بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم لك الحمد على هدايتك وتوفيقك، ولك الشكر على تسديدك وتأييدك، لا حول ولا قوة لنا إلا بك، عليك توكلنا، وإليك أنبنا، وإليك المصير.
اللهم إنا نعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك، لا نحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك.
اللهم صل على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه، وسلم تسليما كثيرا.
* أيها الإخوة الفضلاء:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد:
فإن هناك ظاهرة من الظواهر الدخيلة على بلاد المسلمين، سارت مسير الريح، وانتشرت انتشار الشمس، فلم تعد بلدة إسلامية إلا جثمت عليها، ولا دار مسلم إلا دخلت فيه.
وهي ظاهرة لا تبشر بخير أبدا، بل هي منذرة بسيل عذاب من الله ـ جل وعلا ـ قد انعقد غمامه، ومؤذنة بليل بلاء قد ادلهم ظلامه، ما عهد أنها حلت في مجتمع إلا أبادته وقضت عليه، فارتفعت عنه الخيرات، ونزلت عليه المصائب والنكبات...
أتدرون ما هذه الظاهرة الموبوءة؟
إنها السخرية والاستهزاء بالمؤمنين، الذين قالوا: ربنا الله، ثم استقاموا؛ فأتوا بما يحبه الله ويرضاه، واجتنبوا ما يكرهه ويمقته.
حقا إنها ظاهرة قذرة، حرية بكل وصف سيئ مشين، وذلك لأنها تأتي إلى أصول الدين وقواعده فتنقضها، وإلى أركانه ومبانيه فتهدمها.
وأي شيء من الدين يبقى بعد السخرية بأتباعه لا لشيء؛ ولكن لأنهم آمنوا بالله، واتبعوا رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في كل ما يأتون ويذرون؟ ( وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد ـ الذي له ملك السماوات والأرض والله على كل شيء شهيد) [ البروج: 8- 9].
والمستقرئ للتاريخ الإسلامي، يعلم أن هذه الظاهرة الخبيثة؛ لم تنتشر في زمن؛ كانتشارها في زمننا هذا، وذلك لعدة أسباب؛ منها:
1- ابتعاد المسلمين عن تعاليم كتاب الله، وسنة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
2- إحياء المستعمرين الصليبيين هذه الظاهرة، ليتمكنوا من الاستيلاء على البلاد الإسلامية بسهولة ويسر.
3- تسخير جميع وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة لبث هذه الظاهرة، خدمة لأغراض اليهود وأذنابهم.
4- دخول أجسام غريبة بين صفوف المسلمين؛ باسم الإسلام والعلم؛ تعمل على تشويه صورة الإسلام، وإظهار المسلمين بمظهر السوء.
وكل هذه الأسباب حقائق واضحة؛ لا يرتاب فيها مؤمن، وسيأتي تدعيم ذلك بالأدلة الجلية ـ إن شاء الله تعالى ـ. .
* أيها الإخوة الفضلاء:
لقد أخبرنا الله في كتابه العزيز أن هذه الظاهرة الذميمة سلاح من أسلحة الشيطان يقذفه على ألسنة الكفار والمنافقين، ليدخل به الوهن والضعف على المؤمنين، وليصد به الناس عن سبيل الله تعالى.
والآيات القرآنية في ذلك تأتي على صنفين:
* الصنف الأول:
إخبار الله سبحانه وتعالى أن ديدن الكفار في كل مكان وزمان؛ السخرية من المؤمنين؛ لأجل إيمانهم وتوحيدهم.
وهذه قاعدة عامة قررها الله سبحانه وتعالى بقوله: ( زين للذين كفروا الحياة الدنيا ويسخرون من الذين آمنوا والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة والله يرزق من يشاء بغير حساب )[ البقرة: 212].
وبقوله تعالى: ( يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رســـول إلا كــانوا بـــه يستهزؤون ) [ يس:30]
وبقوله تعالى: ( إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون ـ وإذا مروا بهم يتغامزون ـ وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين ـ وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون ـ وما أرسلوا عليهم حافظين )[المطففين:29-33] .
وبقوله تعالى: ( وكم أرسلنا من نبي في الأولين ـ وما يأتيهم من نبي إلا كانوا به يستهزؤون ) [ الزخرف:6،7] .
وبقوله تعالى: ( ولقد أرسلنا من قبلك في شيع الأولين ـ وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزؤون ) [ الحجر:10،11] .
* ففي هذه الآيات وغيرها: يبين الله تعالى أن السخرية بالمؤمنين صفة من صفات الكافرين، يقاومون بها دعوة الرسل، وأتباعهم، ويصدون بها الناس عن الإذعان والقبول لدين الله تعالى.
* الصنف الثاني:
إخبار الله سبحانه وتعالى عن كل قوم يرسل إليهم رسولا، أو نبيا، أن أول عمل يقومون به تجاهه: السخرية والتهكم به، وبمن آمن معه.
قال تعالى في قصة نوح مع قومه: ( فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين ) [ هود:27] .
وقال تعالى: ( قالوا أ نؤمن لك واتبعك الأرذلون ) [الشعراء:111] .
وقال تعالى في قصة هود مع قومه: ( قال الملأ الذين كفروا من قومه إنا لنراك في سفاهة وإنا لنظنك من االكاذبين) [ الأعراف:66].
وقال تعالى في قصة موسى مع فرعون: ( فلما جاءهم بآياتنا إذا هم منها يضحكون ) [الزخرف:47] إلى أن قال تعالى: ( ونادى فرعون في قومه قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون ـ أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين ـ فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين ) [الزخرف:51ـ53] .
وقال تعالى في شأن نبينا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزوا..) [الأنبياء:36] .
وقال تعالى: ( وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أ نؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون ـ وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزؤون الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون ) [البقرة:13-15] .
* ففي هذه الوقائع التي ذكرها الله في كتابه دليل على أن السخرية والاستهزاء بالمؤمنين تركة يتوارثها الكفار كابرا عن كابر، وذلك لأنهم لم يجدوا أنفذ سلاح منها في مقاومة حزب الله، والقضاء على شرعه.
* أيها الأحبة في الله:
وامتدادا لهذا التوارث المشؤوم، يقوم الكفار ـ في عصرنا الحاضر ـ على تشويه صورة الإسلام، المتمثلة في حملته وأبنائه فجمعوا قوتهم، واستفرغوا جهدهم؛ في سبيل إظهار الإسلام مظهر الشبح المخيف، والوحش المفترس، والرجل العاجز عن مسايرة مواكب الحضارة، ومظاهر التطور.
ويأتي هذا صريحا في خطوات الصليبيين المستعمرين، التي رسموها للإطاحة بالمسلمين، والقضاء على دينهم وعقيدتهم، عن طريق مسخ أفكارهم، وتنكيس فطرهم؛ إذ الخطوات الحربية التي اتخذوها باءت بالفشل، وانقضت بالهزيمة والخجل.
قال الشيخ العلامة عبد الرحمن الدوسري ـ رحمه الله تعالى وغفر له ـ عندما سئل عن مقولة تسيء للدين، وتطعن فيه، هي"الدين سبب الطائفية والشقاق":
هذه فكرة ركزها " الاستعمار " في تعليمه الثقافي؛ الذي هو امتداد للحروب الصليبية، ضمن تخطيط صهيوني أثبتته " البروتوكولات " الصهيونية المتكشفة. تلقاها بالقبول والتشجيع أصحاب المبادئ القومية، والمذاهب المادية، والنحل الوثنية؛ المطلية بشعارات يستحسنها الذين نسوا حظا مما ذكروا به، والمرجفون لحاجات في صدورهم، وهي منبثقة من تلك"البروتوكولات"اهـ
(1) .
وجاء في " البروتوكول " السابع عشر، من " بروتوكولات " صهيون؛ ما نصه:
وقد عنينا عناية عظيمة بالحط من كرامة رجال الدين، من الأميين " غير اليهود " في أعين الناس، وبذلك نجحنا في الإضرار برسالتهم التي كان يمكن أن تكون عقبة كؤودا في طريقنا ...اهـ (2) .
وقال الأستاذ عبد الرحمن الميداني معددا الأهداف التي يلتقي فيها المستعمرون والمبشرون والمستشرقون في محاربة المسلمين:
الهدف الثالث: " ... تشويه صورة الإسلام في نفوس المسلمين، وذلك بعدة خطط من خطط الهجوم الظالمة الآثمة، منها الخطط التالية:
5- مقابلة بعض أحكام الإسلام، وأركانه، وتشريعاته؛ بالاستهزاء، والسخرية، والازدراء، ووصف المستمسكين بها: بالرجعية، والـتأخر، والتعصب، والجمود، ونحو ذلك من العبارات التي تضعف حماسة المتدينين للتمسك بدينهم، وتفت في أعضادهم، في ركب المتحللين من الدين.
6- احتقار علماء الدين الإسلامي، وازدراؤهم، وإلجاؤهم إلى أضيق مسالك اكتساب الرزق، لتنفير المسلمين منهم، ومن طريقتهم، ثم تقديم جهلة منحرفين إلى مراكز الصدارة، ليعطوا صورة مشوهة سيئة عن التطبيق الإسلامي، توسلا إلى تشويه الإسلام نفسه عن طريقهم"(3) اهـ .
وقال الأستاذ حسني عثمان؛ واصفا الخطة التي حاكها المستعمرون للفصل بين علماء الأمة الإسلامية والعامة:
" ... خلصوا إلى الخطة النكراء التي تبنى على أن قطع الصلة بين عامة المسلمين، وبين علماء الأمة؛ يقطع الصلة ـ عمليا ـ بين القرآن؛ وأمة القرآن ... وبدأوا حملة مسعورة، مستترة، استعملت كل أفانين الدعاية والإشاعة، وأساليب علم النفس والاجتماع: لتشويه سمعة علماء الأمة؛ حتى تكرههم الأمة، وترفض ـ من ثم ـ الائتمار بأمرهم، أو التأثر بعلمهم.
وتكاتفت جهود الصليبية، واليهودية، ومن تبعها للإجهاز على سمعة علماء القرآن في قلوب أمة القرآن " اهـ (4) .
• أيها المسلمون :
لعلكم بعد هذا العرض الموجز للحقائق الجلية: أدركتم أن منبع هذه الظاهرة ومنشأها؛ من وكر أعداء الإسلام؛ الذين لا يألون جهدا في القضاء عليه، وعلى أتباعه.
وإذ قد وصلنا إلى هذه الحقيقة، فإنا سننتقل إلى بحث آخر؛ ألا وهو: حكم هذه الظاهرة. وحكم من حملها ممن يدعي الإسلام؟
فنقول: الاستهزاء بالمسلم ينقسم إلى قسمين:
* القسم الأول:
الاستهزاء بعيب خَلْقي فيه، أو خُلُقي مستقذر؛ وذلك: كالاستهزاء بالطول والقصر، والعرج والعور، والعجلة والحماقة، والغضب والبلاهة.
وهذا القسم حكمه: التحريم؛ إذ هو كبيرة من كبائر الذنوب، التي حذر الله عباده المؤمنين من الوقوع فيها، ورتب على اقترافها عذابا أليما، فقال تعالى:
( يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمـــــان ومــــن لــــم يتــب فأولئــك هـــم الظالــــمون) [الحجرات:11].
فمن وقع في مثل هذا؛ فإنما عليه الإقلاع، والتوبة النصوح، وعقد العزم على أن لا يعود.
* القسم الثاني:
الاستهزاء بالمسلم لما قام به من أحكام الله سبحانه، وسنة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؛ وذلك كالاستهزاء بمن حافظ على الصلوات، أو حث الناس على الطاعات، أو بمن أعفى لحيته ورفع ثوبه فوق الكعبين تأسيا؛ برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
وهذا القسم حكمه حكم غليظ شديد، لا أحب أن أفجع به أسماعكم حتى أذكر أمرين إن وجدا فيمن قام به هذا القسم لم يحكم عليه بهذا الحكم الغليظ الشديد:
أحدهما: أن يكون المستهزئ جاهلا بأن ما استهزأ به من الشريعة الإسلامية. كأن يستهزئ بقصر الثوب، ولا يعلم أن تقصير الثياب إلى أنصاف الساقين من سنن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
ثانيهما: أن لا يقصد باستهزائه ذات العبادة التي قام بها الرجل المسلم. كأن يستهزئ بلحية رجل مسلم لما فيها من عيب خَلْقي، لا لكونها سنة من سنن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
فمن لم يكن فيه أحد هذين الأمرين؛ واستهزأ برجل مسلم لما قام به من الواجبات أو السنن؛ فإنه يصبح مرتدا عن الإسلام إن كان مسلما ـ والعياذ بالله ـ يجب على الإمام أن يجري عليه أحكام الردة التي قررها الفقهاء في كتبهم، فيستتاب ثلاثة أيام؛ فإن تاب وإلا قتل بالسيف، ولا يصلى عليه، ولا يدفن في مقابر المسلمين، ولا يرثه أقاربه المسلمون، وينفسخ عقد زواجه من المسلمة حال حياته .. إلخ ما ذكر في باب " أحكام المرتد ".
وقد دل على ذلك: الكتاب، والسنة، والعقل.
واتفقت أقوال العلماء على ذلك ـ فيما أعلم ـ وإليك طرفا من الأدلة في ذلك:
• قال الله سبحانه وتعالى:
( يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم قل استهزؤوا إن الله مخرج ما تحذرون ـ ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أ بالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤون ـ لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين ) [التوبة:64ـ 66 ] .
ووجه الاستدلال بهذه الآية يتبين بذكر سبب نزولها؛ وسبب نزولها ما رواه ابن جرير الطبري في "تفسيره" وابن أبي حاتم؛ بإسناد لا بأس به عن عبد الله ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال: قال رجل في غزوة تبوك، في مجلس: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء؛ أرغب بطونا، ولا أكذب ألسنا، ولا أجبن عند اللقاء. فقال رجل في المجلس: كذبت، ولكنك منافق، لأخبرن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فبلغ ذلك النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ونزل القرآن. قال عبد الله بن عمر: فأنا رأيته متعلقا بحقب ناقة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، تنكبه الحجارة، وهو يقول: يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب. ورسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: ( أ بالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم ) أهـ .
فأفاد سبب النزول: أن الله حكم على من قال هذه المقالة في رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه القراء: بأنه مستهزئ بالله، وآياته، ورسوله؛ إذ الاستهزاء بمن أقام شرع الله، وعمل بآياته، واتبع رسوله؛ هو في الحقيقة استهزاء بالله، وآياته، ورسوله. فمن ثم حكم الله على صاحب هذه المقالة الشنيعة بالكفر.
ولا يقول قائل: إن هذا الحكم خاص بمن استهزأ برسول الله ـ صلى عليه وسلم ـ وأصحابه القراء، إذ العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب، كما قرر ذلك العلماء ـ رحمهم الله تعالى ـ .
قال الإمام أبو بكر الجصاص ( ت370هـ ) على هذه الآية:
" فيه الدلالة على أن اللاعب والجاد سواء في إظهار كلمة الكفر على غير وجه الإكراه. لأن هؤلاء المنافقين ذكروا أنهم قالوا ما قالوه لعبا، فأخبر الله عن كفرهم باللعب بذلك. وروى الحسن وقتادة أنهم قالوا في غزوة تبوك: أيرجو هذا الرجل أن يفتح قصور الشام وحصونها!! هيهات هيهات. فأطلع الله نبيه على ذلك. فأخبر أن هذا القول كفر منهم على أي وجه قالوا من جِد أو هزل، فدل على استواء حكم الجاد والهازل في إظهار كلمة الكفر. ودل ـ أيضا ـ على أن الاستهزاء بآيات الله، أو بشيء من شرائع دينه: كفر من فاعله " اهـ من " أحكام القرآن ": ( 3/142) .
وإنما سقته بتمامه، ولم أقتصر على الشاهد فيه ـ وهو آخر فقرة ـ لما فيه من الفائدة الجليلة المتعلقة بمسائل التكفير، وهي استواء الهازل والجاد في قضايا التكفير، وهذا أمر يغفل عنه كثير من الناس، مع أن الأمة متفقة عليه.
قال الإمام أبو بكر بن العربي ( ت 543هـ ) على هذه الآية:
لا يخلو أن يكون ما قالوه من ذلك جدا أو هزلا، وهو كيفما كان: كفر. فإن الهزل بالكفر: كفر، لا خلاف فيه بين الأمة ... إلخ. أهـ .
وقال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب ( ت 1206هـ ) ـ رحمه الله تعالى ـ في نواقض الإسلام:
السادس: من استهزأ بشيء من دين الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، أو ثوابه أو عقابه: كفر. والدليل قول الله تعالى: ( قل أ بالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم ) اهـ .
وقال في آخر الرسالة المذكورة: " ولا فرق في جميع هذه النواقض بين الهازل، والجاد، والخائف، إلا المكره. وكلها من أعظم ما يكون خطرا، وأكثر ما يكون وقوعا، فينبغي للمسلم أن يحذرها، ويخاف على نفسه، نعوذ بالله من موجبات غضبه، وأليم عقابه " اهـ .
وقال أيضا في كتاب " التوحيد ":
باب من هزل بشيء فيه ذكر الله أو القرآن أو الرسول. وقــول الله تعالى:
( ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب ) الآية. اهـ .
وقال الشيخ سليمان بن عبد الله ( ت 1233هـ ) في شرحه لكتاب " التوحيد" مبينا مراد المؤلف بهذا الباب:
أي: إنه يكفر بذلك، لاستخفافه بجانب الربوبية والرسالة، وذلك مناف للتوحيد.
ولهذا أجمع العلماء على كفر من فعل شيئا من ذلك، فمن استهزأ بالله، أو بكتابه، أو برسوله، أو بدينه، كفر، ولو هازلا لم يقصد حقيقة الاستهزاء إجماعا. اهـ .
وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن ( ت 1285 هـ ) في كتابه " قرة عيون الموحدين ":
ومن هذا الباب: الاستهزاء بالعلم، وأهله، وعدم احترامهم، أو الوقيعة فيهم لأجله. اهـ .
وقال الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي ( ت 1376 هـ ) في كتابه " القول السديد ":
ومن المعلوم أن الاستهزاء والهزل بشيء من هذه ـ أي لمذكورة في الآية ـ أشد من الكفر المجرد؛ لأن هذا كفر، وزيادة احتقار وازدراء. اهـ .
وقال الشيخ العلامة محمد رشيد رضا (ت 1354 هـ ) في تفسير الآية:
"... نبأه ـ أي نبأ الله محمدا ـ صلى الله عليه وسلم ـ نبأ مؤكدا، بصيغة القسم؛ أنه إن سألهم عن أقوالهم هذه، يعتذرون عنها بأنهم لم يكونوا فيها جادين ولا منكرين، بل هازلين لاعبين، كما هو شأن الذين يخوضون في الأحاديث المختلفة؛ للتسلي والتلهي، وكانوا يظنون أن هذا عذر مقبول، لجهلهم أن اتخاذ أمور الدين لعبا ولهوا، لا يكون إلا ممن اتخذه هزوا، وهو: كفر محض.
ويغفل عن هذا كثير من الناس، يخوضون في القرآن، والوعد والوعيد، كما يفعلون إذ يخوضون في أباطيلهم، وأمور دنياهم، وفي الرجال الذين يتفكهون بالتنادر عليهم، والاستهزاء بهم ... ـ إلى أن قال ـ والآية نص صريح في أن الخوض في كتاب الله، وفي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وفي صفات الله تعالى، ووعده، ووعيده، وجعلها موضعا للعب والهُزْو، كل ذلك من الكفر الحقيقي الذي يخرج به المسلم من الملة، وتجري عليه به أحكام الردة، إلا أن يتوب، ويجدد إسلامه ". اهـ .
وقال تعالى في وصف المنافقين :
( الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم ـ استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله والله لا يهدي القوم الفاسقين ) [التوبة:80،79] .
قال الحافظ ابن كثير (ت 774هـ ) في تفسير هذه الآية:
وهذا أيضا من صفات المنافقين، لا يسلم أحد من عيبهم ولمزهم في جميع الأحوال، حتى ولا المتصدقون يسلمون منهم؛ إن جاء أحد منهم بمال جزيل، قالوا: هذا مراء، وإن حاء بشيء يسير، قالوا: إن الله غني عن صدقة هذا.
كما روى البخاري ... عن أبي مسعود ـ رضي اله عنه ـ قال: " لما نزلت آية الصدقة؛ كنا نحامل على ظهورنا، فحاز رجل فتصدق بشيء كثير، فقالوا: مرائي. وجاء رجل فتصدق بصاع، فقالوا: إن الله لغني عن صدقة هذا " ورواه مسلم في صحيحيه. اهـ .
وقال تعالى:
( وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذًا مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا ) [ النساء:041] .
قال الإمام الشوكاني ( ت122هـ ) في تفسير هذه الآية:
أي أنزل عليكم في الكتاب أنكم عند هذا السماع للكفر والاستهزاء بآيات الله لا تقعدوا معهم، ما داموا كذلك، حتى يخوضوا في حديث غير حديث الكفر والاستهزاء بها .
والذي أنزله الله عليهم في الكتاب هو قوله تعالى:
( وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره ) [ الأنعام: 68] .
وقد كان جماعة من الداخلين في الإسلام يقعدون مع المشركين واليهود حال سخريتهم بالقرآن، واستهزائهم به؛ فنهوا عن ذلك.
وفي هذه الآية ـ باعتبار لفظها الذي هو المعتبر دون خصوص السبب ـ دليل على اجتناب كل موقف يخوض فيه أهله بما يفيد التنقص والاستهزاء للأدلة الشرعية ... اهـ .
وقال الشيخ محمد رشيد رضا ( ت 1354 هـ ) في تفسيره هذه الآية: ( إنكم إذا مثلهم ):
هذا تعليل للنهي: أي إنكم إن قعدتم معهم تكونون مثلهم وشركاء لهم في الكفر، لأنكم أقررتموهم عليه، ورضيتموه لهم، ولا يجتمع الإيمان بالشيء، وإقرار الكفر والاستهزاء به، ويؤخذ من الآية أن إقرار الكفر بالاختيار كفر ... إلى أن قال:
فليعتبر بهذا أهل هذا الزمان، ويتأملوا كيف يمكن الجمع بين الكفر والإيمان، أو بين الطاعة والعصيان، فإن كثيرا من الملحدين في البلاد المتفرنجة يخوضون في آيات الله، ويستهزؤون بالدين، ويقرهم على ذلك ويسكت لهم من لم يصل إلى درجة كفرهم، لضعف الإيمان والعياذ بالله. اهـ كلامه .
* ففي الآيتين السابقتين دليل على أن: الاستهزاء بالمؤمنين صفة من صفات المنافقين. وقد تقدم في أول الكلام أنها صفة الكفار جميعا في كل زمان ومكان.
وقد روى الإمام أحمد في " مسنده " عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال:
قال: رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " ومن تشبه بقوم فهو منهم ".
قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية (ت 728هـ ) ـ رحمه الله تعالى ـ:
وهذا الحديث أقل أحواله أن يقتضي تحريم التشبه بهم، وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبه بهم، كما في قوله: (ومن يتولهم منكم فإنه منهم ) وهو نظير ما سنذكره عن عبد الله بن عمرو أنه قال: " من بنى بأرض المشركين، وصنع نيروزهم، ومهرجانهم، وتشبه بهم حتى يموت: حشر معهم يوم القيامة ".
فقد يحمل هذا على التشبه المطلق؛ فإنه يوجب الكفر، ويقتضي تحريم أبعاض ذلك. وقد يحمل على أنهم منهم في القدر المشترك الذي شابههم فيه، فإن كان كفرا، أو معصية، أو شعارا؛ كان حكمه كذلك. اهـ من " اقتضاء الصراط المستقيم": (1/237) .
والقدر المشترك في موضوعنا هذا هو الاستهزاء؛ وحكمه الكفر ـ ولا ريب ـ .
فمن شابههم فيه فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
واعتبر أيها الأخ الكريم بقوله سبحانه في الآية السابقة: ( إنكم إذا مثلهم) فإذا كان مجرد السكوت والجلوس مع المستهزئ بآيات الله: كفرا؛ فما الظن بالتلفظ؟؟
* هذا وقد يكون العلم المستهزأ به وليا من أولياء الله، عند ذلك يحل بالمستهزئ عذاب فوق عذاب؛ ألا وهو: محاربة الله له، انتقاما لوليه . كما ثبت في الصحيح عن أبي هريرة مرفوعا؛ قال الله سبحانه: "من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب" .
* وفي صحيح مسلم عن أبي هبيرة عائذ بن عمرو المزني، أن أبا سفيان (5) أتى على سلمان وصهيب وبلال في نفر، فقالوا: ما أخذت سيوف الله من عدو الله مأخذها، فقال أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ : أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدهم؟ فأتى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فأخبره، فقال: " يا أبا بكر لعلك أغضبتهم؟ ولئن أغضبتهم لقد أغضبت ربك" فأتاهم فقال: يا إخوتاه آغضبتكم؟ قالوا: لا، يغفر الله لك يا أخي. اهـ .
كما أن في الاستهزاء بالمسلم إيذاء له بغير حق، وقد قال الله تعالى: ( والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا) [الأحزاب:58] .
* ثم إن العقل يأبى أن يستهزئ مسلم بمسلم آخر؛ لأجل إيمانه، وعمله بالطاعات؛ إذ لا بد أن يكون المسلم الأول متهما في صحة إسلامه، لأنه لا يسوغ ـ شرعا ولا عقلا ـ أن يهزأ برحل يجتمع معه على وجوب الانقياد لله ورسوله، لانقياده لله ورسوله .
* أيها الإخوة الفضلاء:
لقد أفتى العلماء بالحكم السابق على من استهزأ بمسلم؛ لإسلامه، فنذكر بعض فتاويهم في ذلك، ليطمئن السامع على صحة تنزيل الأدلة المتقدمة على ذلك الحكم .
قال العلامة ابن حجر الهيتمي (ت974هـ) في كتابه " الإعلام بقواطع الإسلام" :
ومنها ـ أي المكفرات ـ لو حضر جماعة وجلس أحدهم على مكان رفيع، تشبيها بالمذكرين، فسألوا المسائل، وهم يضحكون، ثم يضربونه بالمجراف .
أو تشبه بالمعلمين، فأخذ خشبة، وجلس القوم حوله كالصبيان، فضحكوا، واستهزؤوا .
أو قال: قطعة من ثريد خير من العلم: كفر.
زاد في " الروضة ": الصواب أنه لا يكفر في مسألتي التشبيه. انتهى .
ولا يغتر بذلك، وإن فعله أكثر الناس، حتى من له نسبة إلى العلم؛ فإنه يصير مرتدا على قول جماعة، وكفى بهذا خسارا وتفريطا.
وظاهر كلام النووي ـ يعني المتقدم نقله من " الروضة " ـ التقرير على المسألة الثالثة ـ يعني قول من قال: قطعة من ثريد .. إلخ ـ ولا يبعد أن يقيد بما إذا قصد الاستهزاء بالعلم بسائر أنواعه، أو أراد أنها خير من كل علم، لشموله العلم بالله، وصفاته، وأحكامه .
أما لو أراد العلوم التي لا تتعلق بالله، وصفاته وبأحكامه، فلا ينبغي أن يكون ذلك كفرا، لأنه لا يلزم عليه الاستهزاء بالدين، ولا تنقيصه. بخلاف ما إذا أطلق. أو أراد العلم المتعلق بالله، وبصفاته أو بأحكامه، لأن ذلك نص في الاستهزاء بالعلم والدين؛ فكان: كفرا. اهـ كلام العلامة الهيتمي(6) .
قال بعض الأئمة الحنفية في كتاب ألفه فيما يكون به المسلم مرتدا، في الفصل الأول وهو ما اتفق العلماء عليه من المكفرات:
" أو قال العلم الذي يتعلمونه أساطير وحكايات أو هذيان أو هباء أو تزوير، أو قال: إيش مجلس الوعظ؟ أو العلم لا يثرد . أو وعظ على سبيل الاستهزاء، أو ضحك على وعظ العلم، أو قال لرجل صالح: كن ساكنا حتى لا نقع إلا وراء الجنة، أو قال: إيش هذا القبيح الذي خففت شاربك، أو قال: بئسما أخرجت السنة ..." اهـ .
قال العلامة ابن حجر الهيتمي ـ تعليقا على كلام الحنفي السابق بعد أن نقله في كتابه " الإعلام بقواطع الإسلام" :
" وما ذكره في: إيش مجلس الوعظ إلخ. إنما يتجه إن أراد الاستهزاء، وكذا إن أطلق على احتمال قوي فيه ـ أي في الاستهزاء ـ لظهور هذا اللفظ في الاستخفاف بمجلس الوعظ والعلم ...
وما ذكره في: الوعظ استهزاء إنما يتجه إن أراد الاستهزاء بالواعظ، وكذا بالوعظ من حيث هو وعظ. أما لو أراد الاستهزاء بالواعظ أو بكلماته لا من حيث كونه واعظا، فلا يتجه الكفر حينئذ، وكذا قال في الضحك على الوعظ ... إلخ . اهـ (7).
وقال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب ـ رحمه الله تعالى ـ في بعض رسائله:
"وبعد : وصل إلينا حميدان، وإخوانه، والذي عليهم من الإشكال زال، فالله الله عن خاص أو عام يعترض عليهم، أو يستهزئ بهم؛ فإن الاستهزاء بالدين كفر صريح" (
اهـ .
وقال أيضا في جواب سؤال عن معنى ما ذكره الفقهاء في " باب حكم المرتد ":
"... فالقول الصريح في الاستهزاء بالدين مثل ما قدمتُ لك ـ يعني ما قاله المنافقون في غزوة تبوك ـ وأما الفعل فمثل: مد الشفة، وإخراج اللسان، ورمز العين؛ مما يفعله كثير من الناس عندما يؤمر بالصلاة والزكاة، فكيف بالتوحيد! "(9) اهـ .
وسئل الشيخ العلامة محمد بن إبراهيم ـ رحمه الله تعالى ـ عن الذي يبغض اللحية، ويقول: وساخة. هل هو مرتد؟
فأجاب: إن كان يعلم أنه ثابت عن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؛ فهذا استهزاء بما جاء به الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؛ فيُحرى أن يحكم عليه بذلك(10).اهـ .
وقال أيضا ـ رحمه الله تعالى ـ في شأن طلبة المدارس، الذين يسمون علم التوحيد: علم التوحيش :
لا شك أن مثل هؤلاء متجنون على الشريعة الإسلامية وعلومها. وهذا مما يدل على استخفافهم بالدين، وجرأتهم على رب العالمين .
ومن أطلق هذه المقالة على علم التوحيد، الذي بعث الله به الرسل، وأنزل به الكتب، وهو يعلم معناها؛ فلا شك أنه مرتد .
لكن ينبغي معرفة الفرق بين الحكم على شخص بعينه بالكفر، وبين أن يقال: من فعل كذا وكذا، أو قال كذا وكذا؛ فهو كافر، لأن الشخص المعين لا بد من إثبات صدورها منه باختياره، وكونه مكلفا بالغا عاقلا...(11) اهـ .
ومن الأسئلة المطروحة على " اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء " سؤال يقول:
ما حكم من استهزأ ببعض المستحبات، كالسواك، والقميص القصير، وبالشرب جالسا؟
الجواب: من استهزأ ببعض المستحبات، كالسواك، والقميص الذي لا يتجاوز نصف الساق، والقبض في الصلاة، ونحوها مما ثبت من السنن؛ فحكمه: أنه يبين له مشروعية ذلك، وأن السنة عن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ دلت على ذلك؛ فإذا أصر على الاستهزاء بالسنن الثابتة: كفر بذلك، لأنه بهذا يكون متنقصا للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولشرعه، والتنقص بذلك كفر أكبر ـ كما تقدم في جواب السؤال السابق ـ. .
والسؤال السابق لهذا السؤال هو:
ما حكم ساب الدين إن كان جاهلا، هل يعذر بجهله أم أنه لا عذر بالجهل في هذه المسألة؟ وهل إذا كان مقصده سب الشخص نفسه، فجرى على لسانه سب دينه، هل يعذره هذا من الكفر، أم ماذا؟ وما أقوال السلف في هذا الأمر؟
الجواب: سب الله، أو سب كلامه، أو شيء منه: كفر. وكذا سب الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، أو سنته، أو شيء منها، أو سب دين الشخص إذا كان دينه الإسلام؛ فيجب أن يبين له الحكم إذا كان مثله يجهل ذلك، فإن أصر على السب فهو: كافر مرتد عن ملة الإسلام، فإن تاب وإلا قتل، لقوله تعالى: ( قل أ بالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم) .
وأما من سب شخصا مسلما لذاته، فجرى على لسانه دين ذلك الشخص، بدون قصد، وإنما هو محض خطأ منه، فإن مثله لا يكفر، ولكن يوصى بالتحرز والحذر بكلماته، حتى لا يقع في الكفر وهو لا يشعر(12) . اهـ.
وسئل الشيخ عبد العزيز بن باز ـ حفظه الله تعالى ـ سؤالا يقول:
أرى كثيرا من الشباب إذا رأوا الشباب المحافظ على صلاته، ودينه؛ يستهزؤون به.. ويتكلمون عن الدين باستهتار وعدم مبالاة؛ فما القول في ذلك؟ وهل تجوز مجالستهم، والمرح معهم في أوقات ليس فيها صلاة؟
فأجاب : الاستهزاء بالإسلام، أو بشيء منه؛ كفر أكبر ... ومن يستهزئ بأهل الدين، والمحافظين على الصلوات، من أجل دينهم ومحافظتهم عليه، يعتبر مستهزئا بالدين، فلا تجوز مجالسته، ولا مصاحبته، بل يجب الإنكار عليه، والتحذير منه، ومن صحبته، وهكذا من يخوض في مسائل الدين بالسخرية والاستهزاء يعتبر كافرا، فلا تجوز صحبته، ولا مجالسته، بل يجب الإنكار عليه، والتحذير منه، وحثه على التوبة النصوح، فإن تاب ـ فالحمد لله ـ وإلا وجب الرفع عنه إلى ولاة الأمور، بعد إثبات أعماله السيئة بالشهود العدول حتى ينفذ فيه حكم الله، من جهة المحاكم الشرعية (13) .
وسئل الشيخ محمد بن صالح العثيمين عن حكم الاستهزاء بأهل الخير والصلاح، فأجاب ـ حفظه الله تعالى ـ :
هؤلاء الذين يسخرون بالملتزمين بدين الله المنفذين لأوامر الله فيهم نوع نفاق لأن الله قال عن المنافقين : ( الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات، والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم ) (14) . ثم إن كانوا يستهزؤون بهم من أجل ما هم عليه من الشرع فإن استهزاءهم بهم استهزاء بالشريعة والاستهزاء بالشريعة كفر. أما إذا كانوا يستهزؤون بهم يعنون أشخاصهم وزيهم بقطع النظر عما هم عليه من اتباع السنة فإنهم لا يكفرون بذلك لأن الإنسان قد يستهزئ بالشخص نفسه بقطع النظر عن عمله وفعله لكنهم على خطر عظيم والواجب تشجيع من التزم بشريعة الله ومعونته وتوجيهه إذا كان على نوع من الخطأ حتى يستقيم على الأمر المطلوب (15) .
وسئل الشيخ عبد الرحمن الدوسري عن حكم من يرمي الإسلام والمسلمين بالرجعية؟
فأجاب : هو مستدرك على الله في حكمه، منتقص لدينه،مستهين بعزته، معرض عن الاقتداء برسوله إلى الاقتداء بالغربيين الكفرة، فهو ملحد ... إلى أن قال:
وإنما رجوعه ـ أي الإسلام ـ إلى الماضي في العقيدة والإيمان بوحي الله لفظا واعتقادا وتطبيقا، آمرا بإيثار الله ورسوله في المحبة على غيرهما.
فمن وصفه بالرجعية لهذه الأسباب؛ فهو كافر عقلا و شرعا، إذا عاند بعد التفهيم…( 16) ا هـ .
وقال الشيخ حمود التويجري في كتابة ((دلائل الأثر على تحريم التمثيل بالشعَر)) عندما تكلم على الأثر على مسألة الاستهزاء بمن أعفى لحيته من المسلمين ـ ما حاصله ـ :
وهذا الصنيع من الحمقى أعظم من تمثيلهم باللحى بكثير، لاشتماله على أنواع من المحرمات، ومن أعظمها وأشدها خطرا سبعة أشياء:
أحدها: أذية خيار المسلمين بالسخرية منهم، والإزدراء بهم، وذلك إثم و فسق…
الثاني: مشابهة قوم لوط في عيب البرآء بغير عيب، قال تعالى: (وما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون) [الأعراف:82] .
الثالث: الاستهزاء بسنة من سنن النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ ، وسنن الأنبياء و المرسلين قبله. وقد أطلق جمع من العلماء القول بردة من استهزأ بشيء من دين الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، أو رد سنة من السنن الثابتة عنه...
الرابع: بغض سنة من سنن النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ الثابتة عنه من فعله و أمره. فإن الاستهزاء باللحى، وضرب المثل القبيح لها، فرع عن بغضها، وبعض ما أمر به النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ من إعفائها، ودليل ظاهر على ذلك. وقد حكى شيخ الإسلام ابن تميمة ـ رحمه الله ـ الاتفاق على تفكير من أبغض الرسول ـ صلى
الله عليه وسلم، أو أبغض ما جاء به...
الخامس: مشاقة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ومعارضة أمره، وذلك أن الاستهزاء باللحى، وضرب المثل القبيح لها، وعيب أهلها، وتعييرهم بها، من أعظم ما ينفر الناس عن امتثال أمر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بإعفائها، ومخالفة المشركين، ويصدهم عن الفطرة التي فطـر الله عليهـا رسولــه ـ صلـى الله عليـه وسـلم ـ ...
السادس: أن الاستهزاء بالذين يعفون اللحى يستلزم الاستهزاء بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لكونه إمام المعفين، وهم إنما أعفوا لحاهم امتثالا لأمره، واتباعا لهديه. والاستهزاء بالنبي صلى الله عليه وسلم كفر لا شك فيه...
السابع: ما يتضمنه مثلهم القبيح، وما يلزم عليه في حق النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وحق غيره من الأنبياء ـ صلوات الله عليهم أجمعين ـ . فيقال للحمقى: ما تقولون في لحية النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ .. ولحية الخليل إبراهيم
ـ عليه الصلاة والسلام ـ ، هل هي داخلة فيما ضربتموه من المثل للحى أم لا؟
فإن قالوا بدخولها؛ فذلك كفر صريح .. وإن لم يقولوا بدخولها؛ فذلك كفر صريح .. وإن لم يقولوا بدخولها؛ طولبوا بالفرق بين المتبوعين والأتباع، ولن يجدوا إلى الفرق سبيلا .. اهـ باختصار (17) .
وقال الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق، في كتابه " الحد الفاصل بين الإيمان والكفر " :
فالاعتراض على شعيرة ما ممن شعائر الإسلام ؛ هو في الحقيقة اعتراض على المشرع سبحانه تعالى؛ وهذا هو الكفر.
فمن قال مثلا عن السعي بين الصفا والمروة: امرأة سعت بين جبلين من جبال مكة، وما شأننا نحن بهذا؟ ... ولا شك أن هذا الاعتراض على هذه المناسك هو كفر بحكمة المشرع، وعلمِه سبحانه وتعالى، وهذا هو الكفر المخرج من الملة ـ والعياذ بالله ـ .
فالاستهزاء بإعفاء اللحية، أو الصلاة، أو الحجاب الشرعي للمرأة، أو المسجد، أو الكعبة، أو الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ : هو كفر بالله تبارك وتعالى.
فكل ما ينسب إلى الله من أمر ونهي؛ فذاتُ الاستهزاء به، والاعتراض عليه: كفر، ونقض للإيمان.
وأعني بالذات ما ينسب إلى الله من شيء، كالكعبة، والمسجد.
فالاستهزاء بالمسلم لإسلامه: كفر، لا يتأتى هذا من مسلم أبدا...
ومن هذا الباب ـ أيضا ـ معاداة المؤمن لأجل تدينه، وفتنته ليرجع عن دينه؛ وهذا كفر، وصد عن سبيل الله تبارك وتعالى ...اهـ (18) .
وقال أيضا في نواقض الإيمان:
الثالث: الاستهزاء بالمسلم لإسلامه، ومعاداته لتدينه ..
قال : وقد يكون الاستهزاء بالمسلم من أجل إسلامه، فيُستهزأ به لتمسكه بشعيرة من شعائر الإسلام، أو لعمله عملا من أعمال الإيمان، وهنا ينصرف الاستهزاء إلى الدين، ويكون هذا العمل كفرا ...(19) اهـ .
*ومن هنا يعلم خطر اللسان، ويوقَف على مدى شره إن لم يُحفظ، إذ ِالمسلم قد يخرج من دائرة الإسلام بلسانه.
وصدق الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ حينما قال: "إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها، يزل بها إلى النار أبعد مما بين المشرق والمغرب" متفق عليه من حديث أبي هريرة.
وروى مالك، والترمذي، عن بلال بن الحارث أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "... وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله، ما كان يظن أن تبلغ ما بلغتْ، يكتب الله له بها سخطه إلى يوم يلقاه".
وفي حديث معاذٍ ـ الطويل ـ وفيه، قال صلى الله عليه وسلم: " ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟" قلت: بلى يا رسول الله. فأخذ بلسانه، قال: " كُف عليك هذا " قلت: يا رسول الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ قال: " ثكلتك أمك؟ وهل يكب لناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم؟" رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.
* وقبل أن نختم هذه الكلمة نقول:
لا يجوز لأحد غير العلماء أن يكفر المسلمين، ويحكم على أعيان منهم بالكفر، في مثل هذه المسائل الخفية، وذلك لأن بعض العامة وطلبة العلم المبتدئين قد يسمع هذه الأحكام، ثم ينصب نفسه حاكما على العباد، يكفر هذا، ويفسق ذاك، وهو جاهل بأحكام التكفير وشروطه.
ومن هنا قلنا: لا يجوز الخوض في مثل هذه الأمور إلا للعلماء. وحسْبُ العامي أن يعلم خطر جريمة الاستهزاء بأهل الخير لصلاحهم، فيكف لسانه عن أذيتهم، وينصح من رآه يقع فيهم، ويخبره بالحكم المتقدم، والله يكتب له الأجر والثواب.
• وختــامــا:
أزف بشرى لمن صبر من أهل الصلاح على ما أصابه من أذى واستهزاء؛ فإن العاقبة للمتقين ( وليحمص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين) .
وهـذه البشــرى هـــي ما جــاء فــي آخــر سـورة " المـطفـفـين" وآخــر ســـورة " المؤمنون " حيث يقول الله سبحانه وتعالى:
( إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون ـ وإذا مروا بهم يتغامزون ـ وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين ـ وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون ـ وما أرسلوا عليهم حافظين ـ فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون ـ على الأرائك ينظرون ـ هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون ) [ المطففين: 29-36] .
قال الحافظ ابن كثير ـ رحمه الله تعالى ـ في تفسير هذه الآيات:
يخبر تعالى عن المجرمين أنهم كانوا في الدار الدنيا يضحكون من المؤمنين أي: يستهزؤون بهم، ويحتقرونهم، وإذ مروا بالمؤمنين يتغامزون عليهم أي: محتقرين لهم (وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين) أي: وإذا انقلب أي: رجع اشتغلوا بالقوم المؤمنين يحقرونهم ويحسدونهم ( وإذا قالوا إن هؤلاء لضالون) أي: لكونهم على غير دينهم قال الله تعالى: (وما أرسلوا عليهم حافظين) أي: وما بُعث هؤلاء المجرمون حافظين على هؤلاء المؤمنين ما يصدر منهم من أعمالهم، وأقوالهم، ولا كلفوا بهم؟ فَلِم َاشتغلوا بهم وجعلوهم نصب أعينهم، كما قال تعالى: ( اخسؤوا فيها ولا تكلمون ـ إنه كان فريق من عبادي يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين ـ فاتخذتموهم سِخْريا حتى أنسوكم ذكري وكنتم منهم تضحكون ـ إني جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون ) ولهذا قال ههنا: (فاليوم) يعني يوم القيامة (الذين آمنوا من الكفار يضحكون) أي: في مقابلة ما ضحك بهم أولئك ( على الأرائك ينظرون) أي: إلى الله عز وجل في مقابلة من زعم فيهم أنهم ضالون؛ ليسوا بضالين، بل هم من أولياء الله المقربين ينظرون إلى ربهم في دار كرامته، وقوله تعالى: (هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون؟) أي: هل جوزي الكفار على ما كانوا يقابلون به المؤمنين من الاستهزاء والنقيص أم لا؟ يعني: قد جوزوا أوفر الجزاء وأتمه وأكمله.اهـ .
وعندما يراجع الكفارُ ربنا سبحانه وتعالى في الخروج من النار، يقول الله سبحانه وتعالى موبخا لهم، ومبينا سبب حبسهم في النار:
( قال اخسؤوا فيها ولا تكلمون ـ إنه كان فريق من عبادي يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين ـ فاتخذتموهم سخريا حتى أنسوكم ذكري وكنتم منهم تضحكون ـ إني جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائــزون) [ المؤمنون: 108ـ111] .
وإلى هنا نأتي إلى ختام ما أردنا الكلام فيه، سائلين الله سبحانه بأسمائه الحسنى وصفاته العلى وأفعاله الحميدة أن يجعلنا من المخلصين له في كل أقوالنا وأفعالنا. وأن يحفظنا وإخواننا المسلمين من معرة اللسان، وسوء العاقبة، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه أجمعين.
كتبه
عبد السلام بن برجس بن ناصر آل عبد الكريم