د. ناصر العمر
الطغيان من أعظم أسباب هلاك الإنسان وهوانه على الله
، وما كفر من كفر ولا عصى من عصى إلا طغى إذ تجاوز حده، وحد الإنسان إنما هو الوقوف عند عتبة العبودية لله
بتوحيده، وفعل المأمور وترك المحظور.
إن أسباب الطغيان متعددة؛ فمن الناس من يطغيهم ملكهم، وشَرُّ سَلِفٍ لهم فرعون الذي ظن لنفسه فضلاً على كليم الله موسى u بحجة فارغة حيث قال: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ} [الزخرف: 51]، ثم جاوز الحد في الطغيان حتى قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات: 24]، ومنهم من تطغيهم قوتهم وهؤلاء سلفهم عاد قوم هود حيث قالوا: {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} [فصلت: 15]، ومن الناس من تطغيهم أموالهم وسلفهم قارون الذي قال: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} [القصص: 78]، ثم لم يلبث أن اختال بما أوتيه من مال {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ} [القصص: 79].
والجزاء من جنس العمل؛ فلما كان الطغيان علوًّا في الأرض بغير الحق كانت عاقبته الذلة والهوان، أما فرعون الذي غره ملكه وادّعى أنه الرب الأعلى، فقد سلبه الله ملكه وغيّبه أسفل اليم وملأ فمه طينًا، ثم جعله الله لمن خلفه آية. وأما عاد الذين غرتهم قوتهم فقد أخزاهم الله وأرسل عليهم جندًا من جنده، قال الله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآَخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لاَ يُنْصَرُونَ} [فصلت: 16]. وأما قارون الذي اختال على الناس بكنوزه وأمواله وعلا بها عليهم، فقد صيره الله
أسفل سافلين، قال الله سبحانه: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ} [القصص: 81] هذا في الدنيا وللظالمين أمثالها؛ وأما في الآخرة فقد قال الله I: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى
* وَآَثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا
* فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 37-39].
وليس الطغيان مقصورًا على أهل الكفر والعصيان، بل قد يطغى المرء وهو من أهل الطاعة إن رأى نفسه استغنت بشيء من النعم؛ من العلم أو العبادة أو النسب، أو غير ذلك.
أما العلم فقد قال وهب بن منبه: إن للعلم طغيانًا كطغيان المال. وهذا إن ترفع به صاحبه على من دونه ولم يزكه بالعمل به، أو إن دفعه علمه للتحايل على شرع الله وتتبع الرخص.
أما العبادة، فمن العُبَّاد من يرى لنفسه فضلاً على من هم دونه فيها، ولا يراهم إلا مقصرين وكسالى، مع أن منهم من في قلبه من الإيمان أضعاف ما في قلبه هو، ومن العُبَّاد من يحسب أنه هو الناجي وحده وكل الناس هلكى، وفي الحديث "إذا قال الرجل هلك الناس فهو أهلكهم" بضم الكاف وفتحها والضم أشهر؛ أي أنه أكثرهم هلاكًا.
وأما النسب فالتطاول به على الناس من أمور الجاهلية التي وضعها النبي
تحت قدميه الشريفتين، وفي الحديث أنه -عليه الصلاة والسلام- خطب الناس يوم فتح مكة فقال: "يا أيها الناس، إن الله قد أذهب عنكم عبية
[1] الجاهلية وتعاظمها بآبائها، فالناس رجلان؛ بر تقي كريم على الله، وفاجر شقي هين على الله، والناس بنو آدم وخلق الله آدم من تراب قال الله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13]".
هذا، وقد حذر النبي -عليه الصلاة والسلام- أمته أشد تحذير من نوع خفي من الطغيان، وهو أن يعمل الرجل عملاً صالحًا في ظاهره الذي يبدو للناس، بينما هو لا يريد به وجه الله I، فقال u: "إن أول الناس يُقضى يوم القيامة عليه رجلٌ استشهد فأُتِي به فعرَّفه نِعَمه فعَرَفَها، قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت. قال: كذبت، ولكنك قاتلت لأن يقال جريء، فقد قيل. ثم أمر به فسُحب على وجهه حتى ألقي في النار. ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن. قال: كذبت، ولكنك تعلمت العلم ليقال عالم، وقرأت القرآن ليقال هو قارئ، فقد قيل. ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار. ورجل وسّع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله، فأتى به فعرّفه نِعمه فعرفها قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك. قال: كذبت، ولكنك فعلت ليقال هو جواد فقد قيل. ثم أمر به فسحب على وجهه ثم ألقي في النار".
ولو تأمل المرء في كل صور الطغيان لوجد أن مرجعها جميعًا إلى خلل في التصور وفساد في العقل، فمن لم يعرف قدر ربه -جل وعلا- فيقدره حق قدره، ولم يعرف قدر نفسه وحقيقتها وافتقارها وعوزها إلى خالقها سبحانه، غرّه ما قد يجده منها من استغناء عما سواها -في الظاهر- فيوقعه سوء فكره في الطغيان {كَلاَّ إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى
* أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى} [العلق: 6، 7]، وسلفه في هذا إبليس الذي أوقعه سوء فكره في قياس فاسد، فعارض أمر الملك I قائلاً: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [ص: 76].
ولئن ذكرت آيتا العلق سبب الطغيان، فإن العلاج الرباني لم يتأخر فجاء الكلام مذكِّرًا ومنبهًا {إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى} [العلق: 8]. وكما قال الحسن رحمه الله: من علم أنه إلى الله راجع، علم أنه بين يديه موقوف مسئول، فليعد لكل سؤال جوابًا.
فإذا كان الأمر كذلك، فكل هذا الطغيان الذي نراه من الناس لمه؟!