ظلال القرآن 8/1240-1241.
[15] مدارج السالكين لابن القيم 1/83.
[16] المرجع السابق.
[17] رواه البخاري في آخر كتاب (بدء الوحي).
[18] البقرة 30.
[19] الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 1/273. نقلا عن الدولة في الإسلام للشيخ د. عبد الحي يوسف ص 42-43. (رسالة ماجستير في التفسير بجامعة الخرطوم).
[20] فتاوى ابن تيمية 10/599-600.
[21] سير أعلام النبلاء، للذهبي: 7/152 وما بعد: ترجمة هشام بن عبد الله الدستوائي، مؤسسة الرسالة بيروت، ط9، 1413 هـ. وقد استفدتُ العبارةَ تامَّةً من مقال الشيخ محمد توم (الإخلاص ثمرةُ المعرفة)
www.meshkat.net. [22] ذكره القرطبي في التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة ص 35-36. دار الريّان القاهرة. ط2. 1407هـ.
[23] سير أعلام النبلاء، للذهبي: 7/152 ترجمة هشام بن عبد الله الدستوائي.