بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلما ، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه ، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة المؤمنون ، عالمٌ جليل ألَّفَ كتاباً أوْدَعَ فيه بعض الفوائِد ، وهذه الفوائِدُ قيِّمَةٌ جداً ، سأخْتارُ لكم في هذه الدروس إن شاء الله تعالى بعضاً من هذه الفوائِد ونعيشُ في معانيها لَعَلَّ الله سبحانه وتعالى ينْفَعُنا بها.
فالفائِدَةُ التي رُقِّمَت بالتاسَعة عشرة يقول فيها مُؤَلِّفُ الكتاب : من أعْجَب الأشْياء أنْ تعرِفَهُ ثمَّ لا تُحِبُّه ، يقولون إنَّ في الدنيا عجائِبٌ ، وعجائِبُ الدنيا سبْعٌ لكنّ أعْجَبَ العجائِب ؛ أنْ تعْرِفَ أنَّ الله بِيَدِهِ كُلُّ شيء ، وأنَّهُ رحْمنٌ رحيم ، وأنَّهُ على كُلِّ شيء قدير، وأنَّ الأمر كُلَّهُ راجِعٌ إليه ، وأنَّهُ بِيَدِهِ مقاليدُ السماوات والأرض ، وأنَّ أسْماءَهُ حُسْنى وصِفاتِه فُضْلى ، ومع ذلك لا تُحِبُّه وتُحِبُّ سِواه ؛ هذا من العَجَبِ العُجاب ، من أعْجَب الأشْياء أنْ تعرِفَهُ ثمَّ لا تُحِبُّه ، فالإنسانُ يُحِبُّ الكمال والجمال والنوال ، إنسان إن أعْطاكَ بيْتاً يمتلىءْ قلبك حُباً له - بِصَرْف النظر عن شكْله ، ولو كان دميماً - وذاك إنسان وقف مَوْقِفاً كاملاً ولو لم يُصِبْك من كماله شيء ، مَوْقِفٌ فيه شهامة ومُروءة ورُجولة ومُؤاثرة فإنك تحبه ، وكذا من أوْدَعَ الله فيه مسْحَة من الجمال تُحِبُّهُ أيْضاً فالنَّفْسُ البَشَرِيَّةُ مَفْطورةٌ على حُبِّ الجمال، وحُبِّ الكمال ، وحُبِّ النوال وهي لا تجْتَمِعُ في إنْسان ، لكِنَّها مجْموعَةٌ في الواحد الدَيان ؛ كمال وجمال ونوال . وأنت حَسَنة من حسنات الله تعالى ، وُجودُكَ مِنْحة ، وإمْدادُك بما تحْتاج فضْل ، هِدايَتُك إليه فضْلٌ كبير ، ولكن نحن من ضيقِ أُفقنا نرى الشيء المألوف وهو عظيم ثم ننْساه، هناك زوجة وأولاد في البيت يمْلؤون البيت فرْحَةً ؛ من صَمَّمَهم ، ومن أبْدَعَهُم بهذا الشكْل اللطيف ، وبهذا الشَّكل المُحَبَّب ؟ الله جل جلاله ، أوْدَعَ في طعامك لَذَّة ، من الذي أذاقك إياها ؟ أوْدَعَ في الطعام قُوَّة فمن منَحَكَ إياها ؟ وجعل في الكَوْن أماكن جميلة جداً لِتَسْتَمْتِعَ بها ، فالله جميل وكامل، وستار العُيوب وغفارالذنوب، يُقيل عثرات العاثرين ويقبل توبة التائِبين ، ويتجاوز عن سيِّئات عباده المُصلحين ، فمن أعْجَب الأشياء أنْ تعرفه ولا تُحِبُّه ، إذاً تُحِبُّ من ؟ تحِبُّ مَخْلوقاً دونه ، تُحِبُّ من يفْنى ، تحب من يُقابل الكرم باللؤم ، هناك أُناسٌ كثيرون تُحْسِنُ إليهم الدَّهْر كُلَّهُ ثمَّ يُقابلون إحْسانك بالإساءة ، قال سيدنا عليٌّ كَرَّم وَجْهه : والله ثمَّ والله - مرَّتَين - لَحَفْرُ بئرين بِإبْرَتَين ، وكَنْسُ أرْض الحِجاز بِريشَتَين، ونَقْل بَحْرَين بِمِنْخَلَين ، وغَسْلُ عَبْدَين أسْوَدَين حتى يصيرا أبْيَضَيْن أَهْوَنُ عَلَيَّ من طلب حاجةٍ من لئيمٍ لِوَفاء دَيْن ! قال تعالى :
﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ ﴾
[النمل : الآية 62]
العلماء قالوا : المُضْطر والمظْلوم مُسْتَثْنيان من شروْط الدعاء لأنّ الله تعالى يُجيبُ المُضْطَر لا بِحَسَبِ حال الداعي بل بِحَسَب حال المَدْعو ؛ رَحْمَتُه تقتضي أنْ يُجيبهُ ، ويُجيب دعاء المظْلوم لا بِحَسَبِ حاله فقد يكون كافِراً بل بِحَسَبِ عَدْلِه سبحانه.
فقال (عليه رحْمةُ الله): من أعْجَب الأشياء أنْ تعرفه ثمَّ لا تُحَبَّهُ ، قال تعالى :
﴿وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ ﴾
[البقرة الآية 165]
ويا أيها الإخوة الكرام ، والله الذي لا إله إلا هو قَبيحٌ بالإنسان أنْ يُحِبَّ غير الله ، بل مَغْبونٌ من أَحَبَّ غير الله ، لأنَّ الله تعالى أهل التَّقْوى وأهْلُ المَغْفرة ، فهُوَ أهْلٌ أنْ تُفْنِيَ شبابك في سبيله وهو أهْلٌ أنْ تمضي عُمرك في طاعته ، وهو أهل أن تَهَبَهُ قلْبَك ، قال تعالى :
﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾
[الأنعام : الآية 162]
المؤمن مُحِبٌّ لله بِوَقْتِهِ وماله وجُهْدِه وعِلْمُه وخِبراتُه وطاقاتُه ، قَضِيَّة سيِّدنا عثمان لما جَهَّز جَيْشُ العُسْرة مئة ناقة مُحَمَّلة ، ومئة ناقة أخرى ومئة ناقة ثالثة ؛ جَيْشٌ بِأكْمَلِه ، فقال عليه الصلاة والسلام :" اللهمَّ إني أمْسَيْتُ راضِياً عن عثمان فارْضَ عنه ، وما ضَرَّ عُثْمان ما فعلهُ بعد اليوم ، لماذا ؟! لِوَجْهِ الله . لقد زارني شَخْص مرةً يُجْري دِراسة حوْل بعض عُلماء دِمَشْق - وهو بعيدٌ عن جَوِّ العِلْم الدِّيني - فسَألني عن الدروس وأوْقاتِها فَوَجَدَها كثيرة فقال لي : ماذا تأخذ عليها؟ فقلتُ : لا شيء ! فكأنَّهُ اتَّهَمَني بِعَقْلي ، التعامل بالمِقياس المادي يجعل تعاملك مع الناس صعْب ، أما المؤمن فصَلاتُه ونُسكُه وحياته ومَوْتُه وماله وجُهْدُه وخِبْراته وطاقاته في سبيل الله.
إذاً كما قال عليه رحْمةُ الله : من أعْجَب الأشياء أنْ تعرفه ثمَّ لا تُحَبَّهُ ، ومن أعْجَب الأشياء أيْضاً أنْ تسْمَعَ داعيهِ ثمَّ تتأخَّرُ عن الإجابة قال تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴾
[الأنفال : الآية 24]
أحْياناً يدْعوك الله عن طريق خطيب مسْجِد ، أوعن طريق دَرْس عِلْم أوعن طريق شريط أوعن طريق كتاب ، فالإنسانُ يُدْعى إلى طاعة الله ، وإلى الصُّلْح مع الله ، وإلى التوبة وإلى تعْديل مساره لِيَكن وَفْق منهج الله ، يُنْصح ، فالعجيب أنَّكَ تُدْعى إلى رحْمة الله ، تدعى إلى التوفيق والتأييد والنصْر وإلى سعادة الدارَيْن ولكنَّك لا تسْتجيب ، وأعْجب من هذا أنْ تسْمع داعيهِ يَحُثُّك على طاعَتِه وعلى التوبة والصلح معه ثم لا تستجيب له ، والله تعالى يقول :
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴾
[الأنفال : الآية 24]
فالحياة الحقيقية هي حياة معرفة بالله ، أو حياة القلب وطاعته والإقبال عليه وأن تكون في ظِلِّه ، في سَفري مرةً وقع تحت يدي كتابٌ لمُؤلِّف جليل قرأتُ فيه كلمة والله الذي لا إله إلا هو كأنَّها وصلت إلى العظْم ، يقول : لا شُعور أسعد للمرْء من أنْ يرى نفْسه في طاعة الله ، وأتَحَدى من أن يكون هناك شُعور أسْعد من أنْ يسعد الإنسان بطاعة الله ، إذا الإنسان اقْتَرف معْصِيَة يشْعر بِكآبة ووَحْشة وضيقٍ ويُعْصر قلبه ، أما إذا كان في طاعة الله فإنَّهُ يشعر وكأنه في ظِلِّ الله .
قال : وأنْ تسْمع داعيهِ ثمَّ تتأخَّر عن الإجابة ؛ فهذا شيءٌ عجيب أنْ تعرفه ثمَّ لا تُحَبَّهُ ، ومن أعْجَب الأشياء أيْضاً أنْ تسْمَعَ داعيهِ ثمَّ تتأخَّرُ عن الإجابة ، وأن تعرف قدْر الرِّبْح في مُعامَلَتِه ، تضعُ مالك بِجِهَة يقولون لك ربحنا ثمانية عشرة بالمئة ، فإذا ضَحْكَتُك ملْء فمك حتى بدت جميع نواجذك ، وأحياناً ثمانية وعشرون ، قال : وأن تعرف قدْر الرِّبْح في مُعامَلَتِه ثمَّ تُعامل غيره ، فالله تعالى خلقنا لِنَرْبح عليه ، سنوات معدودة تضبط لسانك وتغضّ بصرك ولك جنَّةٌ عرضها السماوات والأرض ، لا عطاءَ يُقابل عطاء الله ، الواحد يُقابل ألف ملْيار ، بل أكثر، فَهُوَ أَعْطاك الأبد ، أَطَعْتَهُ مُدَّةً محْدودة ، ومنَحَك الأبد ، هكذا يُعامل الله عباده ، قال وأن تعرف قدْر الرِّبْح في مُعامَلَتِه ثم تعامل غيره ، وأقول لكم مرَّةً ثانية وثالثة ورابعة : حينما تكون لِغَيْر الله تَحْتَقِرُ ذاتك ، هل يُمكن أنْ تشْتري حاسوباً ثمنه ثلاثون مليوناً يُؤدي وظيفة مُعَيَّنة أفتسْتخدمهُ طاولة؟ وهل يمكن أن تسْتعمل آلة في المطبخ لِجَمْع القُمامة وهي من ذَهَبٍ خالص ؟! فالإنسان خُلِقَ لِطاعة الله ومعْرِفَتِه ، الماء للأرض والأرض للنبات والنبات للحيوان ، والحيوان للإنسان ، والإنسان لِمَن ؟! للواحد الدَيان ، لذلك لا يليق بك أنْ تكون لِغَيْر الله ، أحْياناً يكون إنسانٌ ما مَحْسوباً على إنْسانٍ آخر ، هذا الذي أنت مَحْسوبٌ عليه ضعيفٌ مثلك ويخاف مثلك ، وفقير مثلك، وقد يكون لئيماً ، سمِعْتُ مرَّةً عالماً جليلاً أحْسِبُه كذلك - وهو من بلد إسلامي آخر - أُصيب بِمَرض فذَهَب إلى بلد أجْنبي للمُعالجَة فجاءَت هواتف بِعَدد غير معْقول ؛ برْقيات وفاكْسات وكانت هناك إذاعة لَفَتَ نَظَرَها هذا الشأن الكبير لهذا العالم ؟! فأجْرَوا معه مُقابلة : وقالوا له لمَ أنت بِهذه المكانة الكبيرة جداً ، إذْ ما تَمَتَّعَ بها ملِك ! فأجاب إجابَةً رائِعَة فقال : لأنَّني مَحْسوبٌ على الله ، وهذه العبارة فيها أدَب إذْ إِنَّهُ ليس أهْلاً ولكن مَحْسوبٌ على الله ، فأنت كإنسان مؤمن مَحْسوبٌ على الله لذلك قال تعالى :
﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُوراً ﴾
[الإنسان : الآية 9]
المؤمن عجيبٌ حالهُ يشْتغل عشرين ساعة لِوَجْه الله بِلا مُقابل ، ويتمنى أنْ يرضى الله عنه :
فَلَيْتَكَ تَحْلو والحيــاةُ مريرةٌ ولَيْتَك تَرْضى والأنامُ غِضابُ
وليتَ الذي بينك وبيني عامـر ٌ وبيني وبين العالمين خرابُ
إذا صَحَّ منك الوصْل فالكُلُّ هَيِّنٌ وكُلُّ الذي فوق التراب تراب
لا يكْفي أنْ يكون الدِّين فِكْر ومنْطق وعقيدة سليمة ؛ الدِّينُ حُبٌّ ومشاعر وإخلاص في أنْ تُحِبَّ الله، والله أثبَتَ هذا في كتابه فقال تعالى :
﴿يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾
[المائدة : الآية 54]
فالحُبّ من علامة الإيمان ، قال وأن تعرف قدْر الرِّبْح في مُعامَلَتِه ثمَّ تعاملُ غيره ، الرِّبْحُ معه كبير جداً ، قد تؤثر الآخرة على الدنيا فَيُعْطيك الدنيا والآخرة ، والعجيب مع الله تعالى أنَّك تؤاثره على شيء فَيُعْطيك رِضاه وتجَلِّيه ورحْمته وهذا الشيء أيضاً ، من أحَبَّنا أحْببْناه ومن اكْتفى بنا عما لنا كنا له وما لنا ، أوَّل نقطة أنْ تعرفه ثمَّ لا تُحِبَّهُ ، وثاني نُقطة أنْ تسْمع داعيهِ ثمَّ تتأخَّر عن الإجابة ، دعاك إلى بيتِهِ للصلاة ، أنا أرى أنَّ الذين يأتون إلى بُيوت الله لا يأتون إلى أشْخاص مُعَيَّنين ، إنما يأتون إلى الله ، أنت تأتي بيْتَ الله ولِتَنالكَ رحْمَتُه ، إنَّ بُيوتي في الأرض المساجد وإنَّ زُوارها هم عُمَّارُها ، فَطوبى لِعَبْدٍ تطَهَّر في بيْتِهِ ثمَّ زارني ، وحُقَّ على المزور أنْ يُكْرم الزائِر ، إخْوَةٌ كثيرون حَدَّثوني أنَّهُ لم يبْق من الدرس إلا ربْعَ ساعة ويقول سآتي إلى الدرْس، فيصلُ مع قولي ؛ والحمد لله ربّ العالمين ، ومع أنَّهُ جاء مُتأخِّراً تُصيبُهُ رَحْمةُ الله ولو لم يسْمع الدرْس لأنَّهُ دخل بيت الله . إذا دخل الإنسان إلى بيْتك فمُسْتحيل ألّا تضيّفَهُ ، ولو سُكَّرة، فإذا دَخَلْتَ بيْت الله وصَلَّيْت فيه مُسْتحيل ألّا يتجلى الله على قلْبك ، تَحُسُّ بالراحة ، وهناك نقْطة أُحِبُّ أنْ أقولها لكم وهي : أنَّ الإنسان إذا حضر مجْلس العِلْم غير سماع العِلْم ، وهي أنْ يُغني هذا المجْلس بوجوده فلا بدّ من أن تساهم في المؤازرة وتكثير سواد المُسْلمين ، ففي الدرْس قد تأتيك رحْمةُ الله، ولا يسْتلزم أن تتعلَّم شيئاً جديداً دائِماً ، ولا تقلْ إنَّ فلاناً وفلاناً ما حضروا ، ويأتيك التَّوْفيق في المسْجد ، هم في مساجدهم والله في حوائِجِهم ، فالإنسان يأنس بِإخوانه فإذا كان الكُلُّ موْجودين يستأنسون ببَعْضِهِم بعْضاً .
ثمَّ قال : والأعْجب من هذا أنْ تذوق ألَمَ الوَحْشة في معْصيتِه ، هذا الكلام مُوَجَّه للذي يتعامل مع الله ، وله صِلَة بالله ، هذه الصِّلة تزْداد أو تنْقص وتشْتدّ أو تضْعُف فالذي على صِلَة بالله يفْهم هذا الكلام ، لا يوجد إنسان يؤثر شيئاً من الدنيا إلا ويشْعُر بِأَلَمِ الوَحْشة ، لقد ذَهَبْتُ إلى بلادٍ فيها كُلُّ ما تشتهي ولكنك لا تجد فيها السعادة ، لأنَّ القرب منه منعدِم ؛ تجد غابات وبلاد خضْراء وغنِيَّة جداً ، وقد تجد إنساناً مُقيماً في كوخ ، وبِدَخْلٍ محْدود وهو أسْعد الناس لأنَّهُ موصول بالله ، قد يحْجُبُ عنك الدنيا ويتجَلى على قلْبك فإذا بك أسعدهم ، وقد يُعْطيك الدنيا كُلَّها ويحْجُبُ عنك رحْمته فأنت أشْقى الناس فالنبي عليه الصلاة والسلام كان يسْأل رحمته تعالى ويقول : فلا تكِلني إلى نفسي طرْفة عين .
قال : وأنْ تذوق ألَمَ الوَحْشة في معْصيتِه ثمَّ لا تطْلب الأُنس بِطاعَتِه ، قلبُك دليلك فحين تعْصيه تشْعر بِضيقٍ ، يقول لك شخص أحْياناً : والله في قلْبي ضِيق لو وُزِّع على أهْلِ بلدٍ لَكَفاهُم ، والطريق سالك ، كيف تذوق أَلَمَ الوَحْشَة في معْصِيَته ثمَّ لا تطْلُب الأُنْس بِطاعَتِه ؟ وكيف تعرف قدْر الرِّبْح في مُعامَلَتِه ثمَّ تُعامِلُ غيره ؟ كيف تعرِفُ قدْر غَضَبِه ثمَّ تتعَرَّضُ له ؟ كُلُّ كلمة تُكْتبُ بِماء الذَّهَب ، قال : من أعْجَب الأشياء أنْ تعرفه ثمَّ لا تُحَبَّهُ ، وأنْ تسْمَعَ داعيهِ ثمَّ تتأخَّرُ عن الإجابة ، وأن تعرف قدر الرِّبْح في مُعامَلَتِه ثمَّ تُعامِلَ غيره ، وأن تعرف قدْر غضَبِه ثمَّ تتعرَّضُ له ، وأن تذوق أَلَم الوحْشة في معْصِيَّتِه ثمَّ لا تطلب الأُنْس بِطاعتِه ، وأن تذوق عَصْرة القلب عند الخَوْض في حديث غير حديثه ؛ هذا شيء واضِح أنَّك إذا تَحَدَّثْت في مَجْلس عن الدنيا وعن أسْعار العُمْلات ، وعن أنواع السيارات ، وأسْعار البُيوت تَحُسُّ بالضِّيق وعصْرة القلب ، لأنَّ الحـديث عن غيرهِ مُمْقِت قال عليه الصلاة والسلام :
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّه عَنْه عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَا جَلَسَ قَوْمٌ مَجْلِسًا لَمْ يَذْكُرُوا اللَّهَ فِيهِ وَلَمْ يُصَلُّوا عَلَى نَبِيِّهِمْ إِلَّا كَانَ عَلَيْهِمْ تِرَةً فَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُمْ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُم *
[ رواه الترمذي ]
أحْياناً يسمر الإنسان مع أصْدِقائِه ، فإذا بالسَّهْرة تنْتهي وبَدَنُه مُكَسَّر ! فالحديث كُلُّه كان عن الدنيا.
قال : وأن تذوق عَصْرة القلب عند الخَوْض في حديث غير حديثه ، ثمَّ لا تشْتاق إلى انْشِراح الصَّدْر بِذِكْرِهِ ومُناجاتِه ؛ هذه أيْضاً من عجائِب الدنيا لذلك المؤمن حديثه عن الله دائِماً ، ولا يُسْعِدُهُ إلا الحديث عن الله عز وجل ، ولا يُسْعِدُهُ إلا ذِكْر الله وما والاه .
قال : وأن تذوق العذاب عند تَعَلُّق القلب بِغَيْر الله ، إذا تَعَلَّقْتَ بِغَيْر الله وَجَدْتَ وَحْشَةً ، والإنسان ضعيف ، قد يكون أحْياناً مُتألِّقاً فإذا أقْبَلْتَ على الله شَعَرْتَ بِسَعادة ، وقد يكون غافِلاً وفاتراً فتأتيه مُقْبلا فلا شيء عنده ، أما إذا كنت مع المؤمنين الصادقين فالأمر خِلاف هذا ، والمؤمن الصادِق من ميِّزاته ، لا يُصاحب إلا من هو أعْلى منه ، لا تُصاحب من لا يُنْهِضُكَ حاله ولا يَدُلُّك على الله مقالُه .
قال : وأن تذوق العذاب عند تَعَلُّق القلب بِغَيْره ثمَّ لا تهرب منه إلى نعيم الإقْبال عليه ، سَنَجْمَعُهُنَّ بِكَلمات موجَزة ؛ يجبُ أنْ تُحِبَّهُ وأنْ تسْتجيب إلى داعيهِ وأنْ تُعامِلَهُ ، وألّا تتعَرَّض لِغَضَبِه ، وأنْ تطلبَ الأُنْس بِطاعَتِه وأن تتحَدَّثَ عنه دائِماً ، وأنْ تبحَث عن انْشراح صدْرك بالإقْبال عليه ومُناجاته، وأن تهرب إلى نعيم الإقْبال عليه ، هذا هو مُلَخَّص هذه الكلمات وأعْجَبُ من هذا كُلِّه : عِلْمُكَ أنَّهُ لا بدّ لك منه ، وأنَّكَ أحْوَجُ شيءٍ إليه وأنت عنه مُعْرض وفيما يُبْعِدُك عنه راغِب ؛ ليس لك إلا الله ، والله حَدَّثني البارحة إنسانٌ من بلد بعيد فقال لي : إنَّني في المُستشْفى ، وقد لا أخرج منه ، أوصيك بابني خيراً ، وصار يبْكي على الهاتف ، وهو بِبَلَد أجنبي أصابتْهُ أزْمَة قَلْبِيَّة ، ليس له إلا رحْمة الله ، والله إنه إنسانٌ صالح أعرفُهُ ولا أُزَكي على الله أحداً وأنا أُحِبُّه ، من منا يمْلك ساعة قادِمَة ؟! أتمنى على الإنسان أن يعْرف الله وهو في صِحَّة وقوّة وعافية ويُقْبل عليه ويَخْدُم عباده ، أما عند المرض فالكُلُّ يبْكي ، لكن البُطولة وأنت في الرَّخاء ، أكثر شيءٍ لَفَت نظري قَوْلُ سيدنا عَلِيٍّ : والله لو علمت أنّ غداً أجَلي ما قَدَرْتُ أن أزيد في عَمَلي، وكان يقول أيْضاً والله لو كُشِف الغِطاء ما ازْدَدْتُ يقيناً.
قال : أعْجَبُ من هذا كُلِّه عِلْمُكَ أنَّك لا بد لك منه ، وأنت أحْوَجُ شيءٍ إليه وأنت عنه مُعْرض وفيما يُبْعِدُكَ عنه راغِب .
أحْياناً الإنسانُ يُحِبُّ أن يصِل إلى مَوْضوعاتٍ دقيقة في علاقته مع الله ، هناك كلامٌ سطحي للعَوَام ، أما الإنْسانٌ المُلْتَزِمٌ بالمَسْجد من خَمْسَ عشرة سنة مثلاً فعلاقته بربه متميزة ، هناك مَوْضوعاتٍ دقيقة في علاقتك مع الله يجب أن تضع يدك عليها ؛ من هذه الموضوعات
قال: من فَقَدَ أُنْسَهُ بين الناس ، ووَجَدَهُ في الوحْدة فَهُوَ صادِقٌ ضعيف فإذا كان يصلي وَحْده بكى، وإذا قرأ القرآن تأثَّر تأثُّراً شديداً ، وإذا ذكر الله يتألَّق أما مع الناس فله حال آخر ! فَهُوَ صادِقٌ ضعيف .
قال : ومن وَجَدهُ بين الناس وفَقَدَهُ في الخَلْوة فَهُوَ مَعْلول - هذه مُشْكلة - بين الناس يتألَّق ويأنَسُ، أما في حال الخَلْوة لا يشْعر بِشَيْء ، قرأ القرآن فلم يتأثَّر ، وذكر الله فلم يشعر بِشَيْء، فهذا لَدَيْه عِلَّة ، وإذا كان الإنسان مع الناس لا يسْتطيع أن يتكَلَّم كلمة واحدة ، لكن في خَلْوَتِهِ يتأثَّر ، فهذا جيِّد ولكن ضعيف ، هذا الأُنْس من فَقَدَهُ بين الناس ، وفقده في الخَلْوَة معاً فهو ميِّتٌ مطْرود والله عز وجل قال :
﴿أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ﴾
[النحل : الآية 21]
ومن وَجَدَهُ في الخلوة والناس معاً فَهُوَ المُحِبُّ الصادِقُ القَوِيّ ، فالذي في خَلْوَتِهِ له صِلَة بالله ويتأثَّر و له مشاعر عالية وكذا بين الناس يتألَّق فهذه حالةٌ عالِيَة جداً ، فهذا قَوِيٌّ ومُخْلِص ومَوْصولٌ بالله عز وجل ، هذه أعْلى حالة ، فَصار لدينا أربع حالات : من فقَدَ الأنْس بين الناس ووجَدَهُ في الوَحْدة فهو صادِقٌ ضعيف ومن وَجَدهُ بين الناس وفَقَدَهُ في الخَلْوة فَهُوَ مَعْلول ، ومن فقَدَهُ بين الناس وفي الخَلْوة معاً فَهُوَ ميِّتٌ مَطْرود ، ومن وَجَدَهُ في الخَلْوة والناس معاً فَهُوَ المُحِبُّ الصادق القوِيُّ في حاله ، ومن كان فَتْحُهُ في الخَلْوة لم يكن مزيدُهُ إلا منها ، فإذا كان فَتْحُهُ وإشْراقاتُهُ وتألُّقُهُ في الخَلْوة ، إنْ أراد الزِّيادة فَعَلَيْه بالخَلْوة ، فالذي فُتِحَ عليه بين الناس فَمَزيدُ الفَتْح بين الناس ، والذي فَتَحَ عليه في الخَلْوة فَمَزيدُ الفَتْح في الخَلْوة ، أين صار التألُّق ؟ أردْتَ الزِّيادة فَعَلَيْكَ بِمظانِّها ، هناك من يتألَّق بين المؤمنين ويجود ويتكلَّم بكلام طيِّب فإذا أراد المزيد فعَلَيْه أن يكون بين الناس هكذا دائِماً ، أما هناك إنسان بلغ من الأدب مع الله درجة أنَّهُ لا يرْضى إلا بما أراده الله له ، يجب أنْ تُحِبَّ مُراد الله فيك ، هناك من أقامه بالعِلم وهناك من أقامه بالدَّعْوة ، وآخر أقامه بالعمل الصالح ؛ هذه أبواب إلى الله تعالى كثيرة جداً ، تجد أحْياناً إخوة لهم خَدَمات تفوق حدّ الخيال ، لكن الدرْس لا يقدر على متابعته وليس له قُوَّة الإدْراك لِفَهْم دقائِق الدرْس ، فهذا لا يقِلّ عن أكبر واحد مهتَمّ بالدرْس ، فهؤلاء كُلُّهم عباده ، وكلّ واحد يُقَرِّبُه من زاوية ، فهذا بِماله وذاك بِعِلْمِه وذاك بِذكائِه والآخر بِجاهِه ، فالطرائِق إلى الخلالق بِعَدد أنْفاس الخلائِق .
قال : ومن كان فَتْحُهُ في وُقوفه مع مراد الله حيْث أقامه ، أيْ أقامِكَ مُتَفَرِّغاً أو أقامَكَ غير مُتَفَرِّغ، مثلاً أقامَكَ بِلا أوْلاد ؛ فهذا مُرادُ الله ، أحد إخْواننا جاءَهُ مَوْلود بِعَمَلِيَّة وِلادة صَعْبة فتأذى هذا المَوْلود بِدِماغِهِ فصار عنده حالة اضْطِراب كُلّ دقيقتَيْن ، فأوَّل طبيب قال : هذه أذية ثابتة ومُتنامِيَة وهذا الطِّفْل مصيرُهُ أعْمى أو مَشْلول أو مَجْنون ، وكذا الطبيب الثاني والثالث فأبوهُ رَكِبَهُ الهَمّ وقال : والله أتمنى لو وُلد ميِّتاً ، فَمَرَّةً كان مُنْقَبِض الصدْر بهذا الكلام فألْهَمني الله كلمَةً قُلْتُها له : الذي تُحِبُّهُ هو الله وهذه هي إرادَتُه ألا تَحْتَرِمُها ؟! أحْياناً المؤمن يصِل إلى حالة مع الله يحْترم إرادة الله عز وجل ، هذه مشيئة الله ، سبحان الله بعد شَهْر اِلْتَقَيْنا بِطَبيب فقال هناك مجال للشِّفاء إن شاء الله وكُنتُ مع والد الطفل ، طلب تَصويراً وتحْليلاً وأعْطاهُ أدْوِيَة وبعد فَتْرة كأنّ لم شيئاً يكن ، وهو الآن بالأزْهر يدْرس فأنت ما عليك إلا الرِّضى والله بِيَدِهِ الخير وهو على كُلُّ شيء قدير.
قال : ومن كان فَتْحُهُ في وُقوفه مع مراد الله حيْث أقامه ، وفي أيِّ شيءٍ استَعْملهُ كان مزيدُه في خلْوته ومع الناس ، المُهِمّ أن ترضى بما أقامك الله به ، لكن أنصحُ كُلَّ أخٍ إذا أقامه الله بالحقّ ، وأقامه في الدَّعْوة والعمل الصالح أن يشْكر الله ، فإذا أردْتَ أن تعرف مقامك فانْظر إلى ما اسْتَعْمَلَك فيه .
إنسان بنى مسْجداً وافْتَتَحَهُ ، وآخر بنى مَلْهى وافْتَتَحَهُ ، إنسان يُعَيّن إماماً وآخر يعين راقِصَاً أو مهرجاً ، دائِماً انظر كيف اسْتَعْمَلَك الله ، والدعاء الشريف اللهم ارْزُقني طيِّبا واسْتَعْملني صالحاً .
قال : أشْرف الأحْوال ألّا تخْتار لِنفسك حالةً سِوى ما يخْتارُه لك الله عز وجل ، هناك من إذا مات ابنه نقم على الله ، أعرف رجُلاً داومَ بالمساجد عشرين سنة ، له ابن تُوُفي فإذا به ترك الصلاة ، فهذا نبيُّنا وقد مات ابنه ابراهيم فقال :
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِي اللَّه عَنْه قَالَ : دَخَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَبِي سَيْفٍ الْقَيْنِ وَكَانَ ظِئْرًا لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَام فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِبْرَاهِيمَ فَقَبَّلَهُ وَشَمَّهُ ثُمَّ دَخَلْنَا عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِبْرَاهِيمُ يَجُودُ بِنَفْسِهِ فَجَعَلَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَذْرِفَانِ فَقَالَ لَهُ عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ رَضِي اللَّه عَنْه وَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ يَا ابْنَ عَوْفٍ إِنَّهَا رَحْمَةٌ ثُمَّ أَتْبَعَهَا بِأُخْرَى فَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ الْعَيْنَ تَدْمَعُ وَالْقَلْبَ يَحْزَنُ وَلَا نَقُولُ إِلَّا مَا يَرْضَى رَبُّنَا وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ رَوَاهُ مُوسَى عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ المُغِيرَةِ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِي اللَّه عَنْه عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ*
[ رواه البخاري ]
هذا هو الموقف النبوي الشريف فأشْرف الأحْوال ألّا تخْتار لِنفسك حالةً سِوى ما يخْتارُه لك الله عز وجل فَكُن مع مُرادِهِ منك ، ولا تكن مع مُرادك منه ، (فإذا سَلَّمْتَ لي فيما أُريد كَفَيْتُكَ ما تريد، وإنْ لم تُسَلّم لي فيما أريد أتْعَبْتُك فيما تُريد ثمَّ لا يكون إلا ما أريد) أرْوَعُ شيء بالإسلام هذا الاسْتِسْلام لله عز وجل ، مرَّةً قال لنا أستاذ بالجامعة في كُلِيَّة الترْبِيَة وقد حضر مؤتمرَ طِبٍّ نفْسي في أوروبا: قال بِبَساطةٍ ليس عندنا أمْراض نفْسِيَّة بالمعنى الوبائي وذلك بِسَبب الإيمان ، فالإنسان المسلم يؤمن أنَّ الله عز وجل هو الذي اخْتار له هذا ، وهو راضٍ عن الله ، قال له : يا رب هل أنت راضٍ عنِّي ؟ وكان وراءهُ الإمام الشافِعي فقال له : وهل أنت راضٍ عنه حتى يرْضى عنك ، فقال له يا سبحان الله من أنت ؟! فقال : أنا محمّد بن إدْريس ، فقال له : كيف أرْضى عنه وأنا أتمنى رِضاه؟ قال له إذا كان سُرورك بالنِّقْمة كَسُرورك بالنِّعْمة فقد رضيتَ عن الله ، فالبُطولة أنْ ترْضى بِمَكْروه القضاء أما أنْ ترضى بِمَيْسور القضاء ، فأنت لا تحْتاج إلى بُطولة فإذا كان الإنسانُ غَنِياً وقال لك: الله مُيَسِّرُها ، فقد لا يكون له جزء من الإيمان ! فالبطولة أْن ترْضى عن الله وأنت في مُشْكلة ، لأنَّ هذه المُشْكلة امْتِحانٌ لك ، ولا أحد يُجَرِّب السيارة بالنزول ، ولكن بالطلوع . والحُزْن خلاق أمااللذائذ فلا تصْنعُ بَطَلاً ، أما الحُزْن فَيَصْنَعُها قال : كن مع مٌراده منك ، ولا تكن مع مُرادك منه.
أيها الإخوة ، آخر موضوع ، قال : ما أخذ العَبْدُ ما حُرِّمَ عليه إلا من جِهَتَيْن ، وهذه فلْسَفَةُ المعْصِيَة ، الإنسان متى يعْصي الله ؟ كيف يُقَصِّر في بعض الواجبات ؟ كيف يأخذ ما ليس له ؟ قال : ما أخذ العَبْدُ ما حُرِّمَ عليه إلا من جِهَتَيْن ؛ إحداهما : سوء ظَنِّهِ بِرَبِّه ، وأنَّهُ لو أطاعه وآثره لم يُعْطِهِ خيراً مما تركه ، يتوَهَّم أنَّ سعادَتَهُ بِهذه المعْصِيَة ولو أطاع الله لم يكن سعيداً وهذا هو مُنتهى الجهْل وهو أنَّك تتوهَّم أنَّك تخْسر بالطاعة وترْبحُ بالمعْصِيَة فالإنسان الجاهل يظنُّ أنَّهُ إذا غضَّ بصره ينْحرم بالتمتُّع بِمَنْظر الحَسْناوات ، والذي يُطلق بصره أكثر اسْتِمْتاعاً منه ، مع أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام قال :عَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ
مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَنْظُرُ إِلَى مَحَاسِنِ امْرَأَةٍ أَوَّلَ مَرَّةٍ ثُمَّ يَغُضُّ بَصَرَهُ إِلَّا أَحْدَثَ اللَّهُ لَهُ عِبَادَةً يَجِدُ حَلَاوَتَهَا *
[ رواه أحمد ]
قلتُ لأخٍ منذ يومين كُلُّ من غضَّ بصره عن امرأة لا تَحِلُّ له يكون مثل من وضع ليرة ذهب في صُندوق ، ثم تفتحُ هذا الصندوق يوم زواجِك ، فالله تعالى يُعَوِّضُكَ أضْعافاً مُضاعَفَة ، إنسان يضْبط نفْسه قبل الزواج هل يستوي مع من أطلق بصره قبل الزواج ؟ أنا أقول كلمات أرْجو أنْ تكون واضِحَة لديكم ، هل يسْتوي الذي يغُضُّ بصره مع الذي يُطلقُهُ ؟ هل يستوي الصادق مع الكاذب ، والمُحْسِن مع المُسيء ، والورِع مع المُتَفَلِّت أو المُنْصِف مع الظالم ، والمُستقيم مع المُنْحرف ؟ هل يستوي هذان النموذجان؟ هذا لا يتناقض مع عدالة الله بل يتناقض مع وُجوده ، إذا كنت مؤمناً به تعالى لن يكون الذين اجترح السيِّئات كالذين آمنوا وعملوا الصالحات ، مُستحيل أنْ تُطيعَهُ وتخْسر وأن تعْصِيَهُ وترْبح ، فقد تُسْتَدْرج فالعاصي يصْعد صُعوداً حاداً ثمَّ يسْقط سقوطاً مُريعاً ، أما المؤمن فَيَصْعد صُعوداً مُسْتَمِراً ، قال تعالى :
قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51)
[التوبة الآية 51]
ذكر لي أحد الإخوة الكرام وكان أبوهُ عالِماً جليلاً توفي رحمه الله : قال قبل وفاتِهِ بِأيامٍ كان يتكلَّم وَحْده بالليل ، فَخِفْتُ أنْ يكون قد حدث معه شيء بِعَقْلِه ! فقال له : قد ألَّفْتَ يا أبي كتاباً موضوعه كذا فأكْمل له أبوه ما تبقى والموضوع كذا فأتَمَّهُ ، بعدما انتهى قال له : إنَّ أباك بِخَيْر يا ابني - وهذا من شِدَّة ذكائِهِ - يمكن أنَّهُ رأى بعض الملائِكَة ، فالإنسان قبل وفاتِهِ لِكرامَتِهِ عند الله يُلْقي في روعِهِ أنَّ اللِّقاء قد اقْتَرَب ، وتأتيه الملائِكَة بأحبِّ الناس إليه فقال له يا ابني الذي يُعَلِّمُ العِلْم يحْفَظُهُ الله ، وأكبر كرامة للإنسان أنَّهُ إذا أمْضى شبابه بِطاعة الله يكون له خريف عُمر مُتألِّق جداً. وكذلك والله حَدَّثني أحدهم عن أحد علماء دمَشق رحمهم الله : كان عمرهُ يُناهز التسعين ولا يزال مُتألِّقاً ، اشْترى قبراً قبل خمس سنين من وفاته ، وكُلّ خميس كان يأتي إلى هذا القبر لعلمِهِ أن هذا بيتُهُ الأخير!
وسمِعْتُ عن رجُلٍ صالح تُوُفي قبل أيام ، قبل أسبوعَين نزل بِقَبْره ، وجمع عظام والدِه، ومدَّ في القبر رمل مزار وقال : هكذا أرْيَحُ لي ، ثمَّ بعد أسبوعَين تُوُفي! هذا القبْر مصير كُلِّ إنسان ويغْدو رَوْضة من رِياض الجنَّة بالعمل الصالح ، والعِبْرة أنْ تُقَدِّم شيئاً لله كي تكون لك الراحة النَّفْسِيَّة ، والقبر صُندوق العمل.
أوَّلُ سبب للمعصية أن تسيء الظنّ بِرَبِّك ، وتعتقد أنَّك إنْ أطَعْتَهُ وآثرتهُ على غيره خَسِرْتَ والأمر الثاني أنْ تكون عالِماً بذلك ولكن تغْلب شَهْوَتَك صَبْرك ، وهواك عقْلك ، فالأوَّل من ضَعْف عِلْمه والثاني من ضعْف صَبره ما ترك عبدٌ شيئاً لله إلا عَوَّضَهُ الله خيراً منه في دينه ودُنْياه ، أي أنّ كُلّ إنسان صَبَر عن الحرام منَحَهُ الله الحلال ، وقال بعض العلماء في نهاية المطاف : إذا اجْتَمَع قلبُك على الله ، وقَوِيَ رجاؤُك فيه فلا يكادُ يُرَدُّ دُعاؤُك ، ومن كرامة المؤمن على الله أن يكون مُسْتجاب الدَّعْوة .