وفيكم بارك الله اخي في الله جلال
الخشوع بين الواقع والمأمول !
الخشوع لغة: الخضوع والسكون، والتذلل. وهو في القلب والبدن والصوت والبصر. أما معنى الخشوع في حياة المؤمن، فهو نابع من معاني هذه الكلمة لغة، ثمَّ تمتدُّ ظلالها في آيات الله البيّنات في القرآن الكريم, وفي أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فمن الآيات والأحاديث ندرك معنى " الخشوع " وامتداده، قال تعالى: " إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ " المؤمنون: 57.
" إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ" الأنفال: 2.
" الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ" الرعد: 28.
" وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ" المؤمنون: 61،60.
" وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ" الحج:54.
ومن الأحاديث الشريفة:
(.... أن تعبد الله كأنَّك تراه فإن لم تكن تراه فإنَّه يراك )
( اللهم أسلمت نفسي إليك وفوّضت أمري إليك، ووجهت وجهي إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت ونبيك الذي أرسلت )
وخلاصة ذلك أنَّ الخشوع هو إقبال المؤمن على ربّه إقبال الخضوع والذلّة والإقرار أمام جلال الألوهية والربوبية، وأمام الإقرار بعبودية المخلوق لربّه وخالقه الله الذي لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى كلها، وأمام إدراك حقيقة الحياة الدنيا، وأنَّها دار متاع وعرض زائل، وأمام حقيقة الموت والقبر, والساعة, والبعث, والحساب, والجنَّة, والنار.
معنى الخشوع:
فمعنى الخشوع في منهاج الله يبتدئ بصدق النيّة والإخلاص لله سبحانه وتعالى، وصدق الإقبال عليه، والتذلّل، والخضوع والاستسلام بين يديه، بين شدّة الخشية والخوف، وقوة الأمل والرجاء, وحسن الظنّ بالله تعالى، والانقياد لأمره واتباعه؛ لأنه الحق الذي يجب أن يُتَّبع، والإدبار عمَّا نهى الله عنه؛ لأنه الباطل الذي يجب أن يجتنب ويحارب، والبذل من أجل الحق وقوّته، وهزيمة المنكر وبطلانه، والصبر على كل ذلك والمضيّ عليه، على عزّة وبذل لصدِّ الكافرين المعتدين الظالمين المفسدين في الأرض.
إنَّ الخشوع هو أعلى مراتب القوة, والبذل, والعطاء. وليس الخشوع الضعف,َ والبخل,َ والجبن، ولا هو الهوان أمام أعداء الله الظالمين المجرمين المعتدين.
وأعظم ما يظهر الخشوع فيه صدق أداء الشعائر وعلى رأسها الصلاة، والجهاد في سبيل الله عن إيمان وعلم وتقوى، وبذل صادق، ونهج واضح جليّ، ودعوة لله خالصة، وتعهّد وبناء وإعداد، وجمع لكلمة المؤمنين الخاشعين، وإماتة الفتنة والتفرّق والشتات. ثمَّ يمضي الخشوع من الصلاة والشعائر إلى جميع ميادين الحياة حتى يبلغ ذروته حين يقدّم المؤمن ماله وروحه في سبيل الله، حتى كأنَّ الخشوع نهج حياة ممتد.
ويصبح الخشوع نهج حياة ممتد حين يدرك المؤمن أنَّ عمله كلّه، دقّه وجلّه، عبادة خالصة لله، نقيّة من الشرك، غنيّة بالتقوى. وكأنَّ الخشوع هو التقوى.
والخشوع يجب أن يكون موضع اهتمام الدعاة والمربين؛ ليبنوا ذلك في نفوسهم أولاً ثمَّ في الناس. قال ابن عباس رضي الله عنهما: " إن الله استبطأ قلوب المؤمنين فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن "
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: " ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية : "أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ ..." . إلا أربع سنوات " !
وانظر كذلك كيف يخاطب الله عباده المؤمنين، أصحاب رسول الله في سورة النور: ".... وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ " النور:31.
ويظلُّ هذا النداء الربّانيّ ممتداً مع الزمن كله، يخاطب المؤمنين مدى الدهر؛ ليخشعوا وينيبوا إلى ربّهم .
والخشوع هو درجة عالية من الإيمان والتوحيد، ودرجة عالية من التقوى. والخشوع محله القلب. وعلى ذلك تدلُّ الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة من وجل القلوب، والخشية، والإنابة، والاطمئنان، والإخبات، وغير ذلك.
آثار الخشوع:
ولكنَّ آثار الخشوع تظهر في أمرين:
أـ جوارح الإنسان المؤمن حين تسكن وتهدأ في الصلاة مثلاً، وفي غيرها من الشعائر، وكذلك في سلوك الإنسان ومواقفه في الحياة الدنيا مع نعيمها وابتلائها.
أمَّا الجوارح فإنها تخشع عندما يخشع القلب, وعبّر عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثه: فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" المسلم أخو المسلم لا يخونه ولا يكذبه ولا يخذله.كل المسلم على المسلم حرام عرضه وماله ودمه، التقوى ها هنا بحسب امرئ من الشرِّ أن يحقر أخاه المسلم "
وأخرج مسلم عن أبي هريرة أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض, وكونوا عباد الله إخواناً. المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره. التقوى ها هنا ـ ويشير إلى صدره ثلاث مرات ـ بحسب امرئ من الشرِّ أن يحقر أخاه المسلم. كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه "أخرجه مسلم
وفي رواية أخرى لمسلم عن أبي هريرة جاء فيها قوله صلى الله عليه وسلم: " ..... إنَّ الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم .وأشار بأصابعه إلى صدره".
فمحل التقوى هو القلب، ومحل الخشوع كذلك. وقد رأينا كيف تمتدُّ آثار الخشوع إلى سلوك المسلم ومواقفه مع امتداد التقوى. وفي الرواية التي فيها " إنَّ الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم ..." إشارة واضحة إلى امتداد أثر الخشوع إلى جوارح المسلم. ولكنَّ الله لا يريد الخشوع المنفصل عن القلب. إنه لا يريد طأطأة الرأس, واصطناع الحركات؛ ليوهم الناس بخشوعه. ولكنَّ الله ينظر إلى قلب المسلم فإن كان القلب خاشعاً خشعت جوارحه.
فقد رُوي عن حذيفة رضي الله عنه أنه قال: " إياكم وخشوع النفاق " فقيل له: وما خشوع النفاق؟! قال: " أن ترى الجسد خاشعاً والقلب ليس بخاشع "
ورأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلاً طأطأ رقبته في صلاته. فقال:" يا صاحب الرقبة ارفع رقبتك. ليس الخشوع في الرقاب. وإنما الخشوع في القلوب "
ورأت عائشة رضي الله عنها شباباً يمشون ويتماوتون في مشيتهم، فقالت لأصحابها:" من هؤلاء؟! فقالوا: نسّاك. فقالت: كان عمر بن الخطاب إذا مشى أسرع، وإذا قال أسمع، وإذا ضرب أوجع، وإذا أطعم أشبع، وكان هو الناسك حقَّاً "
وقال الفضيل بن عياض رحمه الله:" كان يُكره أن يُرى الرجل من الخشوع أكثر مما في قلبه "
ومن ثمرة الخشوع أداء حقوق الناس وعدم ظلمهم، وعدم الكبر والاستكبار، وعدم الغرور، والتواضع للناس دون مهانة، والوفاء بالعهود والمواثيق، وغير ذلك من قواعد الإيمان، وآداب منهاج الله وأحكامه وقواعده.
ومن الخشوع عدم المراءاة, والجدال المميت للقلب، ونبذ العصبيات الجاهلية، ونبذ كل ما ينافي قواعد الإيمان وأحكام منهاج الله.